استيقظت الطفلة النازحة، زينب علي أصغر (9 سنوات)، باكراً لتهيئ الأطباق وعلب الماء وأقداح الشاي، وتركض الى الخيمة التي يبيت فيها أبوها وأخوتها، ليؤدي كل منهم واجبه الذي كلف به في اجتماعهم العائلي، الذي عقد قبل بدء مراسيم الزيارة الأربعينية، لخدمة زائري كربلاء، القادمين من محافظات الوسط والجنوب، مرورا بالديوانية.
موعود : زينب التي كانت ضجرة من سكنها مع أسرتها في أحد المواكب الحسينية بعد نزوحهم من الموصل، صارت اليوم مسرورة لأنها تشاهد منظراً لم تره في السابق، وهو الملايين من الزائرين متوجهين الى مرقد الحسين في كربلاء، في إحدى أهم الزيارات الدينية لدى المسلمين الشيعة.
ونقلت وكالة “المدى برس” عن الطفلة زينب، إن ” الأيام الماضية كانت مملة جداً، لدرجة أنني وأخوتي لم نكن نرغب حتى باللعب مع بعضنا، وصرت أفتقد صديقاتي وأشتاق لهن، وأتحسر حين أذهب الى المدرسة وكلي أمل أن أشاهد واحدة منهن أو أسمعها، بعد أن هجرنا الدواعش من منازلنا ومدننا، ذهبت كل أسرة تبحث عن ملجأ، وجاءت أسرتي الى الديوانية، واتخذنا من حسينية الصحابي مالك الأشتر سكناً لنا”.
وتوضح الطفلة أن “الأيام تمر طويلة علينا، وسرعان ما تغير الحال، ولم نعد نشعر بالساعات وهي تمضي، فمع قدوم أول طلائع الزائرين من محافظات الجنوب، حتى تبدل كل شيء، في بادئ الأمر لم افهم اين يذهب هؤلاء الناس، فسألت أبي فأخبرني عن المراسيم وسبب مسير هذه الأعداد، خلال وضعه خطة لتقسيم الواجبات علينا لنساهم مع أصحاب المواكب في خدمة الزائرين”.
وتبيّن زينب، “بدأت أنهض باكراً وأغسل الأطباق التي كنت قد غسلتها في المساء أصلاً، وأهيئ علب الماء وأقداح الشاي، وأركض الى الخيمة التي أمام الموكب لأوقظ أبي وأخوتي، ليفطر الجميع ويذهب كل واحد لأداء واجبه”، وتشير إلى أن “الليلة الأولى باتت فيها عندنا عدد من الزائرات القادمات من أبو الخصيب في البصرة، لم أنم فيها، كنت اذهب مسرعة بين حين وآخر لأتم عملي، لأعود وأستمع الى أحاديثهن وما حصل في الطريق وكيف يستقبل الناس حشود الزائرين وكيف يتبارون من أجل تقديم أفضل الخدمات لهم”.
وتؤكد الطفلة أن “شعوراً بات يلازمني، أحس بأني كبرت كثيراً، وسأذهب مع أسرتي عندما ينتهي مرور الزائرين من هنا، وسنعيش اللحظات التي يشعر بها الزائر حين يسمع الترحاب من أصحاب المواكب”.
ولم يقتصر شعور الفرحة والغرابة عند زينب وحدها بل امتد الى أمها، التي اكتفت بساعتين من الليل نوماً، لتنهض باكراً لتشعل تنورها وتعد الشاي والفطور، لمن بات معهم في الحسينية من النسوة الزائرات، لتقارن بين عدد من كان يذهب الى مقام (خضر الياس)، في الموصل لأداء مراسيم الزيارة الأربعينية، وبين الحشود التي تمر بموكبهم يومياً.
وتقول النازحة أم زينب، في حديث الى (المدى برس)، إن “صاحب الموكب سألنا قبل أيام ان كنا مستعدين للمشاركة معهم في خدمة الزائرين واستقبالهم، وبناء خيمة لنبقى في مكاننا، على أن نقسم المكان الى اثنين، نسكن واحداً والآخر لتبات فيه النسوة القادمات من المحافظات لأداء مراسيم الزيارة الأربعينية، فوافقنا على الفور أسوة بإخوتنا النازحين”.
وتوضح النازحة “كنت أتصور أن الأعداد قليلة كما كنا نشاهده عندما نذهب لإحياء الذكرى في مقام (خضر الياس)، بمدينة الموصل، لم يكن يزيد عن بضع مئات متفرقة هنا وهناك، والخدمات قليلة، وما نقدمه لا يتعدى العصائر أو الفواكه”.
وتزيد أم زينب، “بات عندنا في أول يوم (17)، زائرة من محافظة البصرة، بقينا نستمع لأحاديثهن عن الطريق، وما يفعل أصحاب المواكب من أجل التسابق الى تقديم الأفضل، كانت تلك الأحاديث كافية لتشعل في نفسي بذل ما استطيع من أجل خدمة الزوار، وصرت اكتفي بساعتين من النوم، لأشعل التنور وأخبز لهم الخبز الحار، وأطبخ ما يأتينا به صاحب الموكب من مواد غذائية إفطاراً وغداء وعشاء الى الزائرين، كنت أتعب من العمل لأني لم أتعوده، لكن متعة حقيقية سيطرت على ذلك الجهد وأبعدت عني التوجع أو الشعور بأي ألم”.
أصحاب المواكب الحسينية لم يشاءوا، إخراج النازحين من مواكبهم، فعمدوا الى بناء سرادق وخيم أمام المواكب تقدم الخدمات في النهار، وفي المساء يأخذون الزائرين ويوزعونهم بين البيوت.
ويقول صاحب موكب طريق الجنان، رحيم عبد الزهرة الجليحاوي، في حديث الى (المدى برس)، إن “المهجرين من محافظة نينوى سكنوا في الموكب، ومع برد الشتاء وخوفاً على الأطفال النازحين، قررنا شراء السرادق والخيم، أو استئجارها من السوق خلال أيام استقبالنا لحشود الزائرين”.
ويتابع الجليحاوي، أن “تقاعس الحكومات المحلية والمركزية، وعدم التزامها تجاه النازحين بتوفير أماكن سكن ملائمة في مجمعات أو كرفانات كانت قد أعلنت عنها، اضطرنا الى أن نوفر لهم حاجاتهم الإنسانية والمواد الغذائية، ونقتسم معهم مبان المواكب، مناصفة للنازحين والزائرين”.
لم يقتصر دور النازحين على تقديم الخدمات في المواكب التي يسكنوها الى الزائرين فحسب، بل تطوع عدد من الرجال والنساء للمشاركة مع الأجهزة الأمنية والاستخبارية، لتأمين حماية الزائرين من مخططات قد تستهدفهم أثناء مسيرهم.
ويقول قائد شرطة الديوانية، اللواء عبد الجليل الأسدي، في حديث الى (المدى برس)، إن “الديوانية تشكل مركز التقاء الزائرين لقادمين من محافظات الوسط والجنوب، وهي مفترق الطرق لمحافظتي النجف وكربلاء، اللتين يسلكهما الزوار، الأمر الذي استوجب إعداد خطة محكمة بالتنسيق مع قيادة عمليات الفرات الأوسط، تشرف عليها اللجنة الأمنية العليا واللجنة الأمنية في مجلس المحافظة”.
ويوضح الأسدي، أن “الخطة شملت عدة صفحات كانت أهمها الاستباقية، باعتماد المعلومات الاستخبارية، التي أكدت خلو المحافظة من أي خلايا إرهابية أو مجاميع مسلحة قد تعكر صفو الأمن، كما تضمنت تفتيش الطرق والساحات والمحاور التي يمر بها الزائرون”، ويبيّن أن “إجراءات حازمة اتخذت لمنع حيازة وتوزيع الأدوية إلا من خلال المفارز الطبية التابعة الى دائرة صحة المحافظة حصرا، إضافة الى منع توزيع الأطعمة والمشروبات خارج المواكب”.
ويضيف قائد الشرطة، أن “الخطة الأمنية تضمنت نصب كمائن متحركة على الطرق النيسمية، وإشراك الأسر النازحة التي تتخذ من المواكب الحسينية سكناً لها، وتعين عدد من أفرادها كمزودي معلومات الى أرقام هواتف خاصة بجمع المعلومات، إضافة الى تخصيص قوة احتياط لمعالجة الحالات الطارئة”.
ويلفت الأسدي، الى “دعوة الناشطات ونساء المحافظة الى التطوع لتفتيش الزائرات لدعم وإسناد الشرطيات في مفارز ونقاط التفتيش، بعد دراسة جميع الخيارات التي قد يلجأ الإرهابيون اليها في محاولة استغلال النساء وزجهن بين الزائرين لتحقيق أهدافهم”.
وتعد زيارة الأربعين إحدى أهم الزيارات للمسلمين الشيعة حيث يخرج المسلمون الشيعة من محافظات الجنوب والوسط أفرادا وجماعات مطلع شهر صفر مشيا إلى كربلاء، فيما تستقبل المنافذ الحدودية والمطارات مسلمين شيعة من مختلف البلدان العربية والإسلامية للمشاركة في زيارة أربعينية الإمام الحسين (ع)، ثالث أئمة الشيعة الاثني عشرية، ليصلوا في العشرين من الشهر ذاته، الذي يصادف زيارة (الأربعين) أو عودة رأس الحسين ورهطه وأنصاره الذين استشهدوا في معركة كربلاء التاريخية عام 61 للهجرة، وكان النظام البائد منع من ممارسة هذه الشعيرة الاسلامية فترة حكمه الظالم.