من الثغرات الثقافية في أي أمة فقرها التاريخي وضياع الصفحات المشرقة لأعلامها وحوادثها في سالف الزمان، وهو ما نشكو منه فيما يتعلق بحياة الأئمة المعصومين، بل وحتى مع رسول الله، صلوات الله عليهم، فقد غيّب التاريخ الكثير من العطاءات والمنجزات، أما المثبت فهو ما يتعلق بالحكام، والسياسة بالدرجة الاولى، مما اضطرنا الى الاعتماد على الروايات التاريخية، والاحاديث المروية عن المعصومين التي وصلت الينا من خلال “رجال” تحققت فيهم درجات الثقة العالية.
والازمة في التوثيق ليست متقصرة على الامام الحسين الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده الميمون، إنما حتى مع أبيه وجده من قبل، فقد تعرض الاصحاب والتابعين لانتقاد شديد من الباحثين والمؤرخين لوجود النزر اليسير من خطب وكلمات رسول الله وقد عاش بين المسلمين عشر سنين، وكان يخطب في الناس كل اسبوع في صلاة الجمعة، ولم يكن يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وثبت لها موقف من تأييد، او تسديد، او تغيير.
وما يتعلق بالامام الحسين، عليه السلام، فان كتب التاريخ لا تذكر منه سوى صفحات الدم من واقعة الطف التاريخية الفاصلة، أما كيف كانت طفولته، وما كان يصنع في شبابه، وما هي نظرة المجتمع اليه؟ كل هذا وغيره راح في طي النسيان، ولم يبق لنا سوى النزر اليسير من احاديث وروايات تاريخية.
الاخلاق النبوية تعود للمدينة من جديد
على خطى جدّه المصطفى، التزم الامام الحسين، عليه السلام، الاخلاق لبناء الانسان والمجتمع، فبعد التطورات السياسية في الكوفة واستشهاد أمير المؤمنين، ثم أخيه الامام الحسن بعد توقيع الهدنة مع معاوية، غادر الامام الحسين مدينة الكوفة الى الأبد عائداً الى مسقط رأسه؛ المدينة، وربما تكون المصادفة ذات دلالة ما في تماثل الرقم بعدد سنوات وجود النبي الاكرم في المدينة مع العدد ذاته بوجود الامام الحسين فيها وهي عشر سنوات فترة إمامته، حيث عاش فيها الامام فترة يمكن وصفها بالسبات السياسي في ظل حكم معاوية ملتزماً بالمعاهدة التي وقعها أخيه، وطالما حثّه البعض على استغلال فرصة الهدوء السياسي للعمل على تقويض اركان الحكم الأموي بعدما أظهر من العداء والحقد لأهل البيت، وسنّه بدعة شتم أمير المؤمنين من على منابر المسلمين في شرق البلاد الاسلامية وغربها، وقالها في حضور الامامين، عليهما السلام، في الكوفة، وعلى مسمع ومرأى من عامة المسلمين، من أن المعاهدة “تحت قدمي” لا أفي بشيء منها!
والغريب أن كلاماً مغايراً تماماً سمعه في المدينة ايضاً عندما رام الخروج الى كربلاء تلبية لدعوات اهل الكوفة، وللتصدّي لحكم بن أمية المتمثل آنذاك بيزيد، حيث نصحه البعض بعدم الخروج، بيد أن الامام الحسين، قبل ان يكون بطلاً في ساحة المعركة، كان بطلاً في ساحة الاخلاق السامية بتجسيده أخلاق جدّه المصطفى بالوفاء بالعهود، و تلبية استغاثة الملهوف بكامل المسؤولية الرسالية.
وعليه؛ فان الامام الحسين أمضى فترتين من حياته في المدينة؛ الاولى: في صباه، بين أبيه وأمه وجده، صلوات الله عليهم، ثم شبابه، وفي الثانية: لدى عودته من الكوفة وقبل بلغ حوالي الخمسين من العمر، أحيا فيها أخلاق جدّه رسول الله بين المجتمع المدني آنذاك، بمن بقي من الاصحاب الطاعنين في السن، وابناء الاصحاب من المهاجرين والانصار، كما كان الملاذ لكل صاحب حاجة وشدّة من خارج المدينة، فقد كان لين القلب، حلو الكلام والمنطق، حَسِن المعشر، ففي صباح أحد الاعياد تقدمت جارية له بباقة ورد كهدية بمناسبة العيد، فأخذ منها الامام شاكراً لها بابتسامة عذبة مصحوبة بالقول: “انت حرة لوجه الله”.
عتق العبد او الأَمة لم يكن بالأمر السهل لدى مجتمع ذلك الزمان، كون الامر يتعلق بجزء كبير مما يمتلكه الانسان، ربما تكون مثل سيارة حديثة في هذا الزمان، وهو ما اثار تساؤل الاصحاب، فاجابهم، عليه السلام: “هكذا ادبنا ربنا حيث يقول: {واذا حُييتم بتحية …..}، ولم أرَ تحية أرد بها على تحية هذه الجارية أحسن من عتقها فاعتقها لوجه الله.
ان اهتمام الامام الحسين بالجانب الاخلاقي مقروناً باهتمامه بالبناء الثقافي، فالايمان بالله، والتزام أحكامه وشريعته لن يكون إلا بنفوس زكية وقلوب نقية خالية من الرذائل وعبادة الذات والأنا والكِبر، لذا عمل الامام على تهذيب اخلاق الناس وسلوكهم، وتقويم افكارهم لمعرفته بما ران على القلوب طيلة السنوات الماضية التي اعقبت رحيل جده رسول الله، وما جرى على أسرته، فقد رأى بأمّ عينيه، وهو صغير السنّ كيف انقلب المسلمون على اعقابهم لمجرد غياب نبيهم عنهم، وعودة القيم الجاهلية من غدر، وخيانة، وارهاب دموي، وانتهاك للحرمات.
فذاك رجلٌ من الانصار يتوجه اليه يطلب حاجة منه (مال)، فيقول له، عليه السلام: “يا أخا الانصار! صِن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فاني آتٍ فيها ما سارّك ان شاءالله”. بمعنى ان الامام الحسين يطلب من السائل ان يكتب له (على ورقة) بدلاً من البوح بحاجته وفقره بما ينتقص من شخصيته ومن ماء وجهه.
وقد كتب ذلك الانصاري بأن حاجته خمسمائة دينار دينٌ ملّحٌ عليه، فأعطاه الامام الحسين ألف دينار، وقال له: أما خمسمائة فاقض بها دينك، وأما الخمسمائة الاخرى فاستعن بها على دهرك، ثم قال له، عليه السلام: ولا ترفع حاجتك إلا الى أحد ثلاثة: الى ذي دِين، او مروءة، او حسب، فأما ذو الدين فيصون دينه، وأما ذو المروءة فانه يستحي لمروءته، وأما ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك.
خمسون عاماً في المدينة، ما هي المكافأة؟!
هكذا ربى الامام الحسين، عليه السلام، أهل المدينة، وقد أمضى ردحاً طويلاً من عمره الشريف بين ظهرانيهم، وهم على معرفة تامة به وبأسرته العظيمة، وهم أهل بيت العصمة والطهارة الذين طالما قال فيهم رسول الله، من جميل القول وعظيم المنزلة على مرأى ومسمع من النساء والرجال، الصغار والكبار.
فكيف كانت المكافأة؟!
انحرف مجتمع المدينة عن ثقافة أهل البيت بشكل غريب منذ الساعات الاولى لغياب رسول الله عن دار الدنيا، وما حصل من مؤامرة السقيفة، ثم الهجوم الغادر على دار أمير المؤمنين، وانتهاك حرمة الصديقة الزهراء، و زاد الانحراف بشكل خطير خلال العشرين سنة قبل تولّي أمير المؤمنين الخلافة والقيادة السياسية، فقد “حَليت الدُنيا في عيونهم”، كما تنبأت لهم الصديقة الزهراء في خطبتها الفدكية المدوية، فضعُف الايمان، وتقلصت مساحة الاخلاق في السلوك والثقافة العامة، وصار هم الناس الحصول على المكاسب والمغانم من الغزوات في البلاد البعيدة، حتى تفاجأ الناس بتركة لأحد “الاصحاب” عبارة عن قطع كبيرة من الذهب كسروها بالفؤوس لتوزيع الميراث!
لذا عندما بلغ المسلمون في جميع الامصار نبأ صعود يزيد الى قمة الحكم بعد موت ابيه معاوية لم تستشعر الغالبية العظمى من الامة أي خطر على الدين والعقيدة وما خلفه النبي الاكرم من الثقلين: كتاب الله وعترته أهل بيته، وعندما أعلن الامام الحسين رفضه البيعة ليزيد، لم ينتبه أحد في المدينة الى الاسباب، وربما لم يسألوه ليكونوا على بيّنة من أمرهم ويعرفوا مسؤوليتهم، ليس هذا فقط، وإنما شاهد الناس في المدينة كيف أن الامام الحسين أعدّ قافلة عظيمة يغادر بها الى العراق، فيها نساؤه واطفاله، و إخوته وأهل بيته، ولم يكن رد الفعل سوى التحذير والاشفاق من الذهاب الى العراق وتحديداً الكوفة لمصداقيتهم المطعونة منذ تجربة أمير المؤمنين معهم، أما التضامن والتفاعل، فضلاً عن الانضمام الى القافلة، فهذا ما لم يحصل إلا ربما للقليل.
ولعل تأكيد الامام الحسين، في رسالته الى أخيه محمد بن الحنفية، بأن “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي” يكشف عن مدى حاجة الامة آنذاك، وعلى طول الخط، الى الإصلاح في النفوس قبل كل شيء، ثم الاصلاح في الواقع الخارجي.
تقول المصادر أن العقيلة زينب، سلام الله عليها، عاشت ظروفاً نفسية قاسية بعد عودتها من واقعة كربلاء، وما جرى على الامام الحسين، وأهل بيتها، وما جرى عليها وعلى أسرة الامام من السبي الآثم، فقد أعادت المدينة التاريخ لما قبل خمسين عاماً، عندما تبرّموا وانزعجوا من بكاء الصديقة الزهراء، الامر الذي اضطر أمير المؤمنين لبناء بيت صغير لها خارج المدينة تبكي فيها وتشكو محنتها وظلامتها الى أبيها رسول الله، ليل نهار، وهذا ما حصل مع ابنتها العقيلة زينب، فما أغرب التشابه والتطابق في الموقفين المتخاذلين مع ريحانتي رسول الله، وقد نقل سجل التاريخ أن العقيلة زينب أغلقت باب بيتها ولم تسمح بدخول أية امرأة إلا أم ولد أو ممن كانت معها في قافلة السبي، وهذا يؤكد لنا عدم رضا العقيلة على موقف نساء المدينة ولا أهلها بشكل عام مما جرى في كربلاء، ويعزو باحثون سبب مغادرة العقيلة زينب المدينة نهائياً الى الشام، الى مشاعر الخذلان والخيبة التي ألمّت بها.
المصدر: شقفنا العربي