فی كل سنة تهل علينا زيارة وملحمة خالدة من ملاحم العشق الحسيني وهي ملحمة عظيمة وعالية المضامين إلا وهي زيارة الأربعين والتي تمثل قمة العشق الحسيني، وهذا العشق الحسيني ليس خاصاً بالموالين فقط بل أصبح عشق يمتد من الموالين لأهل البيت إلى ديننا الإسلامي ليعم كل البشرية جمعاء ولتصبح راية الأمام الحسين(ع)راية تلتف حولها كل الطوائف والمذاهب والأديان ولتغدو هذه الراية السامية والشريفة راية إنسانية توحد العالم كله من مشرقه إلى مغربه ومن شماله إلى جنوبه وليرتفع الصوت الحسيني الهادر وكل شعاراته ومقولاته في العالم أجمع ولتتخذ هذه الشعارات والمقولات دليل ومنهج عمل لكل إنسان يؤمن بقيم ومنطق العدالة والحق ولتصبح شعارات إنسانية ترفع من قبل المظلوم على كل ظالم ومتجبر وطاغي ولتمثل أعلى قيم الانتصار لقيم العدالة والحق على قيم الظلم والباطل.
ومن هنا كانت زيارة الأربعين زيارة إيمانية سامية نورانية المضامين في كل قيمها النورانية وكان تمثل لكل زائر مؤمن إضافات وإفاضات آلهية عظيمة تعطيه زخماً عالياً في التزود بالأيمان والتوحيد وهي مسألة مهمة يجب أن يتزود منها العبد المؤمن في وقتنا الحاضر في ضوء ما يواجهه المسلم وكل العباد من تحديات تريد به النيل من أيمان العبد وحرفه عن وجهة ديننا الحنيف الدين المحمدي الذي لا لبس فيه ولا غموض وهو دين الحق والإنسانية لتصبح زيارة الأربعين هذه محطة توقف مهمة للمؤمنين في التزود بالنفحات الإيمانية والتمسك بالعروة الوثقى والتي لا انفصام لها من خلال زيارة الأربعين ولتصبح غاية الوصول إلى الضريح الشريف لأبي الأحرار سيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين(ع) وأخيه أبي الفضل العباس(ع) ومسير السبايا لأهل بيت النبوة وما ارتكبت فيه من مآسي وفواجع لهذه الذرية الطيبة لأشرف خلق الله هي (عبِرة وعبَرة)وتذكر مسير مواكب الأباء لذراري أهل بيت النبوة وما لاقوه من ظلم وأجحاف بحق هذا البيت السامي وكذلك تذكر كل المواقف الخالدة والشجاعة لعقيلة الطالبيين سيدتي ومولاتي العقيلة زينب(ع).
ولتكن هذه الملحمة الخالدة لزيارة الأربعين نقطة مضيئة تشع بتألقها على مدى التاريخ ولتمثل محطة مهمة من المحطات الإيمانية في الفكر الإنساني ولتشكل بؤرة من بؤر وحدة الفكر الإنساني بمختلف أطيافه وأفكاره ولتبقى نقطة في الدين باعتباره محطة مهمة من محطات المحافظة على ديننا الحنيف أراد به الطلقاء من بنو أمية وبنو العباس ومن جاء من بعدهم عبر تاريخنا القديم والحاضر أن يحرفوا هذا الدين العظيم عن مساره ويشوهوا ذلك الدين العظيم الذي أتى به خير خلق الله نبينا الأكرم سيدنا ومولانا محمد(ص) برسالة محمدية سامية وعظيمة المعاني في الإنسانية والفكر لذا حاول كل النواصب والمبغضين لأهل البيت من سلالات مجرمة محو هذه الرسالة بالقتل والذبح والسبي وممارسة أعلى قيم الأجرام والوحشية بكل خسة ولؤم وقذارة ولكن يأبى الله إن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ومن هنا كانت وقفة بطلة كربلاء سيدتي ومولاتي زينب الحوراء(ع) في مجلس الطاغية يزيد(لعنة الله عليه)تجاه هذا الظلم والطغيان لهذا الحاكم اللعين والتي عجز أشجع الرجال من الوقوف بوجهه لتقول مقولتها المشهورة { كد كيدك، واسْعَ سعَيك، واجهَد جهدك، فوالله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب والنبوّة والانتخاب لا تُدرِك أمدَنا، ولا تَبلُغ غايتنا، ولا تمحو ذِكرَنا، ولا تُميتَ وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فَنَد، وأيامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظالم العادي…}.(1)
وقد صدقت عقيلة الطالبيين فيما قالته فبعد أكثر من 14 قرناً في بقاء هذا الذكر الخالد للأمام الحسين وهم آل محمد ليصبحوا شموس مضيئة في سماء الحق والعدل تشع بضيائها مجداً وعزاً وشموخ ولتصبح سيرة بنو أمية ويزيد وكل الذين ناصبوا العداء لنهضة الحسين عبر التاريخ في أسفل السافلين ولينبذوا ويرموا في أقذر مزابل التاريخ وليصبحوا رموز لقيم الظلم والطغيان والكفر ولكل شيء معادي الإنسانية.
وهذا مايشير إليه العلامة والخطيب السيد محمد كاظم القزويني، رضوان الله عليه. فيقول:
“من هنا.. بقيت « فاجعة كربلاء » خالدة إلى يوم القيامة، عند كلّ مجتمع يمتاز بالوعي والإدراك، وفهم المفاهيم والقيم الإنسانية، وكلّما إزداد البشر نُضجاً وفَهماً أقبل على دراسة وتحليل هذه الفاجعة بصورة أوسع، والتفكير حولها بشكل أشمل، والكتابة عنها بتفصيل أكثر.
وقد شاء الله تعالى أن يبقى هذا الملفّ مفتوحاً لدى العقلاء المؤمنين، ويُجدّد فتحه في كل عام، بل في كل يوم، لتحليل ودراسة جزئيّات هذه الفاجعة!!
ولخلود فاجعة كربلاء ـ وإمتيازها على بقيّة فجائع وكوارث التاريخ ـ أسباب متعددّة، نذكر بعضها، ليعرف ذلك كل من يبحث عن إجابة هذا السؤال، ويريد معرفة الواقع والحقيقة:
1 ـ إنّ الذين انصبّت عليهم مصيبة القتل أو السبي.. ـ في هذه الفاجعة ـ كانوا هم أفضل طبقات البشر، وأشرف خلق الله تعالى.. رجالاً ونساءً، بل كانوا في قمّة شاهقة، ودرجة عالية من العظمة والجلالة والإيمان بالله تعالى، والنفسيّة الطيّبة، بحيث لا مجال لأن نقيس بهم غيرهم من البشر.. مهما كانوا عظماء.
2 ـ إنّ الذين ارتكبوا الجرائم ـ في هذه الفاجعة ـ.. كانوا أخبث البشر، وأكثر الناس لؤماً، وأنزلهم نفسيّةً.
3 ـ إنّ هذه الفاجعة مهّدَت الطريق لسلسلة من الفجائع والجرائم والجنايات، فأعطت الناس الجُرأة بأن لا يخافوا من أحد، ولا يلتزموا بعقيدة أو دين، فكان عمل مرتكبي هذه الفاجعة.. بمنزلة تأسيس الأُسُس وفتح الطريق أمام كل خبيث ولئيم، في أن يقوم بما تطيبُ له نفسه القذرة من الجرائم والجنايات!
ولقد جاء في التاريخ: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) صرّح بهذه الحقيقة، أثناء مُقاتَلَته مع أهل الكوفة، فقال: «… يا أمّة السَوء: بئسما خلفتهم محمداً في عترته، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي… ».
4 ـ إنّ طبيعة الحياة: هي أنّ التاريخ يُعيد نفسه.. لكن.. مع إختلاف الافراد والأجيال، فكان ضروريّاً على كل مسلم أن يستلهم الدروس والعبر من هذه الفاجعة الكبرى، ويقوم بدراستها ومعرفة تحليلها.. بشكل شامل، لكي لا يَسقُط في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة، والمنعطفات الحادّة الخطيرة، وحتى لا تتكرّر مآسي وفجائع مشابهة.
وحتى لو تكرّرت ذلك فإنّه يبادر إلى صفوف الأخيار، ويتّخذ موقف الإنسان المؤمن الذي يخاف الله تعالى، ويؤمن بيوم الحساب، وذلك لأنّ لديه خلفيّة دينيّة واسعة وشاملة عن فاجعة كربلاء ومضاعفاتها.
5 ـ إنّ فتح ملف « فاجعة كربلاء » والبكاء حين قراءة أو سماع تفاصيلها يعني: تأمين جاذبيّة قويّة، تجذب الناس نحو الدين بـ « إسم الإمام الحسين عليه السلام »، وبجاذبيّة عاطفيّة لا يمكن تَصَوُّر درجة قوّتها!!
وهنا.. ينبغي الإلتفات إلى حقيقة مهمّة، وهي: أنّ الأدلّة العقليّة والإستدلالات المنطقيّة ـ في مجال دعوة الناس إلى الإلتزام بالدين ـ تقوم بدَور الإقناع فقط، لكن لابدّ لذلك من عامل يجذب الناس لإستماع هذه الأدلّة، وأقوى عوامل الجذب هو: العامل العاطفي، وهو متوفّر في كلّ بند من بنود هذه الفاجعة!.(2)
ومن هنا نلاحظ إن مشاية الأربعين لهذه الزيارة الخالدة في ازدياد وقد حاول كل الطواغيت وعلى مر التاريخ إطفاء جذوة هذه الزيارة من خلال القمع للزوار وقتلهم والتمثيل بهم بأسلوب التهديد المجرم والذي يخلو من إي مضامين إنسانية وبشرية من الطواغيت في الأولين والآخرين لأن يزيد ومعاوية وبنو أمية موجودين في كل زمان ومكان ومايحدث من فواجع وإرهاب وقتل على الهوية من قبل الإرهابيين من داعش القاعدة ومن لف لفهم لهو خير دليل على ما نقول.
ولهذا كان من الضرورة على التأكيد على أيمانية هذه الزيارة وإنسانيها وأنها زيارة سلمية بحتة تدعوا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنها غايتها ترسيخ قيم الإيمان والتوحيد وتركيز العقائد الإسلامية للرسالة المحمدية الصحيحة.
ولذا جاءت توجيهات مرجعيتنا الرشيدة ممثلة بسماحة المرجع الأعلى آية الله السيد علي السيستاني(دام الله ظله الوارف) في التأكيد الالتزام بهذه التوجيهات والتي كلها تدعوا إلى الأمكان والمحبة والتسامح والتي نقتبس جزءً منها حيث أكد سماحته:
“وعليه فإنّ من مقتضيات هذه الزيارة: ـــ مضافاً إلى استذكار تضحيات الإمام الحسين (ع) في سبيل الله تعالى ـــ هو الاهتمام بمراعاة تعاليم الدين الحنيف من الصلاة والحجاب والإصلاح والعفو والحلم والأدب وحرمات الطريق وسائر المعاني الفاضلة لتكون هذه الزيارة بفضل الله تعالى خطوة في سبيل تربية النفس على هذه المعاني تستمر آثارها حتى الزيارات اللاحقة وما بعدها فيكون الحضور فيها بمثابة الحضور في مجالس التعليم والتربية على الإمام (ع).
وقد أكد أيضاً فالله الله في الصلاة فإنها ـــ كما جاء في الحديث الشريف ـــ عمود الدين ومعراج المؤمنين إن قُبِلت قُبِلَ ما سواها وإن رُدّت رُدَّ ما سواها، وينبغي الإلتزام بها في أول وقتها فإنّ أحبّ عباد الله تعالى إليه أسرعُهم استجابة للنداء إليها، ولا ينبغي أن يتشاغل المؤمن عنها في اول وقتها بطاعةٍ أخرى فإنها أفضل الطاعات، وقد ورد عنهم (ع): (لا تنال شفاعتنا مستخفّاً بالصلاة). وقد جاء عن الإمام الحسين (ع) شدّة عنايته بالصلاة في يوم عاشوراء حتى إنّه قال لمن ذكرها في أول وقتها: (ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين) فصلّى في ساحة القتال مع شدّة الرمي”.(3)
ولهذا كانت الصلاة من اهم ألأمور التي يجب التركيز عليها في كل زيارة من زيارتنا لأنها تمثل الوسيلة التي تقربنا إلى الله سبحانه ولأنها كانت من الأمور التي أكد علينا أهل بيت بدءً من نبينا الأكرم محمد(ص) إلى باقي أئمتنا المعصومين(صلوات الله عليهم اجمعين)وكانت من وصاياهم عندما يحضرهم في التأكيد على الصلاة ووجوب على أقمتها وقتها وبشروطها واشراطها ولهذا بادرت مرجعيتنا الرشيدة بإقامة محطات إيمانية للجواب على استفتاءات الزوار وتعلميهم كل الأمور التي تخص الزيارة والتي وجهت بها مرجعيتنا الرشيدة وأهمها الصلاة وحتى قام المبلغون بتلقين الزائر كيفية أقامة الصلاة وكذلك قراءة سورة الفاتحة وقسم من السور لكي تقبل صلاته لأنها أن قبلت الصلاة قبل ماسواها وان ردت رد ماسواها وهذه من ابلغ الدروس والمواعظ الإيمانية في أن مذهب أهل البيت هو قائم على الدين المحمدي الأصيل والذي جسده غير تجسيد أئمتنا المعصومين(صلوات الله عليهم أجمعين) والموالين.
فليعمل كل الزائرين على التطبيق الحرفي لتوجيهات المرجعية الرشيدة لأنها تمثل الضامن الحقيقي لقبول زيارتنا وترسيخ قيم الإيمان لدى كل الزائرين وجعلها منطلقاً للمسير بالنهج الصحيح للرسالة المحمدية الصافية والخالية من كل الشوائب والشبهات وهي غاية الغايات لكل مؤمن يريد الثواب والأجر وقبول الأعمال سائلين المولى القدير أن يتقبل الزيارة من قبل كل زوار مشاية الأربعين وتقبل صالح الأعمال والطاعات منهم ومنها أنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1 ـ كتاب « الإحتجاج » للطبرسي، طبع لبنان عام 1403 هـ، ج 2 ص 307 ـ 310.، بحار الأنوار 45: 135، اللهوف لابن طاووس ومثير الأحزان وغيرها.
2 ـ كتاب زينب من المهد الى اللحد العلامة والخطيب السيد محمد كاظم القزويني. دار المرتضى، بيروت.من ص453 – 455.
3 ـ الاستفتاءات » توجيهات بخصوص زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام).من موقع آية سماحة السيد علي السيستاني.الرابط
بقلم: عبود مزهر الكرخي