هناك صنفان من الذين كتبوا عن البداء عند الشيعة من غير علماء الشيعة, صنف يهتم بالحياد ونشر الحقيقة كاملة عند استعراض الآراء والعقائد كما هي, اعتمادا على كتب الذين يتبنون تلك الآراء والعقائد, ولا ينقل ذلك من مصادر خصومهم, وصنف آخر يتعمد التزوير والتحريف ونقل النصوص ناقصة لكي يسيء إلى عقائد الآخرين زورا وظلما وبهتانا, مثله مثل الذي ينقل من قول المسلم (لا إله إلا الله) الجزء الأول منه (لا إله) ليقول عنه بأنه كافر ملحد, بينما ينقل من يبغي الحقيقة كاملة النص كاملا (لا إله إلا الله).
مثلا جاء في ص 200 من الكتاب الذي ألفه محمد البنداري عن (التشيع) ما نقله عن ص 288 من الجزء الثاني من كتاب (الاحتجاج) للطبرسي ما جاء في التوقيع عن الإمام القائم (ع) بأنه (ع) يتبرأ ممن يقول إن الأئمة يعلمون الغيب ويشاركون الله في ذلك وفي ملكه. ولكن للتوقيع تكملة في ص 289 منه وذلك قوله (ع): نتبرأ ممن يحلنا محلا سوى المحل الذي رضيه الله لنا وخلقنا له.
أي أن هناك منزلة للأئمة (ع) رضيها الله لهم, وقد أوضح الإمام القائم (ع) ذلك في توقيع آخر خرج منه, أهمله المؤلف تعمدا, تضمن توضيح منزلة الأئمة (ع) عند الله تعالى, فقد جاء في ص 285 من نفس الجزء من الكتاب المذكور: وأما الأئمة عليهم السلام فأنهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم وإعظاما لحقهم. وورد كذلك في (الغيبة: 178).
فهل خفي هذا النص عن البنداري, أم تعمد عدم نقله؟ أليس هو مسلما والإسلام يأمره بقول الحقيقة ولو على نفسه؟ أمن أصول البحث العلمي الحديث أن يتعمد ذلك أو يجهله؟ إن الأمثلة من كتابه وكتب الآخرين الذين أساءوا إلى التشيع كثيرة, وقد اعتمدنا في هذه الدراسة نموذجا واحدا من أقوال الصنف الأول, كما اعتمدنا أقوال البنداري في كتابه عن التشيع نموذجا من نماذج الصنف الثاني للإطلاع على آراء غير الشيعة عن البداء مع أقوال المسلمين (الشيعة وغير الشيعة) عن مفهوم البداء وإن اختلفت الأسماء.
إن المحو والإثبات نص عليه القرآن الكريم ولا يجوز لمسلم إنكاره أو نفيه, ولكن الشيعة يسمون ذلك (البداء), كما إن أحداث يوم القيامة قد أكد وقوعها القرآن الكريم, ولكن المسلمين يسمون ذلك (المعاد), ففي الحالين اختلف اللفظ في تسمية مفهوم واحد, ولكن اتفق المعنى. فالمحو والإثبات هو نفس مفهوم البداء, ويوم القيامة هو المعاد. فإلى الذين يبغون الإطلاع على الحقيقة بعيدا عن التزوير والتحريف والبهتان, نقدم هذه الدراسة آملين أن يستفاد منها القراء من أجل إزالة الخلافات بين المسلمين وعدم الطعن في عقائد الفرق الإسلامية لمجرد الاختلاف في الأسماء لمفهوم عقيدة واحدة.
والله من وراء القصد وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
البداء في القرآن والسنة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ الرعد:39
للهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ الروم: 4
وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ الزمر: 47
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون الزمر: 48
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون الجاثية: 33
وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ فاطر: 11
(الدر المنثور: 4/661) عن علي (ع) بأنه (ع) سأل رسول الله (ص) عن الآية (الرعد: 39) فقال (ص): لأقرن عينيك بتفسيرها, ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد العمر ويقي مصارع السوء. (الجامع الصحيح للبخاري: 4/112) عن أبي هريرة قال: سمعت النبي (ص) يقول: من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه. وفيه (3/168): عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) إن الصدقة لتطفي غضب الرب وتدفع عن ميتة السوء.
وفي (العقد الفريد: 3/218): قال النبي (ص): الدعاء سلاح المؤمن, والدعاء يرد القضاء, والبر يزيد في العمر. وقالوا: الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد. وقال النبي (ص): استقبلوا البلاء بالدعاء, وقال الله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ), غافر: 60, ورواه الترمذي في (جامعه الصحيح: 2/13).
وفي (صحيح البخاري: 2/194) عن أنس قال بما موجزه: قام رجل فقال: يا رسول الله ادع الله أن يسقينا, فتغيمت السماء ومطرنا حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله, فلم تزل تمطر إلى الجمعة المقبلة, فقام ذلك الرجل (أو غيره) فقال: ادع الله أن يصرفه عنا فقد غرقنا, فقال (ص): آلهم حوالينا ولا علينا, فجعل السحاب يتقطع حول المدينة ولا يمطر أهل المدينة.
في (تفسير الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري: 386 وما بعدها, بإيجاز وتصرف): عن الإمام أبي محمد (ع) قال: بعد نزول الآية المباركة:
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ البقرة: 144
جاء قوم من اليهود إلى رسول الله (ص) فسألوه إن كانت القبلة إلى بيت المقدس حقا فقد تركته إلى باطل, فإن ما يخالف الحق باطل, أو كانت باطلا, فقد كنت عليه طول هذه المدة (14 سنة صلى خلالها الرسول (ص) إلى بيت المقدس), فما يؤمننا أن تكون إلى الآن على باطل؟ فقال رسول الله (ص): بل ذلك كان حقا, وهذا حق, يقول الله:
قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ البقرة: 142
إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به, وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به, وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به, فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم.
ثم أعطاهم مثالا من عملهم يوم السبت فسألوه إن كان بدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حين نقلك إلى الكعبة؟ فقال (ص): ما بدا له عن ذلك, فإنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح, لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم, جل عن ذلك, ولا يقع أيضا عليه مانع يمنعه من مراده, وليس يبدو إلا لمن كان هذا وصفه, وهو عز وجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا.
بعدما ذكر (ص) لهم بعض الأمثلة وتوضيح صلاح الحالين قال (ص): يا عباد الله أنتم كالمريض, والله رب العالمين كالطبيب, فصلاح المريض فيما يعلمه الطبيب ويدبره به, لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه, ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين.
ثم سئل الإمام (ع) عن السبب في الأمر بالقبلة الأولى؟ فقال (ع): لما قال الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا- وهي بيت المقدس- إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ البقرة: 143
إلا لنعلم ذلك منه موجودا, بعد أن علمناه سيوجد.
وذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة, فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفه بإتباع القبلة التي كرهها, ومحمد يأمر بها, ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس, أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليتبين من يوافق محمدا فيما يكرهه, فهو مصدقه وموافقه.
في (الأصول من الكافي: 1/146- 149): اخترنا الأحاديث التالية:
عن زرارة عن أحدهما (ع) قال: ما عبد الله بشئ مثل البداء. عن أبي عبد الله (ع) قال: وهل يمحى إلا ما كان ثابتا, وهل يثبت إلا ما لم يكن. عنه (ع) أيضا قال: ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية, وخلع الأنداد, وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء.
عن أبي جعفر (ع) قال: العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه, وعلم علمه ملائكته ورسله…..الخ, وعنه (ع) قال: من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء, ويؤخر منها ما يشاء. وعن أبي عبد الله (ع) قال: ما بدا لله في شئ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له. وعنه (ع) أيضا قال: إن الله لم يبد له من جهل.
سئل أبو عبد الله (ع): هل يكون اليوم شئ لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال (ع): لا, من قال هذا فأخزاه الله, ثم سئل: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة, أليس في علم الله؟ قال (ع): بلى, قبل أن يخلق الخلق. وعنه (ع) قال: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا في الكلام فيه. وعنه (ع) قال: إن الله عز وجل أخبر محمدا (ص) بما كان منذ كانت الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا, وأخبره بالمحتوم من ذلك واستثنى عليه فيما سواه.
عن الرضا (ع) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء. عن أحدهم (ع) قال في حديث طويل جاء فيه: فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء, وفيما أراد لتقدير الأشياء, فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
وفي نفس الكتاب أعلاه (2/ 466- 469) اخترنا الأحاديث التالية:
عن أبي عبد الله (ع) قال لميسر بن عبد العزيز: يا ميسر, ادع ولا تقل أن الأمر قد فرغ منه, إن عند الله عز وجل منزلة لا تنالها إلا بالمسألة, ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئا, يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلا أن يوشك أن يفتح لصاحبه.
عن أبي الحسن (ع) قال: إن الدعاء يرد ما قدر وما لم يقدر, فسئل: ما قدر قد عرفته, فما لم يقدر؟ قال (ع): حتى لا يكون. عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء, وقد أبرم إبراما.
أما في موضوع صلة الأرحام, فقد اخترنا مما نقله الكليني الرازي في كتابه أعلاه (2/ 150) ما يلي:
عن الرضا (ع) قال: يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة, ويفعل الله ما يشاء. عن أبي جعفر (ع) قال: صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسر الحساب وتنسئ في الأجل.
ونقل السيد الخوئي ضمن كلامه عن البداء في (البيان في تفسير القرآن: 407- 417) بعض الأحاديث من كتب الحديث اخترنا منها ما يلي:
عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة, فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا, أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي أراده. عن أبي جعفر (ع), وغيره من الأئمة (ع), قال: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) – الدخان:4- أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل, وما يكون في تلك السنة, وله فيه البداء والمشيئة, يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء.
عن الإمام علي (ع), وغيره من الأئمة (ع), قال: لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة, وهي (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ). عن أبي عبد الله (ع) قال: من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شئ لم يعلمه أمس فأبرءوا منه. عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء, و(يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ – ما يشاء – وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). وقال (ع): فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه, ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه. إن الله لا يبدو له من جهل.
عن أبي عبد الله (ع) قال: إن ذلك في الكتاب, كتاب (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ), فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء, وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء, حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا. عن الرضا (ع) عن أبائه عن أمير المؤمنين (ع) قال: فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد.
نقل الشيخ الصدوق في الجزء الأول من (عيون أخبار الرضا: 144- 152) مناظرة الإمام الرضا (ع) مع سليمان المروزي, متكلم خراسان في مجلس المأمون, الذي جمع بينهما للمناظرة بحضور آخرين, فكان إنكار سليمان للبداء مدخلا للمناظرة فسأله الرضا (ع): وما أنكرت من البداء يا سليمان, والله عز وجل يقول:
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا مريم: 67
ويقول عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الروم: 27
ويقول: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ البقرة: 117, الأنعام: 101
ويقول عز وجل: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ فاطر: 1
ويقول: ووَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ السجدة: 7
ويقول عز وجل: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ التوبة: 106
ويقول عز وجل: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ فاطر: 11
قال سليمان: هل رويت فيه عن أبائك شيئا؟ قال: نعم, رويت عن أبي عبد الله (ع) إنه قال: إن لله عز وجل علمين: علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو, من ذلك يكون البداء, وعلما علمه ملائكته ورسله, فالعلماء من أهل بيت نبينا (ص) يعلمونه. قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عز وجل. قال (ع): قول الله عز وجل لنبيه (ص): فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ الذاريات: 54
أراد إهلاكهم, ثم بدا لله تعالى فقال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذاريات: 55
قال سليمان: زدني جعلت فداك, قال (ع): لقد أخبرني أبي عن أبائه عليهم السلام عن رسول الله (ص) قال: إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلانا الملك إني متوفيه إلى كذا وكذا, فأتى ذلك النبي فأخبره, فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري.
فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أن ائت فلانا الملك فأعلمه أني قد أنسيت في أجله وزدت من عمره إلى خمس عشرة سنة, فقال النبي: يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط, فأوحى الله عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك والله لا يسئل عما يفعل.
ثم التفت (ع) إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب, قال: أعوذ بالله من ذلك, وما قالت اليهود؟ قال (ع): قالت اليهود: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) – المائدة: 64- يعنون أن الله تعالى قد فرغ من الأمر, فليس يحدث شيئا فقال الله عز وجل: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ). ولقد سمعت قوما سألوا أبي, موسى بن جعفر (ع) عن البداء فقال: وما ينكر الناس من البداء, وأن يقف الله قوما يرجيهم لأمره.
قال سليمان: ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) – القدر: 1- في أي شيء أنزلت؟ قال (ع): يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة, من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق, فما قدره في تلك فهو من المحتوم.
ثم قال الرضا (ع): يا سليمان, إن من الأمور أمورا موقوفة عند الله عز وجل, يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء. يا سليمان إن عليا (ع) كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه الله ملائكته ورسله, فما علمه ملائكته ورسله فأنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله, وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء. قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء الله.
علق الشيخ الصدوق بعد انتهاء المناظرة بقوله: فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل وألزم الحجة له عليه, لأن الله تعالى ذكره يأبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره وينصر حجته, وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غافر: 51
يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة وأتباعهم العارفين بهم والآخذين عنهم, ينصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا, وكذلك يفعل بهم في الآخرة, وإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد.
مما يؤكد ما ذهب إليه الشيخ الصدوق, أن الأئمة (ع) كانت حججهم هي البالغة والغالبة على كل من حاججهم, وأن النص القرآني (غافر: 51) لا يعني النصر العسكري وظهورهم على أعدائهم في الحياة الدنيا, لأنهم (ع) كانوا مغلوبين على أمرهم, وكانت القوة والسلطة لأعدائهم حتى عصر الظهور.
في (أمالي الصدوق: 305) ما موجزه: بعدما بايع الناس الإمام علي (ع) بالخلافة, خرج إلى المسجد فصعد المنبر ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني, هذا سفط العلم, هذا لعاب رسول الله, هذا ما زقني رسول الله زقا زقا, إلى أن قال (ع): ولولا آية في كتاب الله عز وجل لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة, وهذه الآية: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
البداء كما فهمه العلماء المسلمون
في (الدر المنثور: 4/ 663) عن أبن مسعود كان يدعو: الهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء, وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء, فأنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
فالبداء, كما يقول السيد الخوئي (البيان في تفسير القرآن: 409) إنما يقع في القضاء غير المحتوم, أما المحتوم منه فلا يتخلف, ولابد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء. وقسم السيد الخوئي القضاء الإلهي إلى ثلاثة أقسام هي بإيجاز:
1- قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه ولا يقع البداء في هذا القسم. وإنما – كما في بعض الروايات – ينشأ البداء من هذا العلم.
2- قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما, فلا يقع فيه البداء, وإن افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ إلا منه.
3- قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج, إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه, وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء.
وقسم السيد الطباطبائي (الميزان في تفسير القرآن: 10/ 378- 381) القضاء إلى قضاء متغير وغير متغير, وقال بأن الروايات تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا, بمعنى تغيير علمه في ذاته, وإنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا, بعدما كان الظاهر منه خلافه أولا, فهو محو الأول وإثبات الثاني, والله سبحانه عالم بهما جميعا.
وقال السيد محمد كلانتر في (البداء عند الشيعة الإمامية: 29) بأن البداء بمعنى الظهور والبيان يستحيل في ذاته المقدسة لاستلزام ذلك حدوث علم الله عز وجل بشيء بعد جهله به, وهو محال في حقه تعالى لتعلق علم الله عز وجل بالأشياء كلها منذ الأزل.
وقسم السيد كلانتر في (البداء: 32- 38) علمه تعالى بالموجودات بأسرها إلى حصولي وحضوري, فالعلم الحصولي عبارة عن حصول صورة الشيء عند العقل وإن كان لدى التحقيق الدقيق هي كيفية نفسانية كسائر حالات النفس, وملكاتها من السخاء والشجاعة والعفة وغيرها.
أما العلم الحضوري فهو عبارة عن انكشاف الشيء بتمام ذاته وحقيقته وهويته لدى العالم, وهو ليس مقسما للتصور والتصديق, أو عبارة عن مجموع التصويرات الثلاثة مع الحكم وهي: تصور الموضوع والمحمول والنسبة بينهما والحكم بالوقوع أو اللاوقوع.
وقال الشيخ محمد جواد البلاغي في (مسألة في البداء: 10- 11) بأن البداء المنسوب إلى الله جل شأنه, أي ظهر لله من المشيئة ما هو مخفي على الناس وعلى خلاف ما يحسبون. ثم قال بأن آية المحو والإثبات تنادي بأن مقام المحو والإثبات هو غير مقام أم الكتاب, وعلم الله المكنون ومشيئته وإرادته الأزلية, بل هو في مقام الظاهر في سير الأسباب وتسبيباتها, فقد تقتضي مشيئته – جل أسمه- أن يمنع أسباب البقاء وطول العمر عن الزاني وقاطع الرحم, وقد يمنع الأسباب المهلكة عن واصل الرحم والمتصدق والداعي – مثلا- فيمحو في هذه الموارد ما جعله لنوع الأسباب من التسبيب, وقد لا يمحوه في بعض الموارد لحكمة أخرى فيكون قد أثبته أي أبقاه ثابتا.
وقد عدد الطبري في تفسيره (16/ 477- 481) الأقوال المختلفة في تحديد معنى التغيير لآية المحو والإثبات واستعرض الحجج التي استدل بها كل قائل على ما يراه, فمنهم من يذهب إلى أن التغيير في كل شيء عدا السعادة والشقاء فأنهما ثابتان, وآخرون يرون أن التغيير في كل شئ, أي أن الآية تفيد الإطلاق, وهو مذهب عمر بن الخطاب وجماعة آخرين.
ثم ذكر رواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (ص) أشار إلى أن الرزق والأجل يمحى منهما ويزيد فيهما. وقد جاء هذا الحديث في (الطبقات الكبرى: 3/ 574) و(الجامع لأحكام القرآن: 9/ 329) للقرطبي و(التفسير الكبير: 19/ 64- 65) للرازي و(الكشاف: 2/ 534) للزمخشري.
وأكد الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان: 13/ 185) بأن التغيير عام في كل شيء, لأن الله تعالى بيده مقاليد أمور العباد, فما شاء منها قدم, وما شاء منها أخر وما شاء منها أثبت, وعنده أم الكتاب.
أما القشيري فقد ربط في (لطائف الإشارات: 3/ 234) الآية بمسألة الحدوث وقال: المشيئة لا تتعلق بالحدوث, والمحو والإثبات متصلان بالحدوث, فصفات ذات الحق – سبحانه – من كلامه وعلمه وقوله لا تدخل تحت المحو والإثبات, وإنما المحو والإثبات من صفات فعله.
وأكد الشيخ المفيد في (شرح عقائد الصدوق: 24) بأن الأصل في البداء الظهور. وأما عن الآية (الزمر: 47) فقال: ظهر لهم من أفعال الله تعالى ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم, وعن الآية (الزمر: 48) قال: يعني ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم ذلك, ثم قال: فالمعنى في قول الإمامية: بدا لله في كذا, أي ظهر له فيه, ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه.
ثم أكد بأن اللفظة إنما أطلقت على الله من باب الاستعارة, كما يطلق عليه الغضب والرضا مجازا, فاللفظ خاص فيما يظهر من الفعل الذي كان وقوعه بعيدا عن النظر. وأكد البندر في (نظرية البداء: 78) بأن في قول المفيد تمييز واضح على أن لفظ البداء إذا أطلق بحق الواجب, فأنه يعني الظهور الذي تمتاز به بعض الأفعال الإلهية, بينما لا يقصد به المعنى الإنساني الذي يراد به تغيير العزم وتجدد الإرادة.
ونقل البندر عن الغزالي في (روضة الطالبين: 51) قوله: فالله تعالى لا يغير ما قضاه, لأنه تعالى لا يعارض نفسه فيما قضاه, إذ لم يكن عبثا ولا تبعا للشهوات, تعالى عن ذلك. وإنما قضى بمقتضى الحكمة, وما صدر عن الحكمة فلا مغير له, فما قضاه منوطا بفعل العبد فكالحرث والنسل, وما قضاه موقوفا على فعل العبد فكالدعاء والاستغفار.
ونقل عبد الزهرة البندر عن الباقلاني في (التمهيد: 319) بأنه أدرج مفهوم البداء تحت مفهوم النسخ, لأنه يرى جواز نسخ الشئ قبل وقت فعله وامتثاله. ولكن البندر في (نظرية البداء: 95) أكد بأن هذا ليس نسخا وإنما هو بداء, إذ المعروف إن النسخ لا يكون نسخا إلا بعد الفعل به, ومن ثم يرد الأمر بترك الفعل لانتهاء المصلحة المتعلقة بظرف الفعل ذاته.
ويمكن أن يضاف إلى رأي البندر فرقا مهما بينهما هو أن النسخ يتعلق بالأحكام التشريعية خلال فترة الرسالة فقط, وقد انتهى النسخ بوفاة الرسول محمد (ص), فلا نسخ بعد وفاته (ص).
أما البداء فهو يتعلق بالأحداث الخاصة بالفرد, والعامة للمجتمع, ومنها ما يتعلق بالكوارث, مثل انتشار الأمراض والأوبئة والقتل والحروب و الزلازل والعواصف وغيرها التي تتعلق بانتشار الآثام بين البشر, ومنها عدم انتشار هذه الكوارث, وإنما ينتشر الرخاء والرفاه والسعادة والصحة والأمن والاستقرار بين الأفراد والشعوب إذا عمت طاعة الناس لخالقها وأبتعد البشر عن المعاصي والآثام والاعتداء على الآخرين, (لمزيد من التفاصيل, دراستنا: تأثير آثام الإنسان في حدوث الكوارث ص 79- 101/ مآب/ العدد 1/ أيلول 2006م).
ونقل البندر في كتابه (ص127) عن رسائل ملا صدرا (رسالة في القضاء: 149) و(الأسفار: 3/ 68) بأنه قسم مراتب العلم الإلهي بالأشياء في مستويين أساسيين:
المستوى الأول, مرتبة عالم القضاء: فالعلم الإلهي في مرحلة القضاء هو العلم بالصور العقلية لجميع الموجودات بوجه كلي, وهو علم منزه عن التغيير والتجدد أو التكثير. فهو علم ثابت بمختلف أوضاع الموجودات بما هي عليه منذ بدايتها حتى آخر مرحلة من وجودها. أي (وجود الصور العقلية لجميع الموجودات, بإبداع الباري تعالى إياهم في العالم العقلي على الوجه الكلي).
المستوى الثاني, مرتبة عالم القدر: العلم الإلهي في مرحلة القدر هو علم تفصيلي جزئي للموجودات في سلسلة وجودها وتحققها بصورة مجزأة مسلسلة مستندة إلى أسبابها وعللها.
البداء في التاريخ
مع أن البداء بمفهومه الإسلامي عرف منذ نزلت آية المحو والإثبات خلال عصر الرسالة تسندها آيات الحث على الدعاء, إلا أن بعض المؤرخين تجاهلوا ذلك فاختلفوا في أول شخص قال بالبداء فنسبوا ذلك إلى بعض الشخصيات الشيعية للإساءة إلي سمعتهم ولحقهم في ذلك بعض الباحثين المعاصرين دون التحقق من صحة المزاعم القائلة بذلك.
فالطبري في (تاريخ الأمم والملوك: 8/ 732) ضمن أحداث سنة (67) هـ , عندما ذكر أخبار المختار بن أبي عبيدة الثقفي, يوردها على لسان عبد الله بن نوف عندما قال بعدما رجع الناس منهزمين, وكان قد بشرهم بالنصر: أو ما قرأت في كتاب الله (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
أما النوبختي في كتاب (فرق الشيعة: 91) فقد أوردها على لسان أبي الخطاب, عندما حارب أصحابه عيسى بن موسى, والي السفاح على الكوفة, سنة (138) هـ , بعدما بشرهم بالنصر فقال لهم بعد الهزيمة: إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي؟
أما البغدادي في (الفرق بين الفرق : 35- 36) فقد ترجم لفرقة الكيسانية وقال بأن سبب قولهم بالبداء هو مقالة المختار حين وعد جيشه بالنصر على أصحاب مصعب بن الزبير وبعد الهزيمة قال: إن الله وعدني بالنصر, ولكنه بدا له.
وذكر الشهرستاني في (الملل والنحل: 197- 198) بأن المختار أول من أبتدع الفكرة ومن ثم أصبحت من العقائد الشيعية, لأن المختار, كما قال, كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بوحي أو برسالة من قبل الإمام.
واستدل البندر في كتابه (نظرية: 81- 82) من ذلك وضوح الاضطراب في نسبة البداء إلى مدعيه وقال بأن المختار تعرض لحملة دعائية وجهت ضده لإضعاف شخصيته والنيل منها, وتصويره بالشكل الذي يجعل منه رجلا مشعوذا, على عكس ما كان يتحلى به من مكانة مرموقة. فمنذ ذلك الوقت وجهت للإمامية تهمة القول بالبداء على الله بالمعنى (الخاطئ) وسرت المقالة في أذهان بقية المسلمين دون الالتفات إلى حقيقة الأمر.
أكد السيد الخوئي في (معجم رجال الحديث) بأن المختار تعرض لحملة لتشويه سمعته واتهامه بالكيسانية, ثم نفى التهمة عنه بدليل أن المختار قتل وكان محمد بن الحنفية ما زال حيا, بينما ظهرت فرقة الكيسانية بعد وفاة محمد بن الحنفية, وإن محمد بن الحنفية لم يدع الإمامة لنفسه.
البداء واليهود
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا المائدة: 64
وقد أكد البندر في الهامش (ص 82) بأن المحدثين تابعوا القدماء في إسناد التهمة إلى الإمامية بالمعنى المذكور. وإذا كان هناك التباس أدى إلى تحامل القدماء, فما بال المحدثين وهم يدعون الإنصاف والعلمية في البحث, إضافة إلى توفر المصادر الشيعية وهي مشحونة بآرائهم وتصريحاتهم حول المسألة.
وقدم البندر مثالين للتوضيح وهما كتاب (الإمام الصادق) للشيخ أبو زهرة وكتاب ( نشأة الفكر الفلسفي الإسلامي) للدكتور النشار, فالأخير يرى في (1/ 46) بأن فكرة البداء يهودية الأصل, ولكنه في الصفحة السابقة أكد بأن اليهود يمتنعون من إطلاق النسخ على الشريعة لأنه يستلزم البداء على الله, فإذا كان اليهود ينكرون البداء ولا يقرونه فكيف أن بداء الشيعة يهودي الأصل؟
كتب السيد عبد الله شبر في (حق اليقين في معرفة أصول الدين: 101/ الجزء الأول) ضمن أحد معاني البداء قائلا: ما أختاره العلامة المجلسي, وهو أنهم (ع) إنما بالغوا في البداء ردا على اليهود القائلين إن الله قد فرغ من الأمر, وعلى النظام وبعض المعتزلة القائلين إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن, معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا, ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده, والتقدم إنما يقع في ظهورها, لا في حدوثها ووجودها.
هناك كثيرون يحملون العداء للشيعة حقدا ويعكسون دليل أصل البداء, كما فعل الدكتور النشار, فالمدعو محمد البنداري كتب فصلا عن البداء ضمن كتابه (التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي: 229- 234) جاء في بدايته: البداء فكرة يهودية استخدموها للطعن بالقرآن الكريم فاعتبروا الناسخ والمنسوخ دليلا على أن القرآن ليس من عند الله, فالنسخ يستلزم البداء, والبداء محال على الله ….الخ.
إلا أنه أنكر البداء, كما أنكره اليهود, فقد قال في آخر فقرة من كتابه (ص 231): فهل الله عز وجل غير عالم بما سيفعله العبد من الخير والشر فينتظر ليرى هذا العبد وصل رحمه أو قطعه ليقرر زيادة عمره أو نقصانه؟
أولا إن الله عز وجل لا ينتظر ولا يقرر بالمفهوم الذي يراه الجاهلون, ولكن الظاهر أن هناك علاقة غير منظورة أو لا يدركها البشر بين أعمال الإنسان, فردا ومجموعة ومجاميع, وبين ما يحصل في الطبيعة من بلاء وشقاء ورفاه وسعادة.
فهذه العلاقة تعد من النظام الطبيعي الذي أودعه الله تعالى في الكون ومواده و المخلوقات وأرواحها, فهي لا تتخلف عما أودعه سبحانه وتعالى فيها لتسيير الحياة على الأرض, فإذا لم يتوصل العلماء إلى تحديد القوانين التي تحكم هذا النظام وتسيره, فلا مسوغ لإنكاره فالجهل بالشيء لا يعني عدم وجوده.
أما ثانيا فقد قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة: 85
فقد أنكر البنداري مفاهيم كثيرة من القرآن الكريم تم توضيحها من قبل الرسول (ص) وبعض الصحابة والمفكرين وردت في بعض كتب الحديث غير الشيعية, حيث نقلنا ذلك سابقا. فهو إضافة إلى أنه قد أشترك مع اليهود في إنكار البداء أو آية المحو والإثبات في القرآن, أنكر مفهوم زيادة العمر ونقصانه المذكور في الآية (فاطر: 11) وأنكر آيات الحث على الدعاء ومنها قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ غافر: 60
فقد عد الله تعالى الدعاء أحد مفردات العبادة وعد تركه استكبارا ووعد المستكبرين أن يدخلهم جهنم, والله تعالى
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء: 23
عن أبي عبد الله (ع), كما في (الميزان: 6/ 40) قال: كانوا يقولون: قد فرغ من الأمر. ونقل عن (تفسير القمي) قال (ع): قالوا: قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدره من التقدير الأول فرد الله عليهم فقال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء
أي يقدم ويؤخر ويزيد وينقص وله البداء والمشيئة, رواه الصدوق في (معاني الأخبار) عن الإمام الصادق (ع). ثم نقل السيد الطباطبائي عن (المعاني) عن الإمام أبي جعفر (ع) قال: اليد في كلام العرب القوة والنعمة.
السيوطي في (الدر المنثور: 3/ 112- 113) بأن سبب نزول الآية هو أن أحدا من اليهود قال: إن ربك بخيل لا ينفق فنزلت الآية, ونقل عن أبن عباس قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثوقة, ولكن يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده, تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال السيد الطباطبائي في تفسيره (الميزان: 6/32- 33): كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينية, ولذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة وتعير المسلمين بنسخ الأحكام, وكذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال ساحة الآيات القرآنية.
وقال بعد كلام آخر: فعندهم (اليهود) من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته, وإن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء. وقال في معنى قوله: (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ): كناية عن ثبوت القدرة, وإنما قيل (يَدَاهُ) بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) بصيغة الإفراد, ليدل على كمال القدرة.
نقل الشيخ الطبرسي في الجزء الأول من (الاحتجاج: 44- 49) احتجاج الرسول (ص) على اليهود بحضور سلمان فقال الرسول (ص): إنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم.
وأوضح أبن صوريا (اليهودي) أسباب قولهم أن جبريل (ع) عدو لليهود فقال بما موجزه: إن أنبياء الله قد أعلمهم الله تعالى بأن خراب بيت المقدس سيكون على يد رجل يقال له (بخت نصر) وفي زمانه, فلما علم أوائل اليهود ذلك فبعثوا نبيا لهم يدعى (دانيال) في طلب (بخت نصر) في بابل ليقتله, فوجده غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوة, فأخذه (دانيال) ليقتله.
فقال له جبريل (ع): إن كان ربكم هو الذي أمر بهلاككم, فأن الله لا يسلطك عليه, وإن لم يكن هذا فعلى أي شيء تقتله؟ فصدقه وتركه ورجع إلى اليهود وأخبرهم بذلك. فقوى بخت نصر وملك وغزاهم وخرب بيت المقدس, فأتخذه اليهود عدوا لهم.
فقال سلمان: فبهذا العقل المسلوك به غير سبيله ضللتم؟ أرأيتم أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر, وقد أخبر الله تعالى في كتبه على ألسنة رسله أنه يملك ويخرب بيت المقدس؟ أرادوا تكذيب أنبياء الله في أخبارهم أو اتهموهم في أخبارهم أو صدقوهم في الخبر عن الله ومع ذلك أرادوا مغالبة الله, هل كان هؤلاء ومن وجهوه إلا كفارا بالله؟ وأي عداوة يجوز أن يعتقد لجبريل وهو يصده عن مغالبة الله عز وجل وينبئ عن تكذيب خبر الله تعالى؟ فقال أبن صوريا: قد كان الله تعالى أخبر بذلك على ألسن أنبيائه, ولكنه (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ).
قال سلمان: فإذا لا تثقون بشيء مما في التوراة من الأخبار عما مضى وما يستأنف, فأن الله يمحو ما يشاء ويثبت, وإذا لعل الله قد كان عزل موسى وهارون عن النبوة وأبطلا في دعواهما لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت, ولعل كلما أخبراكم به عن الله إنه يكون لا يكون, وما أخبراكم به إنه لا يكون لعله يكون. وكذلك ما أخبراكم إنه لم يكن لعله كان, ولعل ما وعده من الثواب يمحوه, ولعل ما توعد به من العقاب يمحوه, فإنه يمحو ما يشاء ويثبت. إنكم جهلتم معنى (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) فلذلك أنتم بالله كافرون وللإخبار عن الغيوب مكذبون وعن دين الله منسلخون.
السيد الجزائري في (النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين: 478) نقلا عن (تفسير علي بن إبراهيم) عن أبي عبد الله (ع) في حديث طويل عن بني إسرائيل جاء فيه قوله (ع): لما عملت بنو إسرائيل بالمعاصي وعتوا عن أمر ربهم, أراد الله أن يسلط عليهم من يذلهم ويقتلهم فأوحى الله إلى ارميا (بذلك) ثم أوحى إليه بأن بني إسرائيل: عملوا بالمعاصي وغيروا ديني وبدلوا نعمتي كفرا, فبي حلفت……لأسلطن عليهم شر عبادي ولادة وشرهم طعاما, فليتسلطن عليهم فيقتل مقاتليهم ويسبي حريمهم ويخرب بيتهم.
ثم (بإيجاز): سأل ارميا ربه أن يدله على هذا الشخص فذهب إليه وهو بخت نصر فأخذ منه عهدا, فكتب له كتاب أمان أن لا يؤذيه إذا غزا بيت المقدس وتسلط على بني إسرائيل, ففعل بخت نصر ذلك موفيا بوعده عندما غزاهم.
هناك عدة ملاحظات لابد من أخذها بنظر الاعتبار عند الجمع بين ما نقله الشيخ الطبرسي وما نقله السيد الجزائري في كتابيهما, لعل من أهمها بإيجاز:
1- إن اليهود ينكرون البداء, كما مر سابقا, ولكن أبن صوريا المنكر للبداء أصلا, بعدما ألزمه سلمان الحجة في الرد عليه عندما أوضح سبب عدائهم لجبريل (ع), احتج بآية المحو والإثبات الواردة في كتاب ينكره اليهود, لكي يجد سبيلا للخروج من ورطته ظنا منه إن المحو والإثبات إنما يتم بمعصية الله تعالى ومغالبة أمره وتكذيب رسله, فيمحو الله عنهم ما كانوا هم السبب في وقوعه, ولم يمنعهم ذلك من الاستمرار في ارتكاب المعاصي.
ويؤكد إفساد بني إسرائيل وعلوهم في الأرض آيات سورة (الإسراء: 4- 8) فقد رد الله عز وجل الكرة لهم وأمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا, ثم خيرهم بين الإحسان والإساءة لأنفسهم في المرة الثانية, والظاهر أنها تنطبق على (دولة إسرائيل) الحالية, ووعدهم بالرحمة إن أحسنوا لأنفسهم, وفي حالة الإساءة أن يعيد إرسال عباد له ليقضوا عليهم ويدمروا دولتهم إضافة إلى جهنم في الآخرة. وهكذا هم في كل إمكانية مادية تتوفر لهم, مفسدون ومستكبرون لا تنفع معهم العبر.
2- الظاهر إن ما زعمه أبن صوريا بإرسال نبي لقتل بخت نصر, هو بهتان على نبيهم, فالنبي هو أول من ينفذ أحكام الله تعالى في الأرض, وكل أنبياء الله يعرفون أنه لا يجوز القصاص قبل الجناية, فمن غير المعقول أن يذهب نبيهم لقتل شخص لم يقم بأية جريمة, ولكنهم اعتادوا على القتل فتصوروا أن أنبياءهم كذلك, فيكون سبب ذهاب نبيهم هو لمقابلة بخت نصر للحصول منه على عهد مكتوب منه لكي لا يؤذيه, كما نقل ذلك السيد الجزائري عن الإمام الصادق (ع).
3- إن ما نقل عن الله تعالى, سواء ما ورد في الكتب المقدسة أو على لسان أنبيائه, لابد أن تكون صادقة ومنها التنبؤ بأحداث المستقبل, فالله عز وجل لا يكذب نفسه, فمثل هذه الأحداث غير مشمولة بالمحو, وإنما هي من القضاء المحتوم إلا إذا تم ربطه بأحداث أخرى, ويمكن توضيح ما حصل مع بني إسرائيل وما سوف يحصل استنادا إلى نصوص القرآن وأحاديث المعصومين (ع) كما في الأسطر التالية:
قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً الإسراء: 15
فالله عز وجل لم يخبر أنبياء بني إسرائيل بتسليط بخت نصر عليهم ليقتلهم ويهدم بيت المقدس ويسبيهم , إلا بعدما قدم أنبياءهم كل ما يتمكنون منه من نصح وإرشاد وموعظة وإنذار من أجل ردعهم عن الظلم والإفساد والمعصية والاستكبار فكان الإخبار بتعذيبهم من المحتوم, وبدلا من أن يصلحوا أنفسهم بالتوبة والابتعاد عن المعاصي والظلم, تمادوا في طغيانهم فأرادوا قتل غلام برئ وزعموا أنهم بعثوا نبيا لهم لقتله.
ولهم في قصتهم مع فرعون مصر عبرة, ولكنهم قوم لا تنفع معهم العبر. عندما علم فرعون مصر أن أحد أفراد بني إسرائيل لم يولد بعد سينهي حكمه, فأمر بقتل كل طفل ذكر يولد في بني إسرائيل فأحدث ذلك فتنة في مصر, فجعله بين سنة وأخرى, ومع ذلك وقع قضاء الله المحتوم فيه فأغرقه الله في اليم بعد ما أنجى الله عز وجل موسى (ع) وبني إسرائيل من الغرق.
في الإفساد والعلو الثاني الذي قضاه الله تعالى على بني إسرائيل:
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا الإسراء: 4- 8
ربط الله تعالى جزاءه فيهم بأعمالهم فخيرهم بين الإحسان والإساءة لأنفسهم فقال: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
ثم حدد جزاءه تعالى على ضوء ذلك فقال: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
فالنص واضح (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا) للقضاء على دولتهم في الدنيا كما حدث في المرة الأولى.
فالمحو يقع حصرا في الظاهر مما يبديه الله عز وجل من أحداث تقع على الأفراد والبشر, فجعله تعالى يسير بموجب سنته غير القابلة للتبديل ولا للتحويل ولا للتغيير, مرتبطا بأعمال وأفعال الإنسان, فردا وجماعات, فأعمال البر والإحسان من صلة الرحم والدعاء والصدقة والصدق وعدم الغش والتعاون عليها…….الخ, لها نتائج إيجابية تصب في مصلحة الفرد والمجتمع, أما الآثام من ظلم وسرقة وغش واعتداء…الخ, فلها آثار سلبية على الفرد والمجتمع, كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ الأعراف: 96
من أخذ أحكامه من اليهود؟
إن الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية ديانات سماوية أنزلها الله تعالى على (3) أنبياء اختارهم بعلمه وإرادته, من أجل تبليغها لعباده, لذا فتشابه ما أنزله الله تعالى على أنبيائه أمر طبيعي لا غبار عليه, سواء أكان التشابه في الأحكام الشرعية أو في العقائد أو الأفكار الأخرى, ولكن, مع وجود التشابه, توجد اختلافات كثيرة فيما بين هذه الأديان, وتم نسخ شريعة موسى (ع) بشريعة عيسى (ع), وتم نسخ شريعة عيسى (ع) بشريعة خاتم الأنبياء محمد (ص) التي وعد الله عز وجل بإظهارها على كل الأديان في عصر الظهور وعدم نسخها.
أكد كل علماء الشيعة أن كل عقائدهم وأحكامهم الشرعية قد نقلوها حصرا عن رسول الله (ص) وعن أوصيائه الأئمة الهداة (ع), وكتبهم المعتمدة تشهد بذلك, ولم يقولوا أن الرسول (ص) أو أحد أئمتهم (ع) قد نقل عقيدة أو حكما شرعيا عن غير الرسول (ص) منقولا وحيا أو بواسطة الملك جبرائيل (ع) أو غيره من الملائكة عن الله تعالى, سواء أكان ذلك متفقا مع ما عند اليهود أو مع ما عند النصارى, أو كان مختلفا عما عند أي منهم, ولم يوجد في كتبهم أن الرسول (ص) قد أخذ حكما عن أي منهم أو غيرهم.
أما الذين اتهموا الشيعة بأن بعض عقائدهم وأحكامهم يهودية, فهم المتهمون بذلك, فقد وضعوا بعض القصص والأحاديث في صوم عاشوراء زاعمين بأن الرسول (ص) قد أمر بصوم عاشوراء لأن اليهود وأهل الجاهلية كانت تصومه, أو إن اليهود والنصارى كانت تعظمه.
قد استعرض الأستاذ عبد الرضا علي صباغ هذه المجموعة من القصص والأحاديث ومصادرها وقدم الأدلة على وضعها وهي بإيجاز: تضارب الأحاديث فيما بينها, وأن بعض رواتها محل تهمة وريب, وبعضهم لم يكن في المدينة حين صوم عاشوراء المزعوم, ولم يعرف عن اليهود والنصارى أنهم يعظمون أو يصومون يوم عاشوراء, وإن النصارى يعتمدون التقويم الشمسي في أعيادهم, ولم يعرف مصطلح عاشوراء, وهو اليوم العاشر من محرم, إلا بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيه سنة (61) هـ , وهو أسم إسلامي لم يكن معروفا في الجاهلية……..الخ. (النور/ 87- 89/ العدد: 179 محرم- صفر 1428هـ – شباط- آذار2007م).
إضافة إلى ذلك, فقد وضعوا على لسان الرسول (ص) بأنه أراد أن ينهي عن الغيلة ( مس الرجل امرأته وهي ترضع) ولكنه (ص) امتنع عن ذلك بعدما نظر إلى الفرس والروم ولم تضرهم شيئا (الإعجاز الطبي في القرآن/ السيد الجميلي/ ص259) وفيه نقض واضح ومخالفة صريحة لقوله تعالى:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى النجم: 3- 5
فأي الفريقين أساء إلى الرسول (ص) زاعما أنه (ص) أخذ أحكامه عن اليهود والنصارى والفرس والروم؟ والظاهر أن الذين يتهمون الشيعة بذلك هم الذين أخذوا أحكامهم عن غير الرسول (ص) ومنهم اليهود ونسبوا تلك الأحكام إلى الرسول (ص) زورا وبهتانا.
بهتان و أوهام حول البداء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا النساء: 112
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا الأحزاب: 58
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ 45
قال البنداري (ص 29- 30) من كتابه: نسب موت إسماعيل قبل موت أبيه اضطرابا لدى الشيعة, فنسبوا إلى الصادق (ع) قوله: بدا لله في إسماعيل, وللتخلص من هذا المأزق قالوا: نص الصادق (ع) على إسماعيل غير أنه كان سكيرا فنقلت إلى موسى. وفي الهامش بأن هذا الكلام منقول عن الطوسي, (الغيبة: 120) ورونلدسن, (عقيدة الشيعة: 161).
لو اكتفى المؤلف المذكور بأن الكلام قد نقل عن المصدر الثاني (عقيدة الشيعة) فقط, فلربما كان صادقا فيما نقله, ولوجهت تهمة الكذب والبهتان إلى رونلدسن, ولتحمل هو إثم نقل عقائد الشيعة من كتب أعدائهم.
لنقرأ ما كتبه الطوسي عن البداء (الغيبة: 120- 121) فقال بأن موت محمد في حياة أبيه (ع): فقد رواه سعد بن عبد الله الأشعري قال: حدثني أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (قال(: كنت عند أبي الحسن (ع) وقت وفاة أبنه أبي جعفر- وقد كان أشار إليه ودل عليه- فأني لأفكر في نفسي وأقول هذه قضية أبي جعفر وقضية إسماعيل, فأقبل عليّ أبو الحسن (ع) فقال: نعم يا هاشم بدا لله تعالى في أبي جعفر وصير مكانه أبا محمد, كما بدا لله في إسماعيل بعدما دل عليه أبو عبد الله (ع) ونصبه, وهو كما حدثت به نفسك, وإن كره المبطلون, أبو محمد أبني الخلف من بعدي عنده ما تحتاجون إليه ……الخ.
الظاهر من هذه الرواية أن الإمامين أبا عبد الله وأبا الحسن (ع) قد أشارا أو نصا على إمامة إسماعيل وأبي جعفر, وهو خلاف الواقع, كما أوضح ذلك الشيخ الطوسي في تعليقه على هذه الرواية في نفس الصفحة والمنقول لاحقا, وربما كانت العبارتان (وقد كان أشار إليه ودل عليه) و(بعدما دل عليه أبو عبد الله (ع) ونصبه) خطأ مطبعيا أو زيادة من النساخ, لأن الشيخ الطوسي نفى بصورة قاطعة وجود نص على إمامة إسماعيل وأبي جعفر, فلو كان في نص الرواية التي نقلها, وهو عالم بما كتبه, ما يشير إلى وجود نص على إمامة إسماعيل وأبي جعفر لعلق عليه.
علق الشيخ الطوسي على الرواية أعلاه موضحا ما جاء فيها وعلاقته بالبداء (ص 121) قائلا: معناه ظهر من الله وأمره في أخيه الحسن ما زال الريب والشك في إمامته, فأن جماعة من الشيعة كانوا يظنون أن الأمر في محمد, من حيث كان الأكبر, كما كان يظن جماعة أن الأمر في إسماعيل بن جعفر دون موسى (ع), فلما مات محمد, ظهر من أمر الله فيه, وإنه لم ينصبه إماما, كما ظهر في إسماعيل مثل ذلك, لا إنه كان نص عليه ثم بدا له في النص على غيره, فأن ذلك لا يجوز على الله تعالى العالم بالعواقب.
قال البنداري في الفقرة الأولى (ص 232) من كتابه المذكور: أما ما يذكره من قول الصادق فهو دليل على أن الصادق (ع) لم يكن يعرف أن إسماعيل ليس بإمام بعده لو لم يهلكه الله.
مما يؤكد وجود الخطأ في الرواية أعلاه, إنها وردت في الكافي بنص آخر ليس فيه إشارة إلى وجود نص على إمامة إسماعيل والسيد محمد, فقد نقل السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم في (في رحاب العقيدة: 281- 282/ الجزء الثالث) الرواية عن (الكافي: 327/ الجزء الأول) كما يلي:
كنت عند أبي الحسن (ع) بعدما مضى أبنه أبو جعفر, وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما – أعني أبا جعفر وأبا محمد- في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل أبني جعفر بن محمد (ع), وإن قصتهما كقصتهما, إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر (ع). فأقبل عليّ أبو الحسن (ع) قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاشم, بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له, كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله, وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون, وأبو محمد أبني الخلف من بعدي, عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة.
استعرض السيد الحكيم في كتابه المذكور النصوص الدالة على إمامة أبي الحسن موسى (ع) بعد وفاة أبيه جعفر بن محمد (ع) وذلك في (ص 238- 250) وفيه (35) حديثا, وعلى إمامة أبي محمد الحسن بن علي (ع) بعد وفاة أبيه أبي الحسن علي بن محمد (ع) وذلك في (ص 280- 286) وفيه (20) حديثا.
في الأحاديث نصوص واضحة تؤكد أن الإمام الصادق (ع) قد نص على إمامة أبنه موسى (ع) عند ولادته وأحيانا قبل وفاة أبنه إسماعيل, كما نص الإمام أبو الحسن علي الهادي (ع) على إمامة أبنه أبي محمد الحسن العسكري (ع) قبل وفاة أبنه أبي جعفر محمد.
هكذا تؤكد النصوص بأن الله تعالى قد أوحى إلى نبيه محمد (ص) بأسماء الأئمة من بعده, وإن الأئمة (ع) قد توارثوا هذه النصوص والأسماء إماما عن إمام, وإن الإمام الصادق (ع) كان يعرف قبل ولادة أكبر أبنائه وهو إسماعيل, إن الإمام بعده هو أبنه موسى (ع) وليس إسماعيل, كذلك الإمام علي الهادي (ع) كان يعرف أن الإمام بعده هو أبنه الحسن (ع) وليس أبو جعفر محمد.
وهذا ما أكده السيد محمد كلانتر في كتابه (البداء عند الشيعة الإمامية: 87) فقال: كانت الشيعة تعتقد الإمامة فيه (إسماعيل) لوجود مؤهلات الإمامة عنده, ولاسيما كونه أكبر ولد الإمام الصادق (ع), وكان هذا الأمر من المسلمات البديهية, والتي لا يشك فيها اثنان منهم. ولكن بعد موت إسماعيل كشف الإمام الصادق (ع) وجهه وأراه للشيعة حتى يتيقنوا بموته, ظهر لهم خلاف ما كانوا يعتقدون, وإن الإمامة كانت لأخيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام من بداية الأمر.
وهذا المعنى لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله عز وجل, ولا التغيير والتبدل في علم الله جل شأنه المستلزم للتغيير والتجدد في ذاته المقدسة.
إن كل ما قلناه في حق الإمام موسى بن جعفر (ع) نقوله في حق الإمام الحسن بن علي العسكري (ع), من أن الشيعة كانت تعتقد أن الإمامة في السيد محمد لوجود مؤهلات الإمامة فيه, وبعد موته ظهر لهم خلاف ما كانوا يعتقدونه, وتبين أن الإمامة من البداية كانت للإمام الحسن العسكري (ع), لا للسيد محمد.
فقول الإمام (ع): يا بني أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا, فأن معناه إن الله عز وجل قد أظهر إمامتك التي كانت مخفية على الشيعة.
هذا الحديث للإمام علي الهادي (ع) لأبنه الإمام الحسن العسكري (ع) لما توفي السيد محمد بن الإمام الهادي (ع), نقله السيد الحكيم (في رحاب العقيدة: 281/ الجزء الثالث) عن (الكافي).
قال البنداري في (ص 233) من كتابه بأن المحو والإثبات يتعلقان بالتشريع الإلهي أو فيما جاء على لسان رسوله (ص) وهو ما يعرف بالناسخ والمنسوخ, أما وقد انقطع وحي الله وكمل القرآن وتوفي رسول الله (ص) فقد كملت الشريعة واستقرت, فلا محو ولا إثبات.
إذا كان للمحو والإثبات علاقة (فيما جاء على لسان رسوله (ص)) كما يقول البنداري, فهو قد نسخ ما جاء على لسان الرسول (ص) الذي نقلته لنا كتب الحديث, ومنها المعتمدة لديه والتي ذكرنا بعضا منها سابقا.
فمن أباح له نسخ أو محو ما جاء به الرسول (ص) أو ربما خصه القرآن الكريم أو الرسول الأعظم (ص) بذلك ونحن لا نعلم؟ فهو قد جاء برأي مخالف لما قاله الرسول (ص) دون دليل شرعي.
فالمحو والإثبات لا يتعلقان بالتشريع كما زعم, وإنما بالصدقة وأعمال البر والإحسان والدعاء, كما قال الرسول (ص), فتحول الشقاء إلى سعادة وتزيد في العمر وتقي مصارع السوء وتبسط الرزق وترد القضاء (غير المحتوم) وتجيب الدعاء.
وهذا ما أوضحه وأكده السيد محمد كلانتر فقال في كتابه المشار إليه سابقا (ص 45): فالله عز وجل عالم بجميع الأشياء ومحيط بها إحاطة واقعية جزئية وكلية, سواء أكانت الجزئيات مجردة أم مادية. وقال في (ص53): البداء الواقع في التكوينيات كالنسخ المتعلق بالتشريعيات. فكما إن النسخ في التشريعيات أمر سائغ وجائز, كذلك البداء في التكوينيات أمر ممكن وجائز. وأشار إلى ذلك أيضا السيد عبد الله شبر في (حق اليقين في معرفة أصول الدين: 102) نقلا عن السيد الداماد بأن منزلة البداء في التكوين, منزلة النسخ في التشريع, إلى أن قال: فالنسخ كأنه بداء تشريعي, والبداء كأنه نسخ تكويني.
البداء و علماء الشيعة
أوضح السيد الخوئي في بحثه عن البداء ضمن كتابه (البيان في تفسير القرآن), المشار إليه سابقا, وقد اعتمده البنداري مصدرا, معنى البداء وأهميته للإنسان والبشرية على الأرض, وفيه رد واضح على المزاعم أعلاه, ولكن البنداري ينقل ما يعجبه ويترك ما يكون دليلا ضده.
فقد قال السيد الخوئي: القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب والعلم المخزون عند الله, يستحيل أن يقع فيه البداء, فالله سبحانه عالم بالأشياء منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فالقول بالبداء هو الاعتراف بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه, وإن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلا وأبدا.
إن القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين, فعلم المخلوقين – وإن كانوا أنبياء أو أوصياء – لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى, فإن بعضا منهم وإن كان عالما – بتعليم الله إياه- بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه, فأنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى.
فالقول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله, وطلبه إجابة دعائه وكفاية مهماته, وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية. فأن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة – دون استثناء- يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة من إجابة دعائه. فأن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه, فهو كائن لا محالة, ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل.
وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا, ولم ينفع الدعاء ولا التضرع. وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه حيث لا فائدة من ذلك. وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين (ع), إنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.
إن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فأن كلا القولين يوئيس العبد من إجابة دعائه, وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه. وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية, كقوله تعالى:
الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا الأنفال: 66
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا الكهف: 12
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هود: 7, الملك: 2
وقسم السيد محمد كلانتر في (البداء عند ..: 57- 60), الصفات الإلهية إلى صفات ذاته وصفات فعله, فالأولى كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر, لا يصح سلبها عن الله تبارك وتعالى مطلقا في أية حالة من الحالات, لأن صفاته هي عين ذاته المقدسة. أما الثانية كالخلق والرزق, فيصح سلبها عن الله عز وجل, فيقال إن الله أراد لهذا العلم, ولم يرده لزيد, وأراد لهذا المال ولم يرده لعمر, وأراد لهذا الأولاد ولم يرده لآخر.
فعلم الله عز وجل غير متناه لعدم تناهي ذاته المقدسة, فلو كان متناهيا لكان محدودا, ولو كان محدودا لكان له ماهية, ولو كان له ماهية لزم أن يكون مخلوقا حادثا.
وقال السيد كلانتر (ص 65): فالواجب بالذات والممتنع بالذات يستحيل تعلق البداء فيها لعدم قابليتها للتغير والتجدد والتبدل. فالبداء وهو الظهور والبيان يستلزم كل ذلك في الله هز وجل, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال في (ص 68): فالبداء وهو الظهور والبيان بعد الخفاء, والعلم بالشيء بعد الجهل به, لا يجري في صفات الذات التي لا يصح سلبها عن الباري عز وجل لأنها ليست قابلة للتجدد والتغير والتبدل, حيث إن هذه الصفات عين ذاته المقدسة. إن البداء بالمعنى الذي ذكرناه من شأنه التجدد والتبدل والتغير, فهذه من لوازمه فلا يعقل تصورها في الذات.
وكذلك لا يتعلق البداء بالأفعال الخارجية بعد تحققها ووقوعها في الخارج, كيف يعقل تصور التجدد والتغير لله فيها للزوم نسبة الجهل إلى الله تبارك وتعالى وعدم انقلاب الشيء عما وقع عليه, كذلك لا يجري البداء في الكتاب الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ, حيث أن هناك كتابين:
(كتاب محفوظ) وهو الذي لا يتغير ولا يتبدل, وهذا مطابق لعلمه تبارك وتعالى فلا بداء فيه. (كتاب محو وإثبات) وهو الذي يتغير ويتجدد ويتبدل, وهذا قابل لوقوع البداء فيه لعدم لزوم شيء مما ذكر فيه. والى الكتابين أشار الرب الجليل في كتابه المجيد (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). وكذلك لا يجري في القضاء الحتمي, حيث أن هناك قضائين, كما في الأحاديث الشريفة: قضاء لا ينقض وقضاء ينقض. وسمى السيد كلانتر القضائين (ص70) قدرين فهناك: قدر لا ينقض وهو الحتمي, وقدر ينقض وهو غير الحتمي.
وقال (ص 77): يسند البداء إلى الله عز وجل ويقال: بدا لله في الشيء الفلاني, (لأن) ما يجري في هذا العالم الملكوتي يكون بإرادة الله عز وجل, لذا تنسب الأفعال الصادرة منا في الخارج إلى الله تعالى, فالإسناد إليه مجازي كقول الموحد: أنبت الربيع البقل. وليس هذا تبديل رأي أو تجديد عزم أو إظهار ندم من إيجاد شيء أو بقاءه, لأن بقاءه كان معلقا على عدم (تحقق) ذلك الأمر.
غاية الأمر كان المعلق عليه مخفيا على الناس ثم ظهر لهم بفعل الله عز وجل فيقال له البداء, كما في التفدية في قصة إبراهيم الخليل (ع) حيث أن الذبح كان معلقا في بداية الأمر على عدم التفدية. (وفي قصة اليهودي الذي تصدق ولم يمت), كان موت اليهودي معلقا على عدم التصدق.
وقال (ص 78): فالتجدد والتبدل والتغير المحسوس في هذا العالم الجسماني في الحقيقة, يكون في أفعالنا, لا في علم الله عز وجل الذي هو عين ذاته المقدسة. البداء بغير هذا المعنى فلا تعترف به الشيعة الإمامية, ولا تذهب إليه, وتتبرأ منه كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام, وكذا يتبرأ منه أئمتهم (أئمة أهل البيت), وهكذا يتبرأ منه أعلامهم من الأفذاذ.
أوضح السيد محمد باقر الخرسان معنى البداء في عقيدة الإمامية في هامشه (الاحتجاج: 179/ الجزء 2) قائلا: معنى البداء: ظهور الشيء بعد خفائه وهو في عقيدة الإمامية: ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم, فقولنا (بدا لله) معناه بدا لله شأن أو حكم, وليس معناه ظهر له ما خفي عليه, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
أمثلة حية من البداء
وعن التفدية التي قدمها السيد كلانتر مثالا لتأييد رأيه نقول: إن الله تعالى كان عالما بأن إبراهيم وإسماعيل (ع) يمتثلان أمره تعالى بذبح إسماعيل (ع), وأنه تعالى سيفدي الذبيح بكبش عظيم, ولكنه تعالى أمر وشاء أن لا يحصل ما أمر به, لكي تظهر طاعة إبراهيم وإسماعيل (ع) له تعالى وامتثالهما لأمر الذبح, في أشد البلاء تأثيرا على حياتهما, فيجازيهما بالثواب العظيم في الآخرة.
للتذكير: يرى البعض بأن الذبيح هو اسحق (ع), وقال أحدهم بأن لكل فريق حججه, والظاهر إنه رأي اليهود والتوراة (المحرفة), فقد ذكر أبن قتيبة في (المعارف: 35) بأنه وجد في التوراة بأن اسحق هو الذبيح.
ولكن نصوص القرآن الكريم تؤكد إن الذبيح هو إسماعيل (ع), فقوله تعالى:
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ الصافات: 101- 113
ففي الآيات (الصافات: 101- 107) قصة بشارة إبراهيم (ع) بغلام حليم الذي رأى في الحلم إنه يذبحه, فتم الاستعداد لذلك, إلا أن الله تعالى فدى الذبيح بذبح عظيم. بينما تشير الآيتان (الصافات: 112- 113) إلى بشارة أخرى لإبراهيم (ع) وهي (بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). ففي الآيات الأولى لم يتم تسمية الغلام الحليم, بينما سمي في البشارة الثانية من نفس السورة بأنه (إِسْحَقَ).
فهما بشارتان في آيات متسلسلة من سورة واحدة, فالبشارة الثانية كانت تبشر إبراهيم (ع) بابنه اسحق (ع) بالنص, علمنا إن البشارة الأولى هي بشرى لإبراهيم (ع) بابنه إسماعيل (ع). ويؤكد ذلك قول النبي (ص): أنا أبن الذبيحين, مشيرا بذلك إلى جده الأعلى إسماعيل (ع) وأبيه عبد الله, اللذين أراد والد كل منهما (إبراهيم (ع) وعبد المطلب) ذبحهما, فتم فداء الأول بذبح (كبش) عظيم, والثاني بمائة ناقة.
أما (قصة اليهودي الذي تصدق ولم يمت) فموجزها كان الرسول (ص) جالسا مع بعض أصحابه فمر بهم يهودي, فقال الرسول (ص) لأصحابه بأن اليهودي سوف يموت قبل رجوعه, ولكن بعد فترة مر اليهودي عليهم حاملا حطبا, فطلب منه المثول أمام الرسول (ص).
فأمره الرسول (ص) أن يضع رزمة الحطب على الأرض, ثم سأله عما فعل هذا اليوم فقال بأنه رأى مسكينا جائعا فتقاسم معه رغيف الخبز الذي كان معه, فأمره الرسول (ص) أن يفرق أجزاء الحطب, فإذا حية سامة بين الحطب فقال له الرسول (ص) بأن الله عز وجل دفع عنه الموت مسموما بما تصدق به.
في (آمالي الصدوق: 449) ما موجزه عن الإمام الصادق (ع) بأن عيسى (ع) روح الله مر بقوم تزف فيهم عروس فقال (ع) بأن صاحبتهم ميتة في ليلتها, فلما أصبحوا وجدوها على حالها لم يحدث بها شيء, فسألوا عيسى (ع) عن ذلك فقال (ع): يفعل الله ما يشاء فاذهبوا بنا إليها.
فذهبوا فاستأذن عليها فتخدرت فسألها عيسى (ع) عما صنعت في ليلتها فقالت: لم أصنع شيئا إلا وقد كنت أصنعه فيما مضى, إنه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها, وإنه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغل فهتف فلم يجبه أحد, ثم هتف فلم يجب حتى هتف مرارا, فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى أنلته كما كنا ننيله, فقال (ع) لها: تنحي عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه فقال عليه السلام: بما صنعت صرف الله عنك هذا.
وفي القرآن الكريم قصص أخرى يظهر فيها البداء واضحا: فالله تعالى أعلم الملائكة بخلق آدم وجعله خليفة في الأرض, فأسكنه وزوجه الجنة ولم يخبرهما بما أخبر به الملائكة, وأمرهما أن لا يقربا شجرة حددها لهما, وشاء تعالى أن ينهى عن عمل وتتم مخالفة النهي, فأخرجهما الله عز وجل من الجنة وأهبطهما إلى الأرض حيث مسكنهما وذريتهما إلى يوم القيامة, أي أن الله تعالى ربط هبوطهما إلى الأرض بالأكل من الشجرة الممنوعة عنهما, وهو العالم بكلا الأمرين, ولم يظهر ذلك لآدم وزوجه عندما أسكنهما الجنة, أي أخفاه عنهما.
وفي قصة موسى (ع), يظهر البداء واضحا في قصته عندما خرج من المدينة خائفا وعاد إليها نبيا, فنبوته (ع) كانت مرتبطة بتكليم الله عز وجل إياه أثناء عودته إلى المدينة, فهو (ع) لم يعلم بنبوته حتى عندما رأى النار, وإنما علم بها بعدما كلفه تعالى بذلك. وكذلك في قصته مع العالم, فكان (ع) يرى إنه أعلم البشر بما آتاه الله تعالى من علمه, ثم عرف بعد مقابلته العالم بأن العالم أعلم منه في علم الغيب الذي خصه الله عز وجل به.
وفي قصة قوم يونس (ع), يظهر أثر الدعاء والتوبة إلى الله تعالى واضحا, وقد ترك تعالى إخبار يونس (ع) بتوبة أهل نينوى, لكي يفرغه لعبادته في بطن الحوت, كما في حديث للإمام أبي عبد الله (ع), فقد أرسل الله عز وجل العذاب إليهم ولكنهم عندما رأوا آثارها, وقبل نزولها عليهم طلب منهم العالم الفزع إلى الله لعله يرحمهم فيرد العذاب عنهم فتم ذلك فصرف تعالى عنهم العذاب, كما فصل ذلك الإمامان الباقر والصادق (ع), (مآب: 87/ العدد الأول شعبان 1427هـ).
يؤكد البحث العملي الذي قام به الدكتور رعد محسن المولى, الأستاذ في كلية العلوم بجامعة بغداد خلال سنة 1997, التأثير الإيجابي لقراءة نصوص من القرآن الكريم على زيادة الإنتاج الزراعي, فقد قام الباحث بزراعة (5) مجاميع بالحنطة, موفرا لها كل ما تحتاجه بصورة متساوية.
إلا أنه عرض كل مجموعة إلى ظروف خارجية مختلفة, فتعرضت المجموعة الأولى إلى قراءة سور من القرآن الكريم وقراءات قرآنية أخرى على ماء السقي, وأبقى الأخيرة دون أي تأثير خارجي فكانت هي المعيار أو السيطرة, وبعد جمع الإنتاج وحساب النتائج ظهر أن المجموعة الأولى زاد إنتاجها في الوزن الجاف بنسبة (140%) عن مجموعة السيطرة, وهي أعلى نسبة تحققت في التجربة, (لمزيد من التفاصيل كتابنا (تراث الرسول (ص) يتجلى في عصر العلم: 307/309) نقلا عن جريدة (الزراعة العربية: 3/ في 12/1/ 1998, بغداد).
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
سبق إن نقلنا عن السيد الخوئي استشهاده بنصوص قرآنية تشير إلى علم الله تعالى بالحدث بعد وقوعه, مما دعانا إلى ربط ذلك بعلم الشهادة وهو غير علم الغيب بدليل النص القرآني:
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الأنعام: 73, التوبة: 94, 105, المؤمنون: 92 و(6) غيرها.
سبق إن نقلنا عن السيد محمد كلانتر تقسيمه العلم الإلهي إلى حصولي وحضوري, فالعلم الحصولي, كما قال عبارة عن حصول صورة الشيء عند العقل, وهو علم الغيب كما عبر عنه القرآن الكريم, أما العلم الحضوري فهو عبارة عن انكشاف الشيء بتمام ذاته وحقيقته وهويته لدى العالم, كما قال السيد كلانتر, وهو علم الشهادة كما سماه القرآن الكريم.
وقد وردت نصوص أخرى تشير إلى نفس المعنى الذي أشار إليه السيد الخوئي ومنها:
أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ آل عمران: 144
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ البقرة: 143
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ سبأ: 21
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد: 31
لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ المائدة: 94
قال الإمام علي (ع) في (نهج البلاغة: 619/ الحكمة 88): لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة, لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة, ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن, فإن الله سبحانه يقول: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) الأنفال: 28
ومعنى ذلك أنه سبحانه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي لقسمه, وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم, ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب, لأن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث, وبعضهم يحب تثمير المال ويكره أنثلام الحال.
هكذا يؤكد (ع) أن الله تعالى أعلم بالناس من أنفسهم, ولكنه تعالى يختبرهم لكي (تظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب), فهو تعالى بعلمه للغيب, أعلم بكل مخلوقاته من أنفسهم بما يفعلونه ويكونون عليه في المستقبل, ولكنه سبحانه لا يحاسبهم على أعمالهم بما يعلم عنهم, ولكنه تعالى يحاسبهم بما يفعلونه فعلا, وذلك مختص بعلم الشهادة الذي لا يتحقق إلا بعد وقوع الفعل.
فعلم الغيب الذي استأثر به الله عز وجل لنفسه, لا يحصل فيه البداء مطلقا, وإنما يحصل منه البداء, أي بمعنى إن علم الله تعالى بالغيب يتضمن علمه تعالى لكلا الأمرين, لأن علمه تعالى بالغيب هو واحد لا يتغير بكل تفاصيله منذ الأزل والى الأبد. فعلمه تعالى بما كان وبما يكون وبما هو كائن لا يختلف بين لحظة وأخرى. وهناك نصوص كثيرة في القرآن الكريم أكدت أن الله تعالى قد أظهر بعض علم الغيب بعض عباده:
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ الجن: 26- 27
لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة دراستنا عن الغيب في مجلة (مآب: 79- 93/ العدد4/ أيلول 2007) مع ترجمته إلى اللغة الإنكليزية بنفس العدد من المجلة.
علم الشهادة
نقلنا سابقا عن الإمام الحسن العسكري (ع) حول آية نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قوله: إلا لنعلم ذلك منه موجودا بعد أن علمناه سيوجد (تفسير الإمام أبي محمد العسكري: 388). ففي النص المذكور إشارة واضحة جدا إلى علم الغيب الإلهي (بعد أن علمناه سيوجد) وعلم الشهادة الإلهي (لنعلم ذلك منه موجودا).
فعلم الشهادة هو علمه تعالى بالأحداث لحظة وقوعها, فالنصوص القرآنية المذكورة سابقا, لا نقول عنها بأن الله عز وجل كان يجهل الأحداث المذكورة في النصوص المقدسة ثم علم بها بعد وقوعها, وإنما نقول بأن الله تعالى كان عالما بها منذ الأزل ولكن علم الشهادة لا يتحقق إلا عند وقوع أو حصول الحدث فعلا, لأن الله تعالى لا يحاسب عباده بما يعلم عنهم بعلم الغيب الذي خص به ذاته المقدسة, وإنما يحاسبهم بما يقومون به من أعمال, فيكون تعالى شاهدا عليهم فلا تغيب عنه غائبة في السموات ولا في الأرض, فتكون الحجة لله عليهم بالغة.
فالله عز وجل يعلم كل ما يقع في الكون من أحداث في لحظة وقوعها, كبيرها وصغيرها, فهو تعالى يعلم مثلا ما يحصل في الشمس والنجوم من تغيير في كمية حرارتها ودرجتها في كل جزء منها, وأي تغيير آخر فيها في لحظة حصوله, ويعلم ما يحصل مثلا, في أجسام المخلوقات كافة وأي تغيير فيها أثناء حصوله, ولكن الإنسان يجهل كل ذلك حتى تظهر العلامات والظواهر والأدلة والأعراض التي تؤكد أو تشير إلى حصول التغيير فيما يستطيع إدراكه ومعرفته.
فالبداء لا يتحقق إلا بعد حصول ما يكون سببا موجبا لتحققه, فالدعاء والصدقة وأعمال البر والإحسان هي أسباب موجبة لتحقيق الأماني وزيادة الرزق والعمر ….الخ, فقد تحقق البداء. كما إن وفاة كل من إسماعيل ومحمد قد حقق البداء في جعل الإمامة في أخ كل منهما, كذلك القول في معصية الخالق فردا وجماعات, معصية جزئية أو كلية, صغيرة أو كبيرة, فأن نتائجها إنزال البلاء والعذاب والكوارث بأنواعها, وتختلف تأثيرا وشدة ونوعا باختلاف المعصية وانتشارها.
الرأي المنصف
إن المنصفين من غير الشيعة, عندما أطلعوا على عقائد الشيعة من كتب علمائهم, ولم يعتمدوا في ذلك على كتب أعداء الشيعة والتشيع, أدركوا حقيقة البداء بالمعنى الصحيح الذي يعتقد به الشيعة. فقد كتب الدكتور حامد حفني داود – أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن في القاهرة- مقالا بعنوان (نقد وتعريف) في مجلة (النجف: 56- 68/ العدد الرابع/ شعبان1382هـ – كانون الثاني 1963م) الصادرة عن كلية الفقه في النجف, وقال بأن الأمانة العلمية: تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها. فكيف لباحث بالغا ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم.
وبعد ذلك قال: إن الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها الأولى ومضامينها الأصلية إنما يسلك شططا ويفعل عبثا, ليس هو من العلم ولا من العلم في شيء, ثم أكد بأن الدكتور أحمد أمين قد وقع في ذلك وورط نفسه في كثير من المباحث الشيعية.
وقال (ص 66): إن كثيرا من المفكرين سفهوا عقول الشيعة في نسبة البداء إلى الله سبحانه, والشيعة الإمامية براء مما فهمه الناس عن البداء, إذ المتفق عليه عندهم وعند علماء السنة إن علم الله قديم منزه عن التغيير والتبديل والتفكير الذي هو من صفات المخلوقين, أما الذي يطرأ عليه التغيير والمحو بعد الإثبات فهو ما في اللوح المحفوظ بدليل قوله تعالى (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ).
وقدم الدكتور داود مثلا لذلك فقال: فلان من الناس كتب عليه الشقاء في مستهل حياته وفي سن الأربعين تاب إلى الله فكتب في اللوح المحفوظ من السعداء, فالبداء هنا: محو أسمه من باب الأشقياء في اللوح وكتابته في باب السعداء. أما ما في علم الله فيشمل جميع تاريخ هذه المسألة من إثبات ومحو بعد التوبة, أي أنه سبق في علم الله إن هذا الشخص سيكون شقيا ثم يصير سعيدا في وقت كذا حين يلهمه التوبة.
إن البداء الذي يقول به الإمامية هو قضية الحكم على ظاهر الفعل الإلهي في مخلوقاته بما تتطلبه حكمته, فهو قول بالظاهر المتراءى لنا, وإذن فوجه الإشكال في الذين خطئوا الشيعة في قولهم بالبداء, إنما جاء من زعمهم أن الشيعة ينسبون البداء إلى علم الله القديم, لا إلى ما في اللوح المحفوظ.
ثم أكد الدكتور داود بأن: في تفكيرهم (الشيعة) من عمق في الحكم لأن معناه (البداء)- في نظري- إن الله سبحانه يطور خلقه وفق مقتضيات البيئة والزمان اللذين خلقهما وأودع فيهما سر التأثير على خلقه – ولو ظاهرا-
إن القول بالبداء هو المقالة الوحيدة التي نستطيع بهديها أن تفسر لك سر الناسخ والمنسوخ في القرآن, كالحكمة فيما ورد من آيات تحريم الخمر وكيف تدرج ذلك بالتحريم في صورة مراحل ليعالج سبحانه بذلك اعوجاج النفس البشرية ويخلصها من قيود العادة المستحكمة شيئا فشيئا حتى يتحقق لهذه النفس صلاحها, ولو حرمها مرة واحدة لكان في ذلك ما فيه من مشقة على النفس, فذلك هو اعتقاد الإمامية في البداء.
إن هذا الرأي المنصف الذي قدمه الدكتور حامد حفني داود, يمثل قمة الأمانة العلمية والحياد الملتزم وعدم الإساءة للآخرين لمجرد الاختلاف في العقائد, وقد التزم به الدكتور داود بعيدا عن الأهواء المذهبية والأحقاد الشخصية والتعصب الأعمى الذي هو مذهب البنداري وأمثاله.
ختامه مسك
من كل ذلك نستنتج أن (المحو والإثبات) الذي ورد في القرآن الكريم, و(البداء ) الذي تقول به الشيعة الإمامية لفظان أو مصطلحان لمفهوم واحد لا يختلفان في التفاصيل, فوحدة المفهوم لهذين اللفظين تؤكد وحدة الفكر الإسلامي بين مختلف مذاهبه, فاختلاف اللفظ لا يستوجب توجيه النقد إلى الشيعة, إلا من كان يبغي من وراء ذلك خلق فتنة وتفريق وحدة المسلمين, بتزوير الحقائق وبث الأكاذيب بهتانا لتشويه سمعة أحد المذاهب الإسلامية الكبرى عند المسلمين خدمة لأعداء الإسلام.
إذا تم استثناء من حدد آية المحو والإثبات بزمن الرسالة فقط, وأنكر زيادة ونقص الأعمار, من أمثال البنداري, فأن المسلمين قد أجمعوا على أن المراد بآية المحو والإثبات هو التغيير, أي أن شيئا لم يكن ثم كان, وأن سبب التغيير هو الدعاء والصدقة وصلة الأرحام وسائر أعمال البر والإحسان, لأن لمثل هذه الأعمال آثارا دنيوية إيجابية, أي إن الله تعالى يستجيب الدعاء فتتحقق الأماني والحاجات والطلبات ويدفع ميتة السوء وتزيد الأعمار والأرزاق.
إن هذا يفسر اتجاه الناس إلى الإلحاح بالدعاء وطلب قضاء الحاجات من الله تعالى. ولكن البعض استثنى الشقاء والسعادة من ذلك, ولكن سنة الرسول (ص) وأدعية بعض الصحابة تؤكدان أن التغيير عام في كل شيء, ومن ضمن ذلك الشقاء والسعادة. وقد عد بعض المفكرين ربط سعادة وشقاء الفرد والمجتمع بما يقومون به من أعمال البر والإحسان وأعمال الغدر والشر, إنما هو تكريم للإنسان و المجتمع الإنساني الذي قضاه الله تعالى لهم دون بقية مخلوقاته.
وقد وقع الخلاف في التسمية فقط دون مفهوم الفكرة, فالبعض أدرجها ضمن مفهوم النسخ لأنه يرتبط بمصالح العباد لحكم إلهية, ولكن القرآن الكريم فرق بين النسخ وبين المحو والإثبات, فخصص النسخ بالأحكام الشرعية في آيات القرآن الكريم فقط, وفهمه آخرون بأنه قضاء إلهي وفسروه كما يفسر القضاء.
بينما انفرد الشيعة الإمامية بتسميته بالبداء, لأنهم عدوه يرتبط بمسألة الحدوث والتغيير في عالم التكوين الذي يتخذ صفة الظهور بعد الخفاء. إن الاختلاف بالتسمية كان نقطة الخلاف الوحيدة التي استغلها القدماء في نقد الشيعة, وتابعهم كثير من اللاحقين والمعاصرين زاعمين أقوالا وأراء لم يقلها أئمة وعلماء الشيعة الإمامية الإثنى عشرية, ومنها الادعاء بأن الشيعة تنسب الجهل إلى الله تعالى, ولكن كل علماء الشيعة وكتبهم ينفون ذلك نفيا قاطعا, وتؤكد بأن الله عز وجل يعلم كلا الأمرين, ولكن لله في خلقه شؤون.
مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا الكهف: 5
أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح معنى البداء, بأنه عقيدة إسلامية أقرتها كل المذاهب, ولكن بعناوين أو أسماء مختلفة, لا تؤثر على المعنى العام لهذه العقيدة, وما التوفيق إلا من عند الله العلي القدير, عليه توكلت واليه أنيب والحمد لله رب العالمين.
الكاتب : سعد حاتم مرزه