تنشغل مصر عن بكرة ابيها هذه الايام باستفحال ظاهرة “التحرش الجنسي” على ضوء الجريمة التي وقعت في ميدان التحرير في يوم تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية.
الجريمة البشعة تجسدت في اقدام مجموعة من الشبان على اغتصاب فتاة وسط الميدان، وتعريتها من معظم ملابسها امام مئات الآلاف من المحتفلين، واعين رجال الشرطة الذين وقفوا يتفرجون وكأن الامر لا يعنيهم، وهذا قمة الاستهتار وانعدام الشهامة والرجولة.
كيف يتم اغتصاب هذه الفتاة في ميدان عام يكتظ بالبشر ولا يتدخل احد لانقاذها من براثن هؤلاء الضباع امر محير للعقل، ولكن كل شيء جائز في مصر هذه الايام ولا شيء يثير الغرابة والعجب فيما يبدو.
الرئيس عبد الفتاح السيسي زار الفتاة المغتصبة في المستشفى الذي تعالج فيه من جروحها الجسدية والنفسية حاملا باقة من الورد في لفتة تنطوي على الكثير من المعاني، واعدا اياها، ووالدتها، بارسالهما الى مكة المكرمة والمدينة المنورة واداء مناسك العمرة على نفقة الدولة، ومتوعدا المجرمين بتقديمهم الى العدالة وتلقي العقاب الذي يستحقون وفق القوانين المرعية.
اللجوء الى العقوبات الجزائية الرادعة في حق المتحرشين امر مشروع وحتمي، ولكنه لا يكفي وحده ومن الصعب ان يقضي على هذه الظاهرة الخطيرة التي لا نعرف كيف تم الصمت والتستر عليها طوال السنوات الماضية حتى وصلت الى هذه الدرجة من الخطورة.
فعندما يكشف تقرير للامم المتحدة ان حوالي 99 بالمئة من نساء مصر تعرضن للتحرش الجنسي باشكاله كافة، اللفظي والجسدي، فهذا يعني ان المسألة ليست مسألة اهمال وصمت فقط، وانما مسألة تواطؤ ايضا من قبل اجهزة الدولة طوال العقود الماضية واحتقاره للمرأة وحقوقها، وعدم الانتصار لها في مواجهة هذه الآفة الخطيرة واخرى مماثلة.
لا بد من التأكيد، ونحن نتناول هذه الظاهرة ليس في مصر وحدها وانما في مختلف الدول العربية، بان جذورها اقتصادية وسياسية واجتماعية قبل ان تكون تربوية واخلاقية بالتالي، فعندما يكون هناك حوالي عشرين مليون عاطل عن العمل تحت سن الخامسة والثلاثين من شباب مصر بسبب فساد الدولة واجهزتها، ونهب المال العام واحتكار الثروات العامة من قبل حفنة محدودة من رجال الاعمال يمثلون اقل من خمسة في المئة من الشعب، فان هذا يخلق حالة من اليأس والاحباط في اوساط هؤلاء الشباب ويدخلهم دفعا نحو الانحراف الاخلاقي خاصة اذا كانوا غير محصنين دينيا وتربويا.
فاذا كان الشاب المصري لا يجد الوظيفة، وان وجدها فان مدخولها المادي محدود ولا يكفي للاقدام على الزواج وتحمل متطلباته الباهظة، واولها العثور على بيت الزوجية، فان هذا يخلق حالة من الكبت والاحتقان الجنسي يمكن ان ينفجر في بعض الاحيان في اعمال التحرش هذه.
الاحصاءات شبه الرسمية تقول ان الغالبية الساحقة من الزيجات في مصر تتم فوق سن الاربعين، اي متاخرة اكثر من عشرين عاما على الاقل بالنسبة الى الذكور (الاناث بدرجة اقل)، وهذا وضع غير صحي يفرز امراضا اجتماعية ونفسية واخلاقية غريبة عن البيئة المصرية المحافظة دينيا واخلاقيا.
جريمة اغتصاب هذه الفتاة في ميدان التحرير قرعت الجرس، وفتحت اعين جميع المؤسسات والهيئات في مصر على ظاهرة التحرش هذه بكل جوانبها المأساوية، والمطلوب من هذه المؤسسات ان تتحمل المسؤولية الاكبر لمواجهتها، وخاصة المؤسسات والهيئات الدينية منها، فكيف تفوز التيارات الاسلامية باكثر من 76 بالمئة من مقاعد البرلمان المنحل، اي بتمثيل ثلاثة ارباع المجتمع المصري، ونكتشف في الوقت نفسه ان 99 بالمئة من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي؟ فمن المفترض ان تكون عملية التوعية الدينية والاخلاقية وقبل السياسية من صميم عمل هذه التيارات الاسلامية على مختلف انتماءاتها.
نحن هنا لا نعفي الحكومة واجهزتها الامنية والقضائية والتربوية من مسؤوليتها عن استفحال هذه الظاهرة وضرورة التصدي لها ومواجهتها ومجرميها بالحزم المطلوب، واصلاح المجتمع تربويا ودينيا لتطويقها والقضاء عليها في مهدها، وتربية النشأ على الاخلاق الحميدة، واخيرا تهيئة الظروف الاقتصادية لايجاد الوظائف للشباب العاطل عن العمل ومساعدته واقرانه على الزواج في السن الملائم بتوفير السكن الملائم.
نؤكد مرة اخرى اننا لا نعمم هنا وندرك جيدا، ان الغالبية العظمى من شباب مصر ونسائها على درجة عالية من التدين والتحلي بالاخلاق الرفيعة والتمسك بهما، وهؤلاء الذين يقدمون على جرائم التحرش يظلون اقلية منحرفة لا تمثل الشعب المصري واخلاقياته، ولكنها اقلية تسيىء لهذا الشعب وبلده، ولا بد من مواجهتها وكسر شرورها وتحصين المجتمع من جرائمها وممارساتها الدينية والاخلاقية.
المصدر : موقع “راي اليوم”