الفكر، الثقافة و الأدب، الحضارة: منزله الإنسان، منزله التساؤل

اسماعیل شفیعی سروستانی
عن اي موضوع تحدثنا، فان احد اوجهه الجادة يعود الى الانسان. لذلك يبدو من الضروري التأمل حول الانسان وكيفية ظهوره ومصدر نشاته وغاية حياته ومسار تطوره. ان الحديث حول هذا الكائن، ليس بجديد وقد شغل ذهن جميع المفكرين طوال التاريخ، وربما يمكن القول ان اي موضوع لم يكن مطروحا بهذا القدر في المجتمعات الانسانية. وبلاشك فان من الضروري التأمل في هذا الخصوص بالنسبة لجميع الذين يتعاطون مع القضايا الثقافية والادبية والانسانية، لان هؤلاء يتعاملون مباشرة مع الانسان وتنشئته ويسعون لحل مشاكله الفردية والاجتماعية.

 

 

1-منزله الإنسان، منزله التساؤل

عن اي موضوع تحدثنا، فان احد اوجهه الجادة يعود الى الانسان. لذلك يبدو من الضروري التأمل حول الانسان وكيفية ظهوره ومصدر نشاته وغاية حياته ومسار تطوره. ان الحديث حول هذا الكائن، ليس بجديد وقد شغل ذهن جميع المفكرين طوال التاريخ، وربما يمكن القول ان اي موضوع لم يكن مطروحا بهذا القدر في المجتمعات الانسانية. وبلاشك فان من الضروري التأمل في هذا الخصوص بالنسبة لجميع الذين يتعاطون مع القضايا الثقافية والادبية والانسانية، لان هؤلاء يتعاملون مباشرة مع الانسان وتنشئته ويسعون لحل مشاكله الفردية والاجتماعية.

إن دراسة المصادر الثقافية المتبقية منذ الازمنة الغابرة والى الان، تكشف النقاب عن تساؤلات اساسية حول الانسان، وتظهر انه في كل دورة وعصر، كان ثمة رجال اهتموا بكشف سر الكون واماطة اللثام عن وجه هذا الكائن ـ الانسان ـ وايجاد اجوبة تتناسب مع منظومتهم النظرية وانطباعاتهم، للاسئلة التي تطرح حوله، وبلا شك طالما بقي الانسان على هذه الكرة الارضية فان هذه التساؤلات والاجوبة ستستمر، لان هذا الكائن المفكر الذي يعتبر الفكر، شانه الاصلي، لن يتخلى عن التفكير وسيضيف دائما على الصرح القائم على انطباعات المتقدمين او انه سيبين او يحرف وجها خاصا من هذه الانطباعات. ولهذا السبب فانه لابد لنا من اكتساب المعرفة حول الكون والانسان والعالم، وكما انه في معرفة وانطباعات المتقدمين، ثمة سؤال يتبادر الى الذهن حول الانسان والعالم المحيط به وان هذا الكائن المفكر يسأل عن ميدان ظهور مواهبه (العالم) ويسعى للوصول الى الاسرار الكامنة وراء الصور الظاهرة وينقذ نفسه من الهواجس والقلق والغموض والتساؤلات. إن الاجوبة الناتجة عن الفكر والتأمل حول العالم المحيط بنا، هي كالماء الذي يُرش على النار المستعرة في باطن الانسان، لان اندلاع الوقائع والدافع والفلسفة الكامنتان وراءها وبالتالي جميع «التساؤلات» الناتجة عن مشاهدة الطبيعة، تؤرق كلها الانسان وتنتزع منه استقراره وهدوءه. ان الانسان ومع مواجهته لموضوعي «الانسان» و «الطبيعة» والتساؤل حولهما، يضطر لمواجهة سؤال كبير حول الخلقة، الامر المهم الذي لابد منه. وهو المثلث الذي تتشكل اضلاعه من «خالق الانسان» و «الانسان» و «الطبيعة».

إن الغفلة قد تؤدي احيانا الى عدم انكشاف هذه النار الباطنية المستعرة والتمني الذاتي لدى الانسان (التفكير حول الكون). لكنه يعود الى هذه المكانة عاجلا أم آجلا ويتساءل عن مصدر الكون والنسبة القائمة بينه وبين خالق الكون، على امل ان توصله هذه التساؤلات الى منزلته الجوهرية وتباينها مع العالم المادي المحيط به. اي الوصول الى اجوبة ملائمة عن «منزلة الانسان في الكون» و «سبب وفلسفة خلق الانسان والطبيعة» و «الغاية من سير وسفر الانسان في الارض» و اسئلة اخرى تتركز كلها على تعمق الانسان وتأمله في كل حياته.

إن دراسة الاعمال الدينية والفلسفية والفنية وحتى العلمية تظهر بان خلق جميع الاعمال البديعة وكتابة جميع المصادر الغنية، هي وليدة قدرات التفكير الادمي وبحوثه وتحرياته للكشف عن سر الكون، والا فان تدفق الاسئلة وبقائها من دون رد، يقحم الانسان في حالة من التعليق يجعل وجوده رديفا للظلام والجهل والغموض. وما يعقبه من موته وزواله التام قبل ان يداهمه رسول الموت الحتمي.

وبناء على ذلك يمكن القول بان «جميع اعمال الانسان، وطريقة عيشه في الارض وكيفية اقامته اتصالا بخالق الكون والطبيعة، رهن باجوبته اثناء مواجهته للاسئلة الكلية». وهذا ما يميزه عن سائر الكائنات، وان نقطة الفصل بين الانسان والحيوان، هو التساؤل حول مجمل الكون. والان يمكن فهم انه لماذا اصبح الناس متشتتين ومتفرقين الى هذا الحد؟ ولماذا وقعوا في شرك اكثر امور الحياة النباتية والحيوانية، ابتذالا واسفافا؟ ولماذا وجد الانسان ان شأنه يساوي شأن النبات او الحيوان؟ الجواب واضح، ان الانسان لم يبدا بعد التساؤل حول ذاته ومكانته ودوره (في الكون) وامامه مشوار طويل للبحث والتحري من اجل الوصول الى الاجوبة المناسبة. لانه مع بروز المقام الانساني والخروج من الوجه النباتي والحيواني، يشغل الانسان مقام التساؤل عن كل الكون. ان يكون الانسان لم يبدا بعد السؤال وحتى ان هاجسا وقلقا وتوترا لم يداهمه في هذا الخصوص، مؤشر على انه لا يرى بعد ان ثمة فارقا بينه وبين الطبيعة او انه يفترض ان مقامه هو في مستوى مقام الكائنات الاخرى ويتابع حياة نباتية او حيوانية.

ويجب معرفة ان جميع الاسئلة المتمثلة في «ما العمل؟» تقع بين نقطتي «معرفة البداية» و «معرفة الوجهة والنهاية». ان المعرفة حول بداية الكون وغايته هي التي توضح كيفية وجود الانسان ومسار تطوره وحركته وكيفية عيشه، وبعد ذلك فان اي درجة وصورة من المعرفة يتحصلها الانسان، تجعله يسلك مسارا محددا بين البداية والنهاية ليضفي معنى على جميع وجوده وحياته. المعنى والمفهوم اللذان هما فوق انطباع الحيوان عن نفسه ومكانته ودوره.

وبناء على ما ذكرنا، فان ايا من الموضوعات المطروحة في مجال العلوم الانسانية منذ الماضي البعيد والى الان، ليست بمنأى عن «انطباع عام» حول الانسان والطبيعة وخالق الكون وحيثما جرى الحديث عن الانسان ودوره ومكانته وعمله في الارض، يجب البحث عن موطئ قدم اجوبة اعلنتها مدرسة او مسلك او نحلة ولا يمكن العثور على اي عمل تم تعريفه او موضوع تم عرضه بحيث ان من عرضه سواء كان نبيا او عالما او منظرا او مفكرا او مصلحا، لم يوضح حول الانسان والموضوعات العامة القابلة للطرح حول الانسان ولم يرد على اسئلته المفترضة في اطار تعليمات وبخلاف ذلك فان الاعمال المهملة، ستدفع بانصارها ومنفذي تلك التعليمات الى هاوية الهلاك والانفعال والفراغ.

والحديث هنا لا يدور حول صحة او عدم صحة الاراء العامة الموجودة، بل ان جميع الذين لديهم كلام حول الانسان او مشروع لتسوية مشاكله المدنية او الاخلاقية، فانه لابد لهم ان يمتلكوا معرفة شاملة وكلية حول الانسان. ولاشك انه يجب البحث عن اكمل انطباع يوفر السعادة في الدنيا والفلاح في الاخرة وان يحتوي بجامعيته على اجوبة لكل التساؤلات الفردية والاجتماعية والباطنية والخارجية للانسان في كل عصر ودورة من حياته.

إن جميع الافعال والاقوال التي تفتقد للوجهة والتعريف الشامل، تصل الى نقطة عمياء ومعتمة وتورط الانسان في مسارها بحالة من التعليق والعجز، وبما ان وجهة ونهاية الافعال والاقوال غير معلومة فان الافعال العبثية ستحط في وادي الانفعال الذي سيصيب الانسان بالموت المبكر، لان الانسان غير قادر في ذاته على مواصلة حركة عمياء ومنفعلة. انه يبحث دوما عن مراتب عليا ورفيعة ليشاهد حياته ومماته بين النور والضياء من خلال اكتساب الاجوبة الجلية وليجد بدايته ونهايته.

إن قسما كبيرا من الغفلة والاكتفاء بالحاضر والحياة الحيوانية، هو حصيلة الانفعال والغموض الذي يواجهه الانسان. وكأن الغفلة هي الرماد الذي يغطي النيران المستعرة بداخل الانسان، والا فان امنية فهم حقيقة العالم، لا تترك الانسان، لان طبع الانسان غير ميال الى الاكتفاء.

 

2. مصدر الرد على التساؤلات

و الان يجب التساؤل: هل ان جميع التعاريف التي قدمت عن الانسان والطبيعة و مصدر الكون، تنبع من ينبوع واحد ونحن امامنا مجموعة مدونة موحدة؟ الجواب كلا.

ولا شك انه يمكن مشاهدة موطئ قدم للانطباعات العامة للمبلغين والمنظرين بسهولة وهي تتجلى خلف جميع وجهات النظر والتساؤل عن كيفية التصرف وتقديم الاليات والسبل، لكن جميع هذه الانطباعات ليست موحدة ومصدرها ليس واحدا. ان القاء نظرة خاطفة وسريعة على الاعمال المتبقية عن الشعوب يظهر انه ما بعد ذلك التساؤل والقلق الكبير للانسان، فان هناك الكثير من الاراء التي قدمت. الاراء التي يسعى كل منها لتقديم ردود على تلك الاسئلة. لكن التشتت بين الاراء المعروضة والكتب المطبوعة، لا يحكي عن وجود مئات والوف الردود. بل يمكن تشخيص جميع الردود والانطباعات في عدة فئات وطبقات، وتحديد حدود وثغور كل منها من خلال تحديد جغرافيتها النظرية والتبين من مكانة ورتبة اصحاب الكلام وكلماتهم. وعلى الرغم من استحالة الوصول الى بعض الاراء (بسبب قدم الموضوع)، الا ان العلائم والرموز والقصص والاساطير تساعدنا بدورها على الوصول الى تبويب منتظم في الاراء المدونة والمكتوبة.

إن قدم طرح هذا الموضوع هو بقدر قدم حاجة الانسان الى الهواء والماء والطعام، ولذلك يمكن العثور على موطئ قدم للموضوعات العامة والنظرية منذ الايام الاولى من حياة الانسان والى يومنا هذا، ويمكن في ظل التسامح والتساهل، تقديم التصنيف الاتي حول الردود المقدمة منذ سالف الزمان وغابر الايام والى هذا اليوم حول ذلك المثلث النظري المهم (مصدر الكون والانسان والطبيعة):

الانطباعات الاسطورية (الرؤية الاسطورية)

الانطباعات الدينية (المعتقدات الدينية)

الانطباعات الفلسفية (الفكر الفلسفي)

الانطباعات العلمية (الرؤية العلمية)

وكل من هذه الحالات، يتضمن المبادئ النظرية الخاصة حول الانسان وعلاقة الانسان بالوجهين المتمثلين في الطبيعة ومصدر الكون والنسبة بين الاوجه الثلاثة وهي الله والانسان والعالم وتقدم تعاريف خاصة عن «الانسان» ومكانته ودوره ومصيره، وتبقيت عنها مصادر تساعدنا «مصادر الرؤية» تلك على الوصول الى اجوبة وردود اصحاب الفكر والراي ونوعية انطباعاتهم.

 

3. الإنطباعات الأسطوريه (الرؤيه الأسطوريه)

لم تنجز دراسات دقيقة وشاملة حول الاساطير والرؤية الاسطورية الخاصة ولذلك فان الحوارات في هذا المجال مليئة بالحدس والخيال والتناقضات. لاسيما وان الحديث حول الاساطير هو الحديث عن الانسان والعصر الذي لا تتوافر فيه اعمال مطبوعة عنها. وقد اطلق كُتّاب تاريخ الاديان على هذا الامر اسم «علم الاساطير (الميثولوجيا)» واعتبروه وجها من الاديان البدائية للبشرية.

إن الاحداث والقصص الاسطورية تعود بشكل رئيسي الى امم تحظى بماض عريق. ويعد الصينيون واليونانيون والايرانيون من الامم التي تاتي على ذكر اعمال اسطورية وما يشبهها على انها اعمالها الثقافية والادبية القيمة. لان هذه الاعمال تميط اللثام عن الماضي التاريخي لهذه الامم ونوعية انطباعاتها ورؤيتها الخاصة الى العالم و الانسان.

وربما يمكن اعتبار الاساطير والاعمال الاسطورية على انها «علم كلام» الانسان البدائي، لان مادة هذه الاعمال تتمثل في الاسئلة والردود التي طرحها الانسان حول سبب الحوادث ومصدر الخليقة والغاية من الحياة والدافع من الميلاد وسبب الموت. اسئلة عامة تعكس جهودا للتوصل الى اجوبة دقيقة ومنتظمة حول العالم والانسان. الانسان الذي يبحث عن تعريف دقيق عنه وعن الطبيعة وخالق الكون. ويبحث عن قانون خاص يضع بتصرفه المعرفة اللازمة لدرك الحقائق وسير المراتب العليا.

وبما ان الانطباعات الاسطورية هي انطباعات شاعرية حول العالم ومنشأ المجئ والرحيل في الارض، فانها قدمت بشكل رئيسي في سياق الكلام المنظوم او اللغة الرمزية الاسطورية. الرموز التي تدفعنا الى اماطة اللثام عن القصص والاساطير من اجل درك الحقائق المستترة في الاساطير والانطباعات الرئيسية، وهذا الامر قد يؤدي الى ان نرى خلال دراسة هذه الاعمال، مجموعة من المفردات والعبارات المتشابهة. لكن مهما يكن من امر فانه يمكن الوصول الى رؤية من بين جميع الاساطير التي هي قريبة ووثيقة الصلة والتشابه بانطباعات اهل الديانة عن الكون لكونها شاعرية.

إن «الإلياذة» و «الأوديسة» لهوميروس و»مهابهارات» و «ورامايانا» الهندية و «الشاهنامة» للفردوسي تعد من الاعمال التي توفر اليوم امكانة اجراء دراسات في هذا الخصوص، وتظهر بان انطباع الانسان في عصر الاساطير هو انطباع من دون وسيط وحضوري وشهودي. الانطباع ماوراء العلم والفلسفة ووراء الاستدلال والمفروضات المنطقية، مهما يكن هو حصيلة تجربة شهودية لامم استطاعت من خلال اقامة نسبة مع الطبيعة ومصدر الكون ومشاهدة الطبيعة المحيطة بها، كشف الكثير من القوانين والتقاليد السائدة في العالم والتي جمعت في الادوار اللاحقة على يد بعض الحكماء والشعراء وعرضت في قوالب شعرية.

وربما يمكن القول بان الرؤية الاسطورية تحكي عن الديانات البسيطة والبدائية التي استخدمها الانسان كمفتاح لدرك وفهم الاسئلة العامة والمعقدة حول الانسان والطبيعة و خالق الكون.

إن الانطباعات الاسطورية هي نوع من الاجوبة على تساؤلات الانسان، وفي هذه المنظومة النظرية لا مكان للاستدلال العقلاني والفلسفي.

إن الانسان في هذه الاعمال، هو كائن يقيم علاقة شاعرية ورمزية مع العالم. الكائن الذي هو رهينة اعماله وافعاله، وهذا جعله يتواجه مع مقدرات لا مفر منها البتة. انه ينسلخ من الغرارة في خضم الاحداث والحروب، ويهرب من الظلمات باحثا عن النور.

وبصورة عامة، فان التفكير الغائي والايمان بمنشا وبداية الكون وكون الانسان مخلوقا والعيش تاسيسا على التقاليد الثابتة التي تسهل نيل الوجهة النهائية وبالتالي «التفكير بالموت» تعد من المبادئ النظرية للاعمال الاسطورية والرؤية التي تسودها. وهو الانطباع الاقرب كثيرا الى انطباع اهل الدين.

اسماعیل شفیعی سروستانی

یتبع إن شاء الله

جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی

لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع

ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

 

 

 

شاهد أيضاً

الفكر، الثقافة و الأدب، الحضارة:الإنطباعات الدينيه (الرؤيه الدينيه)

اسماعیل شفیعی سروستانیولقب «الفلاسفة» بالباحثين عن الحقيقة ومحبي المعرفة. لكن هذا الموضوع اخذ دوما بنظر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *