قبیلة اللعنة: من فرسان الهيكل إلى مصر القديمة

إن معظم مؤرخي الماسونية متفقون على أن منطلق ونشأة هذا التنظيم تعود إلى الحروب الصليبية، على الرغم من أن الماسونية أسست في مطلع القرن الثامن عشر للميلاد في «بريطانيا»، لكنها تضرب بجذورها في الحروب الصليبية التي اندلعت في القرن الثاني عشر للميلاد. وفي منعطف قصة الماسونية المعروفة، ثمة طائفة يطلق عليها إسم «فرسان الهيكل» أو «فرسان المعبد».

وقد وصلت مجموعة خليطة ومتعددة الوجوه للصليبيين إلى أورشليم بعد رحلة طويلة وعصيبة تخللتها عمليات نهب وسلب وإبادة جماعية للمسلمين عام 1099 للميلاد. وقد سقطت مدينة «اورشليم» بعد حصار دام خمسة اسابيع ودخلها الصليبيون بعد ذلك.
وجعل هؤلاء من أورشليم حاضرة لهم، وامتدت بذلك حدود السلطنة من أرض «فلسطين» إلى «أنتياك» (في «سورية» و«تركية»). لكنهم ومذاك فصاعدا، انخرطوا في مواجهات جديدة هدفها حماية موقعهم في الشرق الأوسط. وكانت حماية وحفظ الدولة حديثة التأسيس بحاجة إلى تنظيم. ولهذا الغرض شكلوا تشكيلات وتنظيمات عسكرية، جلبوا أعضاءها من أوروبا إلى فلسطين وكان هؤلاء يعيشون في أماكن تشبه الصوامع، وتلقوا تدريبات عسكرية لخوض حرب مع المسلمين. وإحدى هذه الجماعات التي كانت تختلف عن البقية وجربت تغييرا أثر على مجرى التاريخ، سميت بـفرسان الهيكل.
ويقف حراس الهيكل، بشكل رئيسي وراء الحملات اللاحقة التي شنها الصليبيون على المسلمين وقتلهم. ولذلك فان القائد الاسلامي الكبير صلاح الدين الأيوبي هزم جيش الصليبيين في معركة «حطين» وأنقذ أورشليم، وسلم فرسان الهيكل إلى الموت بسبب الجرائم التي اقترفوها، بينما كان قد صفح قبل ذلك عن الكثير من المسيحيين. لكن فرسان الهيكل واصلوا حياتهم  بالرغم من خسرانهم أورشليم وتكبدهم خسائر فادحة، ورغم تراجع الوجود المسيحي المتزايد في فلسطين، وزادوا من سطوتهم وسلطتهم في أوروبا، وتحولوا إلى جزء من دولة بداية في فرنسا ومن ثم في سائر البلدان.
ولا شك بان سلطتهم السياسية أربكت الملوك الاوروبيين. لكن الجانب الاخر من فرسان الهيكل الذي أزعج رجال دين الكنيسة، تمثل في إعراض المنظومة عن الديانة المسيحية تدريجيا وحضورها في أورشليم واعتناقها أفكارا سرية وباطنية جديدة. وسرت شائعات بشأن تنظيم وترتيب آداب وتقاليد خاصة لتجسيد هذه التعاليم.
وفي نهاية المطاف، قرر فيليب لوبل ملك فرنسا عام 1307م. القبض على أعضاء هذه الزمرة. لكن بعضهم نجح في الإفلات والفرار، لكنهم معظمهم ألقي القبض عليه. وبعد دورة طويلة من التحقيق والمحاكمة، أقر الكثير من الفرسان بمعتقداتهم التي اكتنفتها البدع والهرطقات واعترفوا أن من بينهم من أهان السيد المسيح علیه السام . وتم في النهاية إعدام قادة فرسان الهيكل والذين كانوا يسمون «الأستاذ الكبير» بمن فيهم جاك دوماني عام 1314م. وذلك بأمر من الكنيسة والملك وزج عدد كبير أخر منهم في السجون. وتبعثرت “الزمرة” واختفت رسميا.
وانتهت محاكمة فرسان الهيكل، ورغم أنهم لم يبق لهم وجود على أرض الواقع، لكنهم لم يختفوا نهائيا. وخلال الإعتقالات التي طالتهم عام 1307م. نجح بعض فرسان الهيكل، في الهرب من دون أن يتركوا أي موطئ قدم لهم. وطبقا لرسالة مستندة بمستندات تاريخية، فان عددا رئيسيا من أعضاء هذه الزمرة، لجأوا إلى بلاد السلطنة الاوروبية الوحيدة التي كانت لا تعترف بالكنيسة الكاثوليكية، أي «اسكتلندا». وأقدم هؤلاء في كنف ودعم ملك اسكتلندا روبرت بروس، على إحياء تنظيمهم ووجدوا بعد فترة، طريقة مناسبة تمكنهم من مواصلة حياتهم غير المشروعة. واخترق هؤلاء أهم محفل لجزر بريطانيا إبان القرون الوسطى أي «محفل وال بيلدز» (Wall Builders’ Lodge) وسيطروا عليه في نهاية المطاف بالكامل.
وكان هذا المحفل قد غير اسمه في مطلع العصر الحديث إلى «المحفل الماسوني» (Masonic Lodge).

فرسان الهيكل والكابالا
لقد تعرض فرسان الهيكل طوال فترة استقرارهم في أورشليم لتغيرات هائلة، واعتنقوا معتقدات أخرى متأثرين بالمسيحية. وثمة سر يكمن في صلب هذا الموضوع واكتشفوه في هيكل سليمان. ويعتبر مؤلفي هذا الكتاب، أعضاء نظام الهيكل بانهم حراس الزوار المسيحيين لفلسطين، لكنهم كانوا يتظاهرون بهذا لتحقيق مآرب أخرى.
ولم يكن مؤلفو كتاب «مفتاح حيرام» من اكتشفوا وحدهم هذه الشواهد. ويطلق المؤرخ الفرنسي دلافورج إدعاء مماثلا فيقول:
إن المهمة الرئيسية لتسعة فرسان كانت تتمثل في إنجاز البحوث لإكتشاف الآثار التاريخية والمخطوطات التي تضم ماهية التقاليد الخفية لليهودية ومصر القديمة.1
ويرى مؤلفو كتاب «مفتاح حيرام» أن الحفريات التي قام بها هؤلاء الفرسان لم تكن عقيمة ومن دون جدوى، ويستدلون بان هذه المجموعة اكتشفت آثارا في أورشليم غيرت رؤيتهم تجاه العالم. وفضلا عن ذلك فان الكثير من الباحثين الاخرين لديهم نفس الإعتقاد والرؤية. وكان ثمة سبب حتما لكي يغادر فرسان الهيكل ورغم كونهم مسيحيين، البلاد المسيحية ليتوجهوا إلى أورشليم ويعتنقوا معتقدات وفلسفة مختلفة تماما وينفذون مراسم تكتنفها البدع ويقيمون تقاليد «السحر الأسود».
وحسب الرؤية المشتركة للعديد من الباحثين، فان هذا السبب يتمثل في «الكابالا».
والمعنى اللغوي للكابالا هو «التقليد الشفهي». وعرّفته الموسوعات والقواميس بانه تفرع غامض وسري من اليهودية. ووفقا لهذا التعريف فان الكابالا تسلط الضوء على المعاني الخفية للتوراة وباقي الكتابات اليهودية، لكننا نتوصل إلى حقائق أخرى من خلال دراسة الموضوع بشكل أدق بما في ذلك أن «الكابالا» نظام يضرب بجذوره في عبادة الأوثان، وكان قائما قبل التوراة وانتشر واتسع نطاقه في اليهودية بعد ظهور التوراة.
ويكتب الماسوني التركي مورات ازجن في كتابه بعنوان «ما هي الماسونية وكيف هي؟»:
لا نعرف بوضوح من أين أتت الكابالا وكيف انتشرت. وهذا الإسم هو إسم عام لفلسفة سرية وباطنية وفريدة من نوعها وتختلط بعلوم ماوراء الطبيعة (العلوم الغريبة) والتي أمتزجت باليهودية على وجه التحديد. واعتبرت الكابالا بانها العرفان اليهودي، لكن بعض مكوناتها تظهر أنها نشأت قبل التوراة بوقت طويل جدا.2

من مصر القديمة إلى الكابالا
بدأ بنو اسرائيل عندما كان النبي موسى علیه السلام على قيد الحياة، بصناعة أشباه أوثان وذلك تقليدا منهم لما كانوا قد شاهدوه منها في «مصر» وانكبوا على عبادتها، وبعد وفاة النبي موسى علیه السلام، لم يكونوا يخشون الردة عن الدين والإنخراط في الإنحرافات. ولا يمكن بالتأكيد تعميم ذلك على كل اليهود، لذلك فان بعضا منهم انصاع لعبادة الأوثان في مصر القديمة. وقد واصل هؤلاء في الحقيقة السير على خطى ونهج «كهنة مصر» (سحرة فرعون) الذين كانوا يشكلون أساس المعتقدات الاجتماعية لتلك الحقبة الزمنية، ونبذوا إيمانهم. والمعتقدات التي تعرف عليها اليهود منذ مصر القديمة كانت تسمى بـ«الكابالا». إن هيكلية الكابالا كانت تشبه بالضبط نظام كهنة مصر، أي أنها كانت سرية وباطنية ويشكل السحر أساسها.
ويقول الماسوني التركي مورات ازجن بهذا الخصوص:
واضح أن الكابالا وجدت قبل التوراة بسنين متمادية. وأهم جزء في التوراة، هو نظرية حول نشأة الكون. وهذه النظرية تختلف تماما عن قصة الخلق الواردة في الأديان التوحيدية. وتأسيسا على الكابالا، فان اشياء تدعى «سفيراث» أي «الدائرة» أو «المدار» وبمواصفات مادية وغير مادية وجدت في مستهل الخلق والكون. وكان عددها يصل إلى 32 مدارا. والمدارات العشرة الأولى كانت مؤشرا على المنظومة الشمسية والبقية مؤشرا على الكم الهائل من الكواكب والنجوم في الفضاء. وهذه المواصفة للكابالا، تظهر أنها متعلقة بالمبادئ والأسس العقائدية الفلكية… . لذلك فان الكابالا تقف على مسافة كبيرة جدا عن الديانة اليهودية وهي على علاقة أكثر بالديانات الغامضة والقديمة للشرق.3
إن اليهود ومن خلال القبول بالعقائد السرية والمادية المتعلقة بمصر القديمة والقائمة على السحر والشعوذة، غضوا الطرف عن أحكام وتعاليم التوراة. فتقبلوا الشعائر والآداب والتقاليد السحرية لباقي عبدة الأوثان وتحولت الكابالا بالتالي إلى تعاليم سرية وخفية في الديانة اليهودية، وكانت تقف على طرف نقيض من التوراة طبعا. ويقول نستا اتش وبستر، الكاتب الانجليزي ومؤلف كتاب «المجتمعات الخفية والحركات المدمرة»:
إن السحر والشعوذة التي نعرفها، كان ينفذها الكنعانيون قبل احتلال فلسطين على يد بني اسرائيل. وكان لمصر والهند واليونان عرافيهم وكهنتهم الراجمين بالغيب. إن الهيود وعلى الرغم من اللعن الموجود في قانون موسى علیه السلام  ضد السحر، قد تجاهلوا التحذيرات، وأصيبوا بهذا المرض المعدي وشوهوا بإرادتهم وتدبيرهم السُنة المقدسة التي ورثوها بمعتقدات سحرية استعاروها من الأمم الاخرى. وبالتزامن، اقتبس الجانب الفكري للكابالا اليهودية من فلسفة المجوس الايرانيين والأفلاطونيين الجدد والفيثاغورسيين الجدد. لذلك فانه يمكن تبرير زعم المعادين للكابالا وما يقولونه أن ما نعرفه اليوم عن الكابالا، ليس يهوديا مائة بالمائة.4
إن فرسان الهيكل وبقبولهم مفاهيم الكابالا، دخلوا بطبيعة الحال في تناحر وخصام مع المؤسسة المسيحية التي كانت تحكم أوروبا. وهذا التناحر والخصام كان مشتركا مع قوة أخرى اسمها «اليهود».
وبعد القبض على فرسان الهيكل بأمر مشترك من ملك فرنسا والبابا عام 1307م.، انتقل نظامهم وهيكليتهم إلى تحت الأرض، لكن أثرهم استمر كما كان بصورة متطرفة.
ويمكن العثور على موطئ قدم لفرسان الهيكل وبعض اليهود المنضوين تحت عبائتهم، في مراحل مختلفة من تاريخ أوروبا.

الهوامش:
1. C.Wilson, the Excavation of Jerusalem, Christopher Kinght, Robert Lomas, the Hiram Key, p. 38.
2. Murat Ozgen, Masonluk Nedir va Nesildir?, Istanbul 1992, PP298-299.
3. Murat Ozgen Ayfer, Masonluk Nedir ve Nasildir? (What is Freemasonry?), Istanbul, 1992, pp. 298-299.
4. Nesta H. Webster, Secret Societes And Subversive Mouements.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *