إسماعيل شفيعي سروستاني
إن اكتشافات القرن السادس عشر للميلاد والاستيلاء التدريجي على الطبيعة، جعل الانسان يواجه ظاهرة جديدة اسمها العلم الذي ليس وفر للانسان امكانية سيطرة الانسان على الكرة الارضية فحسب بل اصبح كمنافس للفلسفة القديمة ومستندا الى الانطباعات التجريبية البحتة، ليزعم بانه يعرض نوعا جديدا من المعرفة حول الكون. ان العلم الحديث قد ارسي في الحقيقة على اساس المفهوم الحديث للفلسفة،
6. الإنطباعات العلميه (الرؤيه العلميه)
والمصدر الرابع والاخير «للانطباع العام» للانسان عن الكون، هو الانطباع الذي يتأتى عن طريق العلم.
إن اكتشافات القرن السادس عشر للميلاد والاستيلاء التدريجي على الطبيعة، جعل الانسان يواجه ظاهرة جديدة اسمها العلم الذي ليس وفر للانسان امكانية سيطرة الانسان على الكرة الارضية فحسب بل اصبح كمنافس للفلسفة القديمة ومستندا الى الانطباعات التجريبية البحتة، ليزعم بانه يعرض نوعا جديدا من المعرفة حول الكون. ان العلم الحديث قد ارسي في الحقيقة على اساس المفهوم الحديث للفلسفة، والمؤكد ان الفلسفة الحديثة والعلم الحديث قد اثرا بعد الاستقراء على احدهما الاخر. بحيث انه اصبح جليا للجميع من الناحية التاريخية بان هيمنة الرؤية العلمية جاءت متاخرة قياسا بالانطباع الفلسفي، لكنها لم تبتعد ابدا عن منشاها الرئيسي. ان العلم الحديث وقف بشكل عام بوجه نظام ارسطو الفلسفي من جهة ومعتقدات الكنيسة الكاثوليكية من جهة اخرى. وثمرة هذا التيار الفكري كان الانسان الذي اسس بداية في ايطاليا ومن ثم في فرنسا والمانيا وهولندا وبالتالي في بريطانيا لحكم العلم الحديث والعقل التجريبي للانسان.
وعندما يتم الحديث عن العلم، تتبادر الى الذهن انواع العلوم بما فيها الفيزياء والكيمياء وحتى الطب. لكن من الضروري الانتباه الى ان جميع هذه الفروع تستفيد من نوع من المعرفة لايجاد انطباع عن الكون، وما يطلق عليها الرؤية العلمية.
إن «العلم» يوفر امكانية كشف الكثير من القوانين التي تحكم الظواهر المادية وهذه الكشفيات، تساعد الانسان على الافادة من هذه القوانين. لكن بسط هذا الشئ دفع بالبعض الى الاعتقاد بان «العلم» قادر على معرفة جميع شؤون الكون وبوسعه الى جانب الفلسفة والدين، تبيان مجمل الكون.
و يجب القول بان «العلم» يتحدث فحسب عن كمية الظواهر المادية و «كيفية» ترابط اجزائها وكيفية ظهور القوى الكامنة في الظواهر، وبعبارة اخرى فانه يرد على تساؤلات الانسان حول «كيفية» الظواهر المادية، لكنه لا يملك اي جواب واضح للاستفسارات التي يطرحها الانسان والمتثملة في «لماذا؟». بعبارة اخرى فان مكاسب العلوم التجريبية تميط اللثام عن كيفية حدوث التفاعلات الجوية وهطول الامطار ووقوع السيول والعواصف، لكنها تصمت امام السؤال الذي يريد كشف «حقيقة» هذه التيارات وفهم «الاستفسارات» التي تطرح حول هذه التطورات. «الاستفسارات» التي تعود في النهاية الى التساؤل حول عالم الوجود ووجود بارئ ذكي وصاحب حكمة تكمن في جميع الحوادث والظواهر. رغم ان العلم يلتزم الصمت امام هذا بسبب ثبات قوانينه في حدود الزمان والمكان والتجربة. وفضلا عن ذلك، فان العلم وبسبب محدودية «اداة المعرفة» لا تتوفر فيه امكانية تفسير مجمل الكون وكشف المكانة الكلية للانسان والطبيعة، وان هذه الدرجة من الثبات العلمي في الابعاد المادية للكون ووجهه الكمي، تلقي بظلال من الشك على مصداقية هذا النوع من معرفة الكون.
وبما ان نوع التشخيص الديني حول الكون يختلف اساسا عن نوع التشخيص الفلسفي والعلمي، وعلى العكس فان نوع التشخيص الاسطوري هو قريب الى نوع التشخيص الديني، ربما يمكن لاسباب اخرى لا يسعها هذا المقال، تقليص هذه الانواع الاربعة من التشخيص الى نوعين رئيسيين هما:
ثمة تشخيص يقتصر على الرؤية الدينية والاسطورية وفيها العالم الطبيعي وصنف الانسان، كائنات يكون الانسان قادرا على معرفتها بمدد الكلام القدسي والوحي. بعبارة اخرى، فان بارئ الكون، يعرف مخلوقاته على الانسان، سواء كان هذا المخلوق انسانا او الطبيعة كلها. وفي الحقيقة فان منشا التشخيص الديني هو خارج الادمي لان بارئ الكون، يقوم هو بتعريف المخلوقات وان ماهية هذا النوع من التشخيص هي الهية وشاملة ومطلقة.
ان التشخيص الفلسفي والعلمي هو تشخيص انساني بحت، من دون ان يتدخل فيه اي مصدر خارجي مثل الوحي.
إن العلم والفلسفة واستنادا الى الادوات الانسانية (التعقل والحواس) يقومان بتشخيص وعرض تعاريف حول العالم والانسان. مع ان المعرفة الفلسفة، كلية وفي المقابل، المعرفة العلمية محدودة وجزئية، والعالم الذي يقوم «العلم» بمعرفته، هو مخلوق خارج دائرة العلم، وان العالِم يقوم بمدد التجربة والحواس وقوة الادراك، بتشخيص وتقديم اوجه من كمياته. لذلك فان المعرفة التي يعرضها «العلم» حول الكون والانسان، هي معرفة نسبية تلوذ بالصمت امام امورغير مادية (الميتافيزيقيا). لذلك يجب القول بان نوع التشخيص الفلسفي البحت والعلمي، على العكس من التشخيص الديني، هو غير شامل ولا يتسم بطابع عام.
7. إنعكاس الإنطباعات
إن ذكر انواع الانطباعات وتبيان حيثيات كل منها سواء الرؤية الاسطورية والدينية والفلسفية والعلمية، هو من اجل اظهار نطاق هذه الموضوعات. لكن يتوجب على الانسان المفكر سبر غور الامور الكلية ودراسة ابعادها، ليخرج من حصر العالم الحيواني، ويوفر مناخا ملائما لنقد ودراسة احواله وظروفه.
ويبدو من الضروري في الوقت الحاضر، نشر وتوسيع هكذا دراسات. لان تمازج الثقافات وغلبة الحضارة المعاصرة وانتقائية الموضوعات النظرية وارتباك الشؤون المدنية للمسلمين، جعلهم يمرون بازمات ثقافية واخلاقية، وان المخرج من مأزق الازمات المادية والثقافية بحاجة الى اكتساب معرفة معمقة حول ماضي المسلمين وحاضرهم في الاوجه الثلاثة الفكرية والثقافية والمدنية، الاوجه التي تشكل جميع الانطباعات المعنوية والمادية للانسان وتمهد للخروج من الازمة. ان الازمة هي حصيلة تناقض، تناقض بين الانطباعات والاجوبة وحتى الاسئلة الكثيرة التي تتبادر الى الذهن. واضافة الى ذلك يجب الانتباه الى انه على النقيض من التصور العام، فان الازمة التي تطال العلاقات المادية والحياة المدنية، لا تخص تلك العلاقات وحدها، لان جميع الشؤون الموضوعية والمادية للحياة، تستمد قوتها من وجه خفي لكن مهم يدعى الثقافة والاخلاق، وان اندلاع التوترات في المعاملات والتبادلات المدنية والملكية مؤشر دائما على وجود ازمة ثقافية تطل براسها على امة ما، وان هذه الازمة الثقافية هي التي تنخر في جسد كل حضارة وتجعلها جاهزة للاضمحلال والزوال.
لذلك فان اي امة واي ثقافة واي حضارة واي تعريف غير منفصل عن المبادئ النظرية حول العالم والانسان. وان هذه المعتقدات والموضوعات النظرية هي التي تبلور افعال الانسان، وتدفعه ليعتبر سلوكا ما، جيدا ولائقا واخر سيئا وغير ملائم وبالتالي الابتعاد عنه. ان الانطباعات والمعتقدات وحدها التي توضح للانسان معنى الجمال والبشاعة، وتبين له الخير والشر وتوضح له ما يجب فعله وما يجب تجنبه.
وهنا نتوجه الى الحضارة، الحضارة التي تشكل الصورة المادية والموضوعية لجميع انطباعات الانسان في الارض. لان الانسان ومن اجل اكتساب انطباعات عامة يصور في صفحة ذهنه وقلبه، عالما يجمع فيه جميع الميزات والخصائص التي ينشدها ويتوخاها.
إن المدن الفاضلة الذهنية، هي مشروع «عالم» يطمح الانسان للعيش فيه. المدينة التي تتواصل فيها جميع مكوناتها. وفي هذا المشروع الذهني فان نوع العلاقات والمعاملات والمناسبات وحتى المدن، هي بشكل لا تمس بالانطباع الكلي والذهني للانسان، بل تعمل على ظهورها وبروزها.
إن المدن الكبرى والحضارات العملاقة طوال التاريخ، هي النتاج المادي للمخططات والمشاريع الذهنية للانسان. لان الانسان يسعى جاهدا لكي يشهد في العالم الخارجي، ما يتصوره في فؤاده ويدور في خلده، وواضح انه يبذل جهدا من اجل نيل هذه الامنيات والامال ويرتب جميع افعاله واقواله بما يتناسب مع الغاية والنهاية التي يرسمها لنفسه والكون، وفي هذه الحالة وحدها يتحرر من التشكيك والتناقضات. لانه لا يستطيع ابدا، اطاقة التناقض الرهيب القائم بين التطلعات والافعال والعلاقات الموضوعية والخارجية. وبناء على ذلك فانه يبذل قصارى جهده من اجل ان يحقق ما يحبذه ويستسيغه ويضفي عليه وجودا خارجيا وموضوعيا.
ان اردتم معرفة انه كيف كان سكان المدن وصناع الحضارات الغابرة، يفكرون وما كانت انطباعاتهم عن العالم والانسان، فالقوا نظرة على الاوجه المادية والحضارة المتبقية عنهم. ان هذه تضعكم في صورة جميع الاشياء. وان اردتم معرفة سبب انفعال وعجز العديد من الامم، فاسعوا للكشف عن التناقضات الكثيرة التي كانت تسود حياتها المادية وانطباعاتها الذهنية.
إن الحضارات الفارسية واليونانية والاسلامية الكبرى، يعكس كل منها ثقافة وفكر الايرانيين واليونانيين والمسلمين الذين بقيت عنهم الان وبعد الاف السنين، اثار في بقاع مختلفة من الارض. وهذه الحضارات وقبل ان تنهار، كانت قد فقدت اتصالها بهويتها وثقافتها الخاصة لدرجة انها تحولت الى مجموعة من الصور المادية عديمة الروح. في حين ان اوجه هذه الحضارات كانت ترتبط بعضها ببعض بشكل وثيق في ذروة ازدهارها وكان صوت واحد يسمع من جميع مكوناتها.
إن الادباء والمتحدثين من اولي الالباب، قد عكسوا بافضل صورة، هذا الصوت الخفي بين الجدران والمدن. لانهم ينادون بادب ورؤية قامت عليها الحضارات الكبرى.
إن المدن تعد اول موقع تتجلى فيه حضارة ما، لان جميع العلاقات الفردية والجماعية تترابط فيما بينها كنسيج متماسك وتقوم بتنظيم الشؤون المادية لسكانها. فالعمارة واللباس والاقتصاد والسياسة و… يبرز كل منها وجها من الشؤون الانسانية. الاوجه التي تعكس صوتا واحدا رغم كل التباينات الصورية والمادية. بحيث ان البيوت الفسيحة والجدران المرتفعة والاروقة بداخل المنازل، تحتضن في جنباتها سكان المدن الاسلامية والايرانية وتحمي اموال ومحارم اصحابها. كما ان الملابس التي تغطي اجساد الرجال والنساء والكثير من العلاقات الاخرى، تتحول كلها الى مرآة تعكس صورة سكان تلك العصور واخلاقهم وثقافتهم.
وكما ذكرنا في الفصول السابقة، فان الانسان الذي ترعرع في عصر غلبة الحضارة الاسلامية، كان يحمل انطباعا عن نفسه كما ورد في هذه الابيات:
لقد كنت مَلَاكا وكان مكاني الفردوس الاعلى لكن ادم جاء بي في هذه الدنيا الزائلة
إن هذا الفكر والثقافة، تنفخ بروحها في الحضارة التي تحرس فيها البيوت المحارم التي يريد صاحب البيت، حمايتها من اعين الغرباء من غير المحارم. والملابس هي اغطية تغطي جسد الانسان وتحمل في طياتها صفة «الحجب والستر». فالمآذن واللون اللازوردي للبلاطات، تذكره بالقبة السماوية. ويتحول المسجد في وسط مدنه الى قطب ومحور لبناء المدن، لكي يدير الانسان في هذه الحضارة (الحضارة الاسلامية) جميع اعماله وافعاله حول محورها ويضع في كل الاحوال نصب عينيه، السجدة لله. ان التقيد بالانصاف في التعاملات وتجنب الرياء في العلاقات وتحاشي الاسراف والبذخ والتوكل على بارئ الكون في جميع الامور، تصنع كلها، الوجه الثقافي لحضارة بقيت في اوج ازدهارها وتألقها لمئات السنين.
فالانطباع الديني، يقدم الانسان على انه عبد مخلوق ومسؤول ويذكره بمصيره في ما بعد الموت. ويعتبر ان الحياة المادية وهذه الدنيا، بمثابة جسر لابد من عبوره. لذلك فان حضارته يجب ان تنطوي على هذا الفلاح ايضا.
و يتأدب الانسان في المدينة ولا يمكن تنشئة انسان في حضارة خاصة او ثقافة خاصة والتوقع منه ان يتصرف ويعمل وفق ثقافة اخرى. ان الانسان الذي يفكر بالحاضر في عصر غلبة الثقافة الغربية ولا يؤمن بالمستقبل المحتوم ما بعد الموت، ليس لديه محارم ليحفظها و يحميها و سر ليكشفه وفلاح للوصول اليه. انه يفكر فحسب بمنفعة عاجلة وانجاز مادي وشأن حيواني، ويصمم ويضع جميع اجزاء و مكونات حضارته من اجل نيل ذلك. فالمدن هي اسواق متداخلة تربط جسم الانسان وروحه بالعالم المادي، فيما تتحول المساجد الى مواقع على الهامش يفدها الرجال والنساء المسنون الذين بقوا ملتزمين بالقناعات السابقة.
إن الحضارة الغربية، قائمة على الثقافة الغربية وتقود الانسان نحو اكتساب القناعة الغربية العامة، لان مكونات حضارة ما، ليست اوعية فارغة وعديمة الاثر، بل انها تطلق كنسيج متماسك وموحد، صوتا واحدا.
إن العمارة العارية للحضارة العصرية، والانسان المتعري والمدينة المكشوفة واللباس العاري، ترتبط برباط وثيق مع الانطباع الجديد للانسان عن الكون. لانه في هذا الانطباع (الانطباع الغربي الجديد) يتحول الانسان الى محور لمجمل الجمال ومعيار لتشخيص جميع الحسنات والسيئات.
لذلك فان اقامة حضارة تختلف في الاساس والجوهر الثقافي عن الحضارة العصرية وتنشئ وتربي انسانا ديني النزعة، بحاجة الى تربية انسان ديني. الانسان الذي يتأدب في هذه المدرسة وتتسم مكاسبه وانجازاته بلون ونكهة هذه المدرسة.
وخلاصة القول ان الحضارة تحل من حيث الموقع والمكانة بعد الثقافة وتحظى مقارنة بها، بمقام ورتبة ادنى. فالحضارة هي كالجسم الذي يستمد كل قوته من روح الثقافة، وبرغم قناعات الدارسين والاكاديميين، فان الثقافة ليس جزءا من الحضارة.
یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.