الكفر والإيمان لغةً
يظهر من أئمّة اللغة أنّ للكفر أصلًا ومعنى واحداً. يقول ابن فارس: له أصل واحد وهو الستر والتغطية، والكفر ضد الإيمان لأنّه يغطّي الحق. «1»
وقال الجوهري: كلّ شيء غطّى شيئاً فقد كفره، ومنه سُمّي الكافر لأنّه يغطي نعم الله. «2»
وقال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشيء، ويوصف الليل بالكافر لأنّه يستر الأشخاص، والزارع لأنّه يستر البذر في الأرض، يقول تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «3». «4»
ويمكن أن يقال إنّ للكفر أصلًا آخر وهو الجحد والإنكار وهو غير الستر والتغطية، قال سبحانه: وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ. «5»
فمعنى قوله: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ: أي ينكر بعضكم بعضاً.
هذا كلّه حول الكفر، وأمّا الإيمان فالثلاثي المجرّد مثل قوله: «أمن»، «يأمن» فيراد به السكينة والطمأنينة كقوله تعالى: وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي «6».
وأمّا الثلاثي المزيد فيه فإن كان مقروناً بلفظة «من» فهو أيضاً بنفس ذلك المعنى، مثل قوله: وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «7»؛ وإن كان مقروناً باللام أو الباء فهو بمعنى التصديق، يقول سبحانه: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «8»: أي بمصدّق لنا، ويقول سبحانه: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ «9»: أي صدّق الرسول.
الإيمان والكفر في مصطلح المتكلّمين
اتّفق المتكلّمون على أنّ الإيمان بمعنى التصديق ولكن اختلفوا في أنّه بأي جارحة يتحقّق التصديق؟ فهناك أقوال:
1. التصديق اللساني
ذهب ابن كرّام السجستاني (المتوفّى: 255 ه-) إلى أنّه يكفي في تحقّق الإيمان التصديق باللسان وإن لم يصدّق قلباً، قائلًا: بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل إيمان من قال: لا إله إلّا الله محمداً رسول الله. «10»
يلاحظ عليه: أنّ كلامه هذا لا يخلو من إبهام، فلو قال: إنّ من صدّق باللسان فهو مؤمن وإن لم نعلم وفاق لسانه مع قلبه فهو أمر مقبول، إذ لا طريق لنا إلى الغيب والباطن. وأمّا لو قال بكفاية التصديق اللساني وإن علم الخلاف فهو محجوج بالقرآن الكريم، يقول سبحانه: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «11».
2. التصديق القلبي
ذهب جهم بن صفوان (المتوفّى: 127 ه-) إلى كفاية التصديق القلبي وإن كان منكراً لساناً، واستدلّ على ذلك بإيمان عمّار الذي أنكر رسالة النبي (ص) بلسانه ولمّا جاء إلى
رسول الله (ص) باكياً قال له:
«فإن عادوا فعُد»
، وهذا يدلّ على أنّ الإنكار باللسان لا يضر إذا كان القلب مطمئناً بالإيمان، قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «12».
يلاحظ عليه: بأنّ الكلام في معنى الإيمان في غير حالة الاضطرار والتقيّة، وما أُشير إليه من إيمان عمّار مع الإنكار في اللّسان فهو داخل في حالة الاضطرار وقال رسول الله (ص)
«رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه».
أضف إلى ذلك: أنّه سبحانه يكفّر قوم فرعون ويقول: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «13». فقد أذعنوا بصحّة رسالة موسى قلباً، ولكن جحدوها لساناً، فوصفوا بالكفر.
3. التصديق لساناً وقلباً مع الاجتناب عن الكبائر
ذهبت الخوارج إلى أنّ الاجتناب عن الكبائر من مقوّمات الإيمان، فلو آمن وصدّق بلسانه وقلبه ولكن كذّب أو اغتاب سيخرج من خيمة الإيمان ويدخل حظيرة الكفر. «14»
وقد استدلّ هؤلاء بآيات أجبنا عنها في كتابنا «بحوث في الملل والنحل»، وأوضح دليل على أنّ العمل بالفرائض والاجتناب عن المحرّمات ليس من مقوّمات الإيمان، قوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ «15» ترى أنّه سبحانه عطف العمل بالصالحات على الإيمان في هذه الآية وفي آيات كثيرة، وهذا يدلّ على أنّ العمل بالفرائض واجتناب الكبائر ليسا من مقومات الإيمان وإن كان لهما مدخلية تامّة في نجاة الإنسان يوم القيامة.
4. المنزلة بين المنزلتين
ذهبت المعتزلة إلى أنّ المؤمن باللسان والقلب إذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من خيمة الإيمان ولا يدخل في حظيرة الكفر بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي بين الإيمان والكفر، فلا هو مؤمن ولا كافر. وقد اشتهرت المعتزلة بهذا الرأي «16»، وهو مردود بقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. «17»
والآية بصدد الحصر، وقد بسطنا الكلام في نقد هذه النظرية في كتابنا «بحوث في الملل والنحل».
5. نظرية جمهور العلماء
الإيمان عبارة عن التصديق باللسان والإذعان بالجنان، وهذا هو الذي عليه جمهور المسلمين فلو أنّ النبي (ص) يقبل إيمان من صدّق باللسان فلأجل أنّه كان طريقاً إلى تصديقه بالجنان.
وها نحن نذكر شيئاً من عبارات القوم سنّة وشيعة، حتى يُعلم أنّ المتكلّمين من الفريقين على هذه النظرية.
قال عضد الدين الإيجي: الإيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلًا فيما علم تفصيلًا، وإجمالًا فيما عُلم إجمالًا. «18»
وقال التفتازاني: الإيمان: اسم للتصديق عند الأكثرين، أي تصديق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما علم مجيئه به بالضرورة. «19»
وقال الشريف المرتضى (المتوفّى 436 ه-): إنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي ولا اعتبار بما يجري على اللسان، فمن كان عارفاً بالله تعالى وبكلّ ما أوجب معرفته، مقرّاً بذلك ومصدّقاً فهو مؤمن. «20»
وقال ابن ميثم: إنّ الإيمان عبارة عن التصديق اللبّي بالله تعالى، وبما جاء به رسوله من قول أو فعل، والقول اللساني سبب ظهوره، وسائر الطاعات ثمرات مؤكّدة له. «21»
ثمّ إنّ هنا سؤالين لابدّ من الإجابة عنهما:
1. اتّهام نظرية المشهور بالإرجاء.
2. تعامل النبي مع المنافقين.
أمّا السؤال الأوّل، فربّما يقال: أي فرق بين نظرية الجمهور حيث اكتفوا بالتصديقين من دون إدخال العمل بالفرائض في صميم الإيمان، وما عليه المرجئة الذين اشتهروا بقولهم: «لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»؟
أقول: بين النظريتين بعد المشرقين، وذلك لأنّ القول بأنّ الإيمان هو التصديقان، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل، لأنّ جمهور العلماء يرون النجاة والسعادة فيه، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير رابح، أمّا المرجئة فهم الذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثّراً في الحياة الأُخروية ويعيشون على أساس العفو والرجاء، فهم يهتمّون بالرغبة ولا يهتمّون بالرهبة، والله سبحانه يقول: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ «22» فكلام الجمهور على طرف النقيض ممّا هم عليه، خصوصاً على ما نقله شارح المقاصد من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم. «23»
وقد شعر أئمة أهل البيت بخطورة الموقف، وعلموا بأنّ إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة، سترجعهم إلى الجاهلية، فقاموا بتحذير المجتمع الإسلامي من خطر المرجئة فقالوا:
«بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة». «24»
) كيف يمكن القول بأنّ التصديقين سبب النجاة يوم القيامة، والله سبحانه يقول: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. «25»
وأمّا السؤال الثاني فالإجابة عنه كالتالي: لا شكّ أنّ المنافقين كانوا كفّاراً، ومَن قرأ سورة البراءة يقف على ذلك، يقول سبحانه: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ «28»، ولكنّ الرسول (ص)- لمصلحة ملزمة- كان يتعامل معهم معاملة المسلم، لأنّ كثيراً منهم كانوا ذا قرابة وصلة نسبية أو سببية مع المؤمنين، فطرد هؤلاء يومذاك يسبب فوضى في المجتمع الإسلامي ويشتّت كلمتهم ويفرّقهم، فلم يكن بد يوم ذاك من التعامل معهم معاملة المسلم، ولذلك جاء الوحي بنفي الإيمان عنهم، قال سبحانه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ «&»
- القزوينى، مقاييس اللغة، ج 5، ص 191
- الجوهرى، صحاح اللغة، ج 2، ص 808، مادة «كفر»
- الحديد، آية 20
- الراغب الاصفهانى، مفردات، ص 714، مادة «كفر»
- العنكبوت، 25
- النور، آية 55
- قريش، آية 4
- يوسف، آية 17
- البقرة: آية 285
- نقله ابن حزم في الفِصَل، ج 3، ص 190
- البقرة، آية 8
- النحل، آية 106؛ لاحظ الفصل، ج 3، ص 190
- النمل، آية 14
- لاحظ: الاباضية في موكب التاريخ، ص 89- 92
- العصر، آية 3
- عبدالجبار بن احمد، شرح الأُصول الخمسة، ص 697
- التغابن: آية 2
- الايجى، المواقف، ج 3، ص 527
- تفتازانى، شرح المقاصد، ج 5، ص 176
- الشريف المرتضى، الذخيرة في علم الكلام، ص 536- 537
- ابن ميثم البحرانى، قواعد المرام، ص 170
- العصر، آيات 2- 3
- لاحظ: تفتازانى، شرح المقاصد، ج 2، ص 229 و 238
- الكلينى، الكافي، ج 6، ص 47، الحديث 5
- البلد، آيات 11- 17
- التوبة، آية 54
- المنافقون، آية 1