إسماعیل شفیعي سروستاني
إن مفردة «الجاهلية» تأخذ بالقارئ على الفور إلى ألف وأربعمائة عام إلى الوراء. إلى عصر وجيل اعتبرا «جهلاء» بسبب الاتصاف ببعض الصفات والقيام ببعض الممارسات التي تعرف ب«الجاهلية» لدى أصحاب الثقافة والحضارة.
فكلمة الجاهل تكون أحيانا مرادفة ل «عديم الاطلاع والعلم» و «البدوي» و «عديم الثقافة والأدب» ومن يتصف بالعصبية ودناءة الطبع و يمارس القتل والنهب والسلب، وتحمل في جنباتها مفهوما عن «الذم» و «اللوم».
و يرى مؤلفو المناهج الدراسية والمؤرخون وخبراء العلوم الاجتماعية بأن التحول عن الصفات المذكورة والابتعاد عن بعض الأعمال المذمومة مثل «وأد البنات» يعد الفاصل بين عصرين و زمنين. العصر الأول ما يعرف بـ«عصر الجاهلية» والعصر الثاني الذي يتميز عن العصر الذي سبقه بصفات مثل العلم والأدب وضبط النفس وتجنب الدنس والرذائل.
و في العصر الذي كان فيه العرب والمسلمون قد اجتازا للتو «عصر الجاهلية»، قال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله:
«بُعِثْتُ بَيْنَ جَاهِلِيَّتَيْنِ؛ لأُخْرَاهُمَا شَرٌّ مِنْ أَوَّلِهِمَا.»1
ويقول إمام المتقين عليبن أبيطالب علیه السلام في «نهجالبلاغة» في معرض وصفه لعصر ما قبل بعثة نبي الإسلام صلی الله علیه و آله:
«بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَة، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَة، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِليُّةُ الْجَهْلَاءُ؛ حَيَارَى فِي زَلْزَال مِنَ الأمْرِ، وَبَلَاء مِنَ الْجَهْلِ، فَبَالَغَ صَلِّى اللّهُ عَلَيهِ وآلِهِ فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.»2
ولابد من التساؤل هنا: هل إن البشرية قد تجاوزت حقا عصر الجاهلية واتصفت بجميع الصفات التي يمكن أن نزعم من خلالها بأن الانسان قد بلغ عصر العلم والمعرفة وضبط النفس؟
إن صفات مثل القتل والنهب والسلب وشرب الخمر والتعصب المذموم و وأد البنات وعبادة الأصنام والتبرج تنسب عادة إلى عصر الجاهلية، ويتم تقليد إنسان العصرالحاضر بوسام التقدم والتحضر والابتعاد عن ممارسات و أوصاف عصر الجاهلية، لكن هل يتم الإتيان حقا بمستندات حقيقية تستطيع أن تبرئ ساحة الإنسان المعاصر من تهمة الجاهلية؟
إن نبي النور والرحمة صلی الله علیه و آله كان قد اطلع المسلمين منذ بداية البعثة، على تجربة الجاهلية الثانية وقال بأن هذه الجاهلية هي أسوأ و شرّ من الجاهلية الأولى. وبعده صلی الله علیه و آله، جاء رجال من أسرة العترة والطهارة فنبهوا المسلمين إلى «الجاهلية الثانية» وتحدثوا عنها؛ بحيث أن الإمام الصادق علیه السلام وفي معرض تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه «وَلَاتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى» قال انه ستكون هناك جاهلية أخرى.3
إن المبشرين والمروجين لثقافة وحضارة العصر الحديث وبانيي الحضارة التكنولوجية الغربية، ينأون بأنفسهم وبشرية العصر الحديث، عن أي جاهلية و أوصاف العصر الجاهلي، بينما البشرية قد انقصم ظهرها بفعل كثافة القتل والنهب والسلب والحرب وسفك الدماء والفساد والضياع.
إن القرن العشرين بوصفه أبرز القرون ما بعد تشكل الثقافة والحضارة الغربية، قد انقضى فيما تفوق مجمل الجرائم التي اقترفت ضد مضطهدي ومظلومي شرق العالم وغربه على مجموع جرائم تاريخ الحياة الإنسانية على مدى عدة آلاف أعوام على الكرة الأرضية.
وقد انقضى هذا القرن فيما شهد حروبا عالمية تسببت بمقتل أكثر من مائة مليون إنسان.
وفيما كان يُظن بأن البشرية ستشهد حالة من الاستقرار والأمان والسلام بعد الحرب العالمية الثانية وقيام المنظمات الدولية، فإن نحو مائة وخمسين حربا إقليمية وفوق إقليمية خلفت تلالا من القتلى فاقت أعدادهم الثلاثة وعشرين مليون قتيل. وفضلا عن ذلك فإن الطغاة والحكام الجائرين انفقوا ما بين 900 مليار إلى ترليون دولار سنويا لإشعال نار الحروب والنفخ فيها، بحيث أن الإحصاءات العالمية تفيد أنه تم إنفاق نحو مليوني دولار في كل دقيقة خلال السنوات الجارية متعلقة بالمحرومين والمستضعفين، ولم يعترف أحد بأن تكلفة صاروخ إسبارو واحد تساوي تكلفة طعام ألف شخص في مدرسة داخلية كبيرة على مدى خمسين عاما. وفي السياق نفسه فإن لا أحد أبدى اهتماما بمجاعة مليار إنسان من سكان المعمورة عام 2009م.
وفي أي سنة و زمن من سنوات وأزمان العصر الجاهلي حدث كل هذا القتل والترويع والنهب والسلب ضد البشرية، وكيف يمكن اعتبار العصر الحديث، بأنه عصر العلم والمعرفة والوعي؟
ويجب التساؤل: أي باحث غربي أو مسلم شرقي أحصى عدد الفتيات اللواتي تم وأدهن في العصر الجاهلي؟ وكم عدد الفتيات اللواتي قتلن أو تم وأدهن في تلك السنوات على يد آبائهن؟ وهل تتساوى هذه الأرقام مع الإحصاءات العالمية التي تقول أن خمسين مليون فتاة وفتى تم وأدهم سنويا عن طريق «الإجهاض» خلال القرن العشرين؟ وقد احتلت كل من «بريطانيا» و«فرنسا» و«روسيا» و«أمريكا» أعلى المراكز في مجال الأجهاض سنويا.
ضعوا هذه الأرقام إلى جانب مائة إلى ثلاثمائة ألف طفل يذهبون سنويا ضحية البغاء والدعارة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وكما قال نبي الرحمة صلی الله علیه و آله فان البشرية وصلت إلى مرحلة تجربة الجاهلية الثانية. تلك الجاهلية التي نطلق عليها اسم الجاهلية الحديثة.
ما تمت الإشارة إليها مدخل لقضية جديدة في عصرنا الحاضر فليس في البلاد الإسلامية فحسب بل في كل العالم و التي أحاط كل العالم بصور مختلفة و هذا موضوع تطرق إليه النبي صلی الله علیه و آله من أول أيام ظهور الإسلام و أكد على تسربه في نفوس الناس و أشار إليها بعنوان الجاهلية الثانية.
و مع الأسف أننا ما اهتممنا إليها فحسب بل وسعنا إطارها بأعمالنا و سببنا تؤثر على كل أصعدة حياتنا فرديا و اجتماعيا .إن أحوال الإنسان و ما يحدث حوله في يومنا هذا كلها ناتج عن الغفلة و القصور عما حذرنا النبي صلی الله علیه و آله منه قبل 1400 سنة و من المؤسف أننا بعد كل هذه التحذيرات و الإنذارات نحن مواجهون بالعنف و الصراعات و التعصبات و الحروب و حمامات الدم الكثيرة و كل هذه الأمور يشغلنا عن الهدف الغائي و هو الوصول إلى قربة الله تعالى و ما قدره للإنسان.
طبعا نحن أنفسنا يمكننا بالاستفادة من قوة العقل التي أعطاناه الله تعالى نميز الحق من الباطل و نسير في الصراط المستقيم و لا يتم هذا إلا مع تزايد وعي الإنسان و التفكر فيما حوله .و تهدف مجلة الصراط الإلكترونية من خلال تطرقها إلى هذا الموضوع تزايد المعلومات و وعي الإنسان للوصول إلى الهدف العالي للإنسان.
الهوامش:
1. «العقل والجهل في الكتاب والسنة»، محمّدرشيد، ص 273.
2. «نهجالبلاغة»، الخطبة 94.
3. «بحارالأنوار»، ج 22، ص 189.
المقتبس من «الجاهلیة الحدیثة»، إسماعیل شفیعي سروستاني، موعود عصر، طهران، 1389 ش.