أسعد يولد من جديد (الحرية)

اسماعیل شفیعی سروستانی
تمضي الأيام والأسابيع كالبرق والريح، وما إن تنظر في أحوالك حتى تجد أن فترة الحداثة والشباب قد مضت ويغزو الشيب الرأس وكأن حبات الثلج قد انتشرت عليه وتنتقل إلى فترة الكهولة. وعندما تنظر إلى خلفك ترى أن كل هذه الأعوام قد مرت وكأنك عشت يوما لا أكثر كشروق الشمس وغروبها.

وكان أسعد يمر بافضل سنوات العمر، لكن وا أسفاه، أنه سيعرف قدر وقيمة هذه السنين عندما يكون قد خسرها. وإن اعتبرنا متوسط عمر الإنسان ستين عاما، فان نحو ثلاثين منه تمضي في النوم والثلاثون الباقية تمر في التحسر على مرور العمر والجدال من أجل الحياة وفي انتظار أيام أفضل. الأيام التي تمر ولن تعود.
وهذا الأسبوع كنت مضطرا للسفر إلى بندرعباس للتدريس. وقد أمضيت كل أيام الأحد إلى الأربعاء ذهابا وجيئة، لكن لم يكن أي وقت أصعب وأحلك من تلك اللحظة التي تلقيت فيها نبأ وفاة جمال اذري. وفي يوم الخميس وفي فترة الإستراحة بين الفصول الدراسية، أخبرني أحد معلمي الأدبيات بمدينة بندرعباس بوفاة جمال وصديقة غرقا في ليلة ظلماء في مياه البحر. وقد نزل النبأ علي كالصاعقة. وفي تلك الليلة كتبت قصة «الكوكب الغازي» تكريما لشبان مثل جمال وأحمد. قصة مليئة بالألم والأسى عسى أن أصدرها ذات يوم من أجلهم وفي ذكرى جمال. وكأن الأرض كلها تحولت إلى بحر هائج وكل الحياة إلى لحظة تهوي وتضع نهاية للعب شاب دورا في مشهد الحياة. لا أحد قادر على القول في تلك اللحظة بان أي لاعب لعب أفضل دور أو ما السيناريو الذي و ضعه المخرج الذي يعمل من خلف الكواليس.
واليوم مازلت أؤمن بان كل من تطأ قدماه مسرح الحياة يتولى دورا يضطلعه في فرصة ما، الانسان الذي جاء إلى هذه الحياة للعب هذا الدور. أتمنى لو كنت أعرف للعب أي دور أتيت، أو أي لعبة تبقى ماثلة في ذاكرة الزمان. لا أدري، ربما لعبة جمال كانت من أجل تحريك ذهن وقلم كاتب يُقضّي كل سنوات شبابه وأيام صحوته في الحديث معأسعد ومئات الشبان الآخرين على غرارأسعد وربما….
وفي يوم السبت اتصلت هاتفيا بأحمد وأبلغته بان موعدنا لم يتغير. وكأن أيام السبت من كل أسبوع قد ألقت بظلالها عليّ من من دون إرادتي. وكانت جميع الأعمال والمواعيد تنظم تلقائيا على أساس موعد أيام السبت.
وكان الربيع يقضي آخر أيامه والحر يفرض نفسه شيئا فشيئا، والمتنزه يكتظ أكثر فاكثر بالناس والأطفال الذين كانوا يلهون ويركضون هنا وهناك.
وعندما وصلت إلى المتنزه، كانأسعد منهمكا في الحديث مع أصدقائه. ومع مشاهدتي نهض من مكانه وألقى عليّ التحية بصوت عال، وودع أصدقائه وأتى نحوي وقال على الفور:
–    السيد مهدوي، لماذا أشعر وكأني فقدت الرغبة في مرافقة أصدقائي. إنه أمر متعب وعديم المحتوى. وخلال هذه الجلسات التي قضيتها معك، كلما هممت بالذهاب إلى المنزل في ختام حوارنا، شعرت باني لا أذهب خالي الوفاض. لقد بقي شئ في قعر هذا الإناء، الشئ الذي إن لم أقبله حتى أو أن يكون صعبا عليّ قبوله، لكنه يدفعني على الأقل للتفكير به لاسبوع كامل.
–    إبتسمت وقلت:
–    أيها الفتى، ربما سينبذك رفاقك هذه الأيام بجرم التفكير.
–    أقول صادقا، باني قد طردت منذ الآن. فعندما لا أستطيع التحدث حول فلان ماركة بنطلون أو فلان أغنية اليوم أو كعب حذاء هذا وذاك، فماذا أفيد هؤلاء؟! والأطرف من ذلك، وجهة نظر أمي. أتدري ما قالت؟
–    ماذا قالت؟
–    تقول أمي لي ياأسعد أنك غارق في التفكير منذ فترة؟ تُرى هل وقعت في الحب؟ إنتبه، يا بني الحياة أمامك.
–    ما ذنب تلك المسكينة، لأننا غرباء على التفكير في القضايا الرئيسية والمهمة ومنشغلون بالأمور الطفيفة والتافهة والثرثرة، وعندما نلجأ إلى الصمت قليلا ونستغرق في التفكير، تنهمر علينا مختلف الألقاب والأقاويل، ويسخرون منا، وإن أحبونا، يتهموننا بالحب. ما رأيك؟
–    هذا هو الحال بالضبط !
–    دعنا من هذا، فالأمر هكذا ولا مفر منه. قلت أنك استغرقت في التفكير، إذن إسأل!
–    السيد مهدوي، إسمح لي أن أبدا نقاش اليوم بسؤال حول «الحرية». لان الكثير من المجلات والصحف تكتب هذه الأيام عن الحرية. وإني أدافع أيضا عن «الحرية» والتمتع بها، لكني أحب أن تتحدث اليوم في هذا الموضوع.
وكالعادة، كانأسعد قد حدد الموضوع، ولم أرد أن أتحدث عن شئ بغير ما يريد سماعه. لذلك فقلت:
–    إن الأعمال الأدبية والثقافية للشعوب زاخرة بالإستخدامات المختلفة لمفردة «الحرية». لفظة جميلة توحي بمعنى مستحسن وايجابي في أذهان الناس. فالعديد من السياسيين والقادة العسكريين و… يستخدمون هذه المفردة للمضي قدما في أهدافهم ومآربهم ومن هنا يمكن فهم ما نسبة الدماء التي أريقت من أجل هذا الحلم.
وقبل كل شئ يجب أن تعلم بان الحرية والمناداة بها تعود إلى الذات والروح الإنسانية. فالناس قد يرضخون بارادتهم لأي صعوبات ومقاساة، لكن طالما أنهم لم يفقدوا سلامة روحهم، فانهم غير جاهزين لتقبل الرفاهية المطلقة في الأسر، وهذا الموضوع يجب مناقشته باسهاب في مكانه.
والنقطة الأخرى التي يجب أن تنتبه إليها دائما هي بان لفظة الحرية ليس لها معنى ثابتا في كل مكان وزمان، أي أن الألفاظ والكلمات تشبه أعمال الإنسان وأقواله، فتكون لها معان مختلفة حسب الرؤية وطريقة التفكير. أريد أن أقول بان الإشتراك في اللفظ لا يعني الإشتراك في المعنى.
ولا يجب تصور أن ما يُفهم عن الحرية لدى أهل الدين وأصحاب الرؤية الدينية هو نفسه لدى أنصار المذهب الإنساني. أنا وأنت قد يتكون لدينا مفهوم مختلف عن الألفاظ في الحقب المختلفة. وهذا يتوقف على الفكر والرؤية التي تسود فؤادنا وذهننا. وطالما كان الفكر الديني يسودنا وأعمالنا الأدبية والثقافية، فان انطباعنا عن مفهوم الحرية هو التحرر والأصالة والكرامة. ويقول (الشاعر الايراني) حافظ الشيرازي:
إني اعتبر شخصا حرا أن يكون متحررا من تعلقات الدنيا. كما أن عظماء وكبار الأدب الفارسي يعتبرون أن التحرر من «ما هو سوى الله» أي الخلاص والتحرر من كل ما هو غير الله، بانه الحرية بعينها.
ويقول حافظ في غزل آخر:
إن المستجدي في حيك مستغن عن ألف خلد
وإن الأسير في قيدك، متحرر من كلا العالمين
أو أنه يقول في غزل آخر:
لا أريد لحافظ أن يتخلص من ذلك الشعر المجعد
لان الواقعين في فخ شعرك، هم الأحرار
وفي هذه الرؤية فان الوقوع في أسر الصديق هو الحرية ذاتها.
أريد بهذه المقدمة أن أقول لك بان الحرية لدى أهل الديانات السماوية رديف ل”التحرر» وإن الانسان المتحرر يقبل بجميع القيود من أجل الوصول إلى حدود التحرر، لكي يكون متعلقا ومرتبطا بحي الصديق والحبيب الحقيقيين فحسب.
إن ما ذكرته يتعلق بالعصر الذي كان يتغلب فيه الفكر المعنوي على أدب وثقافة الايرانيين، لكن ومنذ أن تغلب التنوير الفكري والرؤية التنويرية على أدب شعب هذه البلاد وخاصة الدارسين، صنعت معان جديدة للألفاظ والمصطلحات بما في ذلك لمفردة الحرية وهذه النظرة إلى الحرية لم تكن غير مسبوقة طبعا.
وقرأت في قصة أن الإمام الكاظم(ع) مر ذات يوم في الطريق فسمع صوت الموسيقى والغناء يعلو من بيت، فقرع الباب، وجاء الخادم ليفتحه، سأله الإمام ما إذا كان صاحب البيت حرا أم عبدا؟
فاجاب الخادم: حر.
قال الإمام: صحيح، فان كان عبدا لم يكن هكذا!
وفي الفكر القائم على المذهب الإنساني فان الليبرالية كانت تنطوي على مفهوم أخذه المتنورون واستخدموا لفظة الحرية محله أثناء الترجمة. وفي الأدب السياسي والإجتماعي لايران، ومنذ العصر القاجاري ولحد الآن استخدم لفظ الحرية للدلالة على الليبرالية، بحيث كان الإنسان التحرري يوصف بالليبرالي.
وإن كان أهل الأدب والثقافة يريدون ترجمة الليبرالية في ضوء مفهومها السائد في الغرب، كان عليهم استخدام لفظة الإباحية محلها، لان اسم الليبرالي كان يطلق على الانسان الذي كان قد تحرر في الغرب ما بعد عصر النهضة ـ وشرحت لك الموضوع سابقا بالتفصيل ـ من قيود الدين والتقاليد الدينية ونبذ أحكام الشريعة المسيحية.
وكان المؤمنون بالدين يطلقون على الأشخاص المتحللين والمتبعين لأهوائهم وتمنياتهم النفسية ويبيحون ارتكاب أي عمل يخالف أحكام الشرع، إسم الإباحي.
–    إذن، «الحرية» و «الليبرالية» ليستا مترادفتين أصلا. فهل كان التلاعب بالمعنى هذا متعمدا بتقديرك؟
–    لا يفرق إن كان متعمدا أو غير متعمد، رغم أنه لا يمكن التفاؤل بكونه كان غير متعمد نظرا إلى ما قلته لك عن أداء وتصرفات ملكم خان، لانه يقول بصراحة بانه كان يؤطر المفاهيم الغربية باطار ديني وبالتالي كان ينشر التحرر من القيود الدينية بين الناس تحت اسم «الحرية» المزور.
لذلك يجب أن تعرف بان الليبرالية أو التحرر التنويري يختلفان في المعنى عن الحرية والشهامة والكرامة الواردة في النصوص الإسلامية والإيرانية، لان كل مفردة ولفظة لها مفهومها الخاص بها وكل معنى ومفهموم يستمد قوته من فكر خاص. فعلى سبيل المثال، طالما لا يؤمن أحد بالله والقيامة والشهادة وعالم الغيب، فانه لن يطلب الحرية والشهادة والتضحية على طريق الامام الحسين(ع).
ويقول برتراند راسل:
إن الليبرالية كانت ترفض كل ما هو قروسطيّ (المتعلق بالقرون الوسطى) أكان في الفلسفة أو السياسية.
وتتذكر حتما بان الفلسفة والسياسة والثقافة كانت خاضعة في القرون الوسطى للديانة المسيحية والكنيسة، لذلك فان مفهوم الليبرالية يعني معارضة كل ما يتسم بصبغة دينية في كافة المجالات. وقبل نشأة هذه النهضة، كان المسيحيون يستلهمون معتقداتهم العامة حول العالم والانسان ومقام كافة الكائنات من مصدر غير إنساني أي الدين وكلام الأنبياء والكتب السماوية، لكن الليبراليين أصبحوا بصدد تحرير الإنسان من الإيمان المعنوي والديني.
–    من أي منظار ينظر الليبراليون إلى الحرية وما الفرق بين حريتهم التي يصبون إليها والكرامة والشهامة؟
–    بداية يجب أن أقول باني لا أنوي خوض الموضوعات الفلسفية والكلامية المعقدة. وقد تحب أنت يوما أن تدخل في تفاصيل الموضوع وتدرسه بالتفصيل. لكن ردا على سؤالك هذا أكتفي بالقول أنه عندما نقول بان شيئا قد تحرر أو شخصا قد تحرر نعني أنه تحرر من قيد كان يكبله أو أنه فصل نفسه عن متكأ كان يتكئ عليه. وهذا المتكأ خفي تارة وجلي تارة أخرى. والنبات الذي لا يستطيع الوقوف على قدميه مثل النيلوفر والمعترشة يربط بشئ يُستند إليه لكي ينمو، وعندما يخضع طفل ما للتربية والتنشئة فانه يوصل في الحقيقة بمتكأ تجربة وخبرة الكبار ومعرفة المعلمين. وإن نظرت بشكل صحيح ستجد بان المتكأ مربوط هو الاخر بمكان ما، لكنه ليس مثل المتعرشة والطفل. فالآباء والأمهات يتكئون على مجمل تجارب وخبرات آبائهم وسنوات عمرهم التي قضوها، والمعلمون كذلك. والأرض لم تترك وشأنها، بل هي مربوطة بقوة أكبر. إن تصور أن كل شئ متحرر ويسير حيثما يشاء هو وهم وخيال ليس إلا. وهذه الأجسام ليست وحدها التي تتصل بمكان ما، بل إن نظرت ستجد أن الكواكب والنجوم بكل عظمتها وحجمها متصلة ومربوطة بقوة جاذبة وخفية صلبة تحميها، وحتى أن الشخص الذي يقول أنا حر وأحب الحرية، فهو مربوط بقلبه وأهوائه. وقد ضربت لك هذه الأمثلة لتعرف بان الحرية التي يتحدث عنها الليبراليون لا توجد إلا في الوهم والخيال. والفارق الوحيد في المتكآت والمساند. مثلا عندما يتمرد فتى شاب على أوامر ونواهي أبويه ويقول أني حر وأفعل ما أشاء، فانه يطيع في الحقيقة أوامر ونواهي باطنة الخفي والمستتر. وهنا يجب النظر باي شئ نرتبط ونتصل أثناء الإنتخاب.
لنفترض أنك عقدت صداقة مع إنسان منفعل ينجر وراء أحاسيسه ويعشق في كل ساعة شيئا ما، فيتمنى اليوم شيئا ويدعوك إلى الشئ الذي يحبه وأن تركز كل ما لديك من حواس وانتباه واحساس على ذلك الشئ، لكن ما أن ينقضي اليوم ويحل يوم غد حتى تجد أنه أحب شيئا آخر ويطلب منك أن تميل إليه. أتدري ماذا سيحدث إن استمر هذا الوضع؟ واضح أنك تذهب يوميا إلى مكان وتتصرف وفق ما يريد، لكن ما أن تفتح عينيك ستجد أنك تائه وحيران لا تدري أين تذهب. لذلك فان الحديث عن الحرية المطلقة التي لا حدود لها هو مزحة ليس إلا، لانه عندما يحطم الانسان في أجواء هذه الحرية نقطة الإرتكاز ويتصل باهوائه، فهل يمكن القبول بانه يمضي قدما لبلوغ الكمال ونيل الحقيقة؟! الجواب واضح وهو كلا! لان هذا التصرف ينطوي بحد ذاته على نوع من الغموض والتعقيد، لان الحصيلة تتحقق أحيانا من سوء فهم ونزوة عابرة لشخص نتعلق به لنمضي قدما إلى الأمام. وألا يمكن من هنا الإشارة الى هذه النقطة وهي هل أن الحرية التي تنشدها الليبرالية تعني التورط بالذات أو التورط بمطلب وخيال شخص على شاكلتنا؟ في حين أنا وأنت أو الآخرين كلنا أناس قابعون في ظرف الزمان والمكان الخاص والإنطباعات المرحلية وأن كل هذه القيود لا تسمح بان نشكل لانفسنا مستندا ومتكأ ونقطة ارتكاز موثوق بها ودائمة ومبعث استقرار. إن راحة البال وراحة الفؤاد تتحقق عندما لا يكون هناك خوف من التغيير. الخوف من أن تفتح عينيك فجأة و ترى أن ما قلته و سمعته و فعلته لم يكن إلا خيالا ووهما واستنتاجا خاطئا، وعلى العكس إن عرفت بان ما تقوله وتفعله هو الشئ الذي يجب أن يكون، فان الإستقرار النفسي سيتحصل، الإستقرار النابع من نقطة ارتكاز يمكن الوثوق بها.
–    كيف وصل الليبراليون إلى هذا التعريف عن الحرية؟
–    لقد تحدث إليك سابقا عن الرقيّ أو التكامل. ذلك الشئ الذي يلتزم به الحداثيون، وإن تذكر، قلت هناك بان الحداثيين يعتبرون الرقي الكميّ و”القابل للتجربة» أساسا للحياة. وكأن الانسان من وجهة نظرهم جاء إلى هذا العالم الترابي لكي يتقدم ويتطور ماديا ولا شئ آخر. وهذا أدى بالحداثيين إلى الإعراض عن أي نوع من الإنتماء إلى الدين والثقافة الدينية.
ولديكارت هذا العالم الغربي ومؤسس الفكر الأوروبي الحديث، جملة يمكن من خلالها فهم الكثير من الأشياء. فهو يقول: إن كل ما يبدو لنا بوضوح كبير، فهو صحيح. وقصده من الوضوح طبعا هو كون الشئ ملموسا وتجريبيا وقابلا للتحسس، وبناء على ذلك فان أي شئ غير عادي يُنبذ من قبل المتنورين.
–    وبذلك فان تعريف الإنسان تغير في الفكر المتعلق بالمذهب الانساني وتم إنكار الجانب المعنوي والروحي له، أي بما أنه لم يكن بمقدورهم لمس وتجربة الجانب الروحي للانسان كما يفعلونه مع الأجسام، فقد رفضوه. لذلك أصبح الإنسان «جسما» فحسب. لكن ماذا سيحدث إن تقرر أن يتصرف الانسان وفق «ذاته» أو «أنا» النفسية والجسدية؟
لكان ينشأ أنواع وأقسام المذاهب والتيارات الاجتماعية والسياسية و… وكانت تعيش في صراع وحتى حرب مع بعضها البعض، لكنها مشتركة في امتلاك أساس فكري ومذهب إنساني، لذلك فان لا فرق بين المذهب الماركسي والنظام الرأسمالي أساسا. ويختلف فقط ظاهر عملهما الاجتماعي والسياسي. ويجب أن تعرف بان الليبراليين يعتمدون توجها مبنيا على التسامح والتساهل إثناء التعامل مع القضايا الاجتماعية والتوجهات الدينية ويروجون لهذا المشرب. على النقيض من الماركسيين الذين ينكرون الدين ويتخذون موقفا واضحا معاديا للدين والتوجهات الدينية.
–    وهذا التساهل والتسامح هما ضمن تلك الفئة من المفردات التي قرأتها وسمعتها أكثر من أي شئ آخر هذه الايام، لكن لا أعرف حقا لحد الان شيئا عنها.
–    لا بأس من الحديث حول هذا الموضوع، لكن اترك الباقي ليوم آخر.
وجمعت مقتنياتي التي كانت على المقعد ووضعتها في حقيبة اليد وغادرت معأسعد ومررنا عبر المجاز الضيق الممتد بين الجنينيات. وكان الأطفال يلعبون ويمرحون في الأرض العشبية وبين الأشجار. وفيما كانأسعد غارقا في التفكير ومنكسا لراسه إلى أسفل، قال بصوت هادئ:
–    لو تحدثت عن «الكوكب الغازي» والقصة التي كتبتها في تلك الليلة في «بندرعباس»، يجب أن تكون ملفتة!
–    كيف تذكرت «الكوكب الغازي»؟
–    خطر ذلك على بالي بغتة! لقد أحزنني كثيرا غرق جمال اذري.
–    إني أحب أيضا هذه القصة. رغم أنها لم تكتب كما كنت أود.
–    لماذا؟
–    لأنه كان يحدث تباطؤ في كتابتها كل يوما لسبب ما، إلى اليوم حيث تمضي قرابة ثلاث سنوات على غرق جمال.
–    هل بالإمكان أن تقول لي خلاصة القصة؟
–    يبدو أن لا سبيل لي للتهرب منك، سأقول لك.
تبدأ القصة من حيث أن شابا بنفس العمر مع جمال، يمر في ظهيرة ذات يوم بجانب الساحل الساخن والرملي، فيرى سفينة فضائية جاثمة على الشاطئ الخالي من المارة. فيأخذ ركاب السفينة، الشاب معهم.
والخاطفون هم من كوكب آخر يفكرون منذ قرون خلت، بمهاجمة الأرض والإستيلاء عليها. والشاب لا يقدر على المقاومة ويشغلونه بعد فترة، في مختبراتهم الخاصة بهم ويُخضعونه لتدريب خاص. وبعد مدة، تعود السفينة الفضائية ذاتها بالشاب إلى الأرض، بينما كان قد تلوث بجرثومة خطيرة للغاية قادرة على تلويث الكثير من سكان الأرض.
وعندما يعود الشاب إلى الأرض، ينبته من خلال الشارة الخاصة التي نقشت على صدر بعض سكان الأرض وأبناء مدينته إلى أنه لم يكن الوحيد الذي أختطف على يك سكان الكوكب الغازي ولوّث. وعدوى المرض القاتل الذي يحمل هذا الشاب جرثومته، تنتقل إلى جميع الذين يخالطونه تدريجيا بحيث ينحسر ويتراجع حرصهم وتعصبهم تجاه مدينتهم والبلاد التي يقطنونها شيئا فشيئا. ويصبح الشاب غير قادر على إبداء أي ردة فعل تجاه مطالب سكان الكوكب الغازي إلى أن يتعرف ذات يوم على رجل عجوز يعمل صيادا للسمك على الشاطئ، صنع لنفسه كوخا صغيرا من سعف النخيل يعيش فيه. وما أن رأى العجوز، الشاب والوشم الأصفر على صدره، يتبادر إلى ذهنه مرضه ومن دون أن يتحدث إليه عن هذا الموضوع، يعقد معه صداقة. ولا يمر وقت حتى ينجذب الشاب إلى الرجل العجوز وكلامه الوديّ لدرجة أنه يصبح غير قادر على الإنفصال عنه.
وتتوطد محبة الشاب، للرجل العجوز وكلما يمضي يوم يتحول كلام هذا الرجل إلى نافذة جديدة ينظر من خلالها الشاب إلى العالم.
ويتذكر الشاب ذات يوم أنه وفق الوعد الذي قطعه لركاب السفينة الفضائية، يتعين عليه تجهيز نفسه للعودة إلى الكوكب الغازي. وفي غروب آخر وبينما كان الشاب جالسا على الشاطئ وينظر إلى الأفق البعيد في البحر، يبدأ في الحديث عما جرى له.
ويطلب منه الرجل العجوز أن يعد نفسه للعودة إلى الكوكب الغازي ومواجهة سكانه. ويتحدث الشاب عن عجزه في مواجهة هؤلاء لكن الرجل العجوز يجدد الأمل لديه ويطمئنه بانه قادر على تدمير ذلك الكوكب بمفرده وبالتالي إنقاذ سكان الأرض. وفي لحظة الوداع يُهدي الرجل العجوز درة خضراء للشاب ويطلب منه ألا يفصلها عنه إطلاقا.
وظهر اليوم التالي، تهبط سفينة الفضاء على الشاطئ. ويتجه الشاب الذي تجمعت العبرات في عينيه نحو سفينة الفضاء. وينظر الشاب من نافذة السفينة الفضائية إلى الأرض وسكانها. وتهبط السفينة الفضائية على سطح الكوكب الغازي، فيما يشير عطل أجهزة التوجيه والقيادة في السفينة إلى وجود شئ غريب وغامض فيها.
ويصل الشاب إلى المختبر المركزي في الكوكب ويجتاح أنبوب غريب كل القائمين على غرفة المراقبة والمختبر المتطور والملئ بالأدوات الإلكترونية. وتنطلق صفارات الإنذار. ويحدق الشاب المضطرب والقلق الواقف في زاوية من الموقع إلى «الدرة الخضراء». وتملأ الدرة الخضراء قلبه بذكرى الأرض والعشق الذي يكنه للرجل العجوز. وتزداد هزات غرفة المراقبة لحظة فلحظة، ويتنقل الشاب من غرفة إلى أخرى كي ينفذ مهمته المتمثلة في تدمرير الكوكب. الدرة الخضراء في قبضته، وبيما أبعد عن نفسه كل خوف ورعب يسعى جاهدا للإخلال بنظام غرفة المراقبة. ويتعقبه رجال الأمن المسلحون، لكن إنفجارا هائلا يرمي بهم هنا وهناك. ويخرج الشاب من المبنى المركزي ليذهب إلى المبنى الذي يقيم فيه الموجهون والمدراء الرئيسيون. ويعبر الممر والطوابق ليجد نفسه أمام غرفة رئيس الكوكب ليرى رجالا مدججين بالسلاح ويرتدون زيا فضيا وذهبيا. يفتح يديه فيعيق الشعاع المنبعث من الدرة الخضراء عمل رجال الأمن، ومع فتح باب الغرفة، يرى الشاب نفسه أمام مجموعة جالسين خلف طاولة كبيرة يتحدثون بصخب عما حدث. وما أن يشاهدون الشاب ينهضون من مكانهم جميعا، ويتوجه رئيس المجموعة نحو الحراس، لكنه يسقط أرضا بفعل هزات الغرفة قبل أن يكون قادرا على فعل شئ ما…
وفي الليل، جلس الرجل العجوز على الشاطئ وهو يحدق في السماء ليرى فجأة انفجار كوكب ناء فتنزلق قطرة دمع من زاوية عينيه و…
لقد عرفأسعد ما كنت أقصد. ربما كان يفكر في قرارة نفسه بجمال، أو به بوصفه أحد ضحايا سكان الكوكب الغازي أو كان يأمل بان يضحي جمال بنفسه وبقلب زاخر بالحب والعشق من أجل معتقداته وقناعاته وموطنه وأصدقائه بدلا من أن يغرق في البحر.
كنا قد اقتربنا من بوابة المتنزه. وكانأسعد غارقا في التفكير. لم أكن أرغب في تعكير صفو تفكيره. وعندما طلبت منه أن يأتي معي لأوصله إلى منزله، رفض. ودعني واتجه نحو الشارع.

شاهد أيضاً

أسعد يولد من جديد : القسم الثاني

إسماعيل شفيعي سروستانيوككل أيام السنة، أمضيت أسبوعا صاخبا ومليئا بالمتاعب، لكني كنت أتذكر موعد الإثنين. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *