إسماعيل شفيعي سروستاني
القسم الثالث :
2. معرفه الكون
إن عدم الاهتمام بمصدر الكلام والاعمال التي تنشر في حوالينا، دفعنا الى التشابك مع مظاهر متعددة ومنوعة لم تساعدنا على الوصول الى درك صحيح عن الامور فحسب بل جعلنا نعلق بين الشبهات.
إسماعيل شفيعي سروستاني
القسم الثالث :
2. معرفه الكون
إن عدم الاهتمام بمصدر الكلام والاعمال التي تنشر في حوالينا، دفعنا الى التشابك مع مظاهر متعددة ومنوعة لم تساعدنا على الوصول الى درك صحيح عن الامور فحسب بل جعلنا نعلق بين الشبهات. الامورالتي اختلطت مع بعضها البعض واغلقت علينا ابواب الولوج الى الحقيقة. فضلا عن ان الافكار الاستكبارية تغلف نفسها بغلاف من الحقيقة بحيث يصبح من الصعوبة بمكان تشخيصها. وهذا الشئ ضاعف من الكارثة فيما يخص القضايا النظرية المعقدة المطروحة في مجال العلوم الانسانية. ويجب القول بصراحة بان جميع هذه الهواجس والضلال والاضطرابات بدات من حيث تخلى الانسان عن التفكير.
أن قطع قوم ما علاقتهم وارتباطهم باصحاب الفكر واولي الالباب والمعرفة يؤدي بلا شك الى تبعثر جميع علاقاتهم وتعاملهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. لان رجوع الناس الى الاشخاص الذين لا يملكون معرفة صائبة عن الاسس الفكرية او الذين اكتسبوا اسسهم الفكرية من مصدر غير حقيقي، يشكل سببا لانغماسهم التام في الروتين اليومي.
وجدير ذكره ان معظم المتعلمين فقدوا اليوم عادة متابعة مصدر الكلام فيما يضع المعلمون في الفصول الدراسية، معطيات ومعلومات هشة وعديمة الاساس بتصرف المتعلمين من دون الشعور بالحاجة الى طرح المبادئ والاسس عليهم. بحيث تنفذ بعد فترة اساليب وافكار في جميع مجالاتهم الفردية والاجتماعية لا تمت الى الحقيقة او معتقداتهم الموروثة وحتى الدينية بصلة. وهذا الشئ ناتج عن تصورهم بان الاساليب المعروضة والافكار التي تعلموها هي كالوعاء الذي يفتقد الى محتوياته وان تعلمها يمكن ان يوفر لهم بسهولة المحتوى الذي ينشدونه ويعطي النتائج المرجوة. ان سوء الفهم الكبير هذا تسبب في توقف حركة المسلمين وحتى الامم الشرقية الاخرى امام الغرب وجعل ثقافتهم تنصهر في ثقافة وحضارة الغرب.
إن القاء نظرة خاطفة وسريعة وسطحية على ما يجري في الفصول الدراسية للعلوم التربوية والاقتصاد وعلم الاجتماع و… يوصلنا الى هذه النتيجة من:
إن المتخرجين من هكذا فروع دراسية، يملاؤن كتيباتهم وذاكرتهم بافكار واساليب اقتبست من افكار واراء المفكرين والكتّاب والباحثين غير الايرانيين وغير المسلمين والغربيين، من دون ان يثيروا ادنى تساؤل حول ماهية هذه الافكار والاساليب. وطبعا ليس على الطلبة والمتخرجين حرج، لان جميع الموضوعات والمحتويات عرضت ضمن مجموعة من دون تعريف للاسس والمصادر الفكرية، ولم يتم في هذه المجموعة ايلاء الاهمية لماهية الانسان والنسبة بينه وبين نشاة الكون ومدى قرب الاساليب الى المبادئ والاسس العقائدية. وبما ان عدم الاهتمام بالتساؤلات الجادة والاساسية تحول الى ديدن عصرنا، فان الجميع تناسوا ان ثمة ضرورة لطرح السؤال والتساؤل عن اساس العلاقات والتعامل، ويقومون بتنظيم وترتيب الامور من خلال الرجوع الى مشهورات الزمان والمصطلحات الرائجة والسائدة.
ولابد من اعتماد مراجعة جادة مرة اخرى للموضوعات المتعلقة بعلم الكونيات وكيفية ارتباطه بالتعامل والعلاقات السائدة في المجتمع، لانه من دون اتضاح ذلك، فان التغذية وتناول الطعام العادي سيصاب حتى بالارتباك والاضطراب.
إن الحديث عن كسب المعرفة عن «الكون» هو حديث عن المعرفة الشاملة للكون. حديث عن جغرافيا معرفة الانسان وحدودها وثغورها بحيث تتوضح بعدها منزلة الانسان و نوع علاقته بكافة الظواهر الظاهرة والخفية لكي يعرف من هو وما المهمة الملقاة على عاتقه تجاه الامور المتعددة؟
الحديث عن المعيار والمقياس الذي يسد الطريق على الخروج عن المسار المحدد ودخول ونفوذ العوامل الاجنبية، اي الفكر الذي يتجاوز الشؤون الجزئية ليُدخل الانسان في نطاق الشؤون الكلية ويجعله في مأمن من الباطل.
إن جميع الدراسين في مدرسة العلم الحصولي يتحدثون من دون ان يدرون حول «علم الكون» لكن عدم الوقوف على المسائل والبحوث الجادة، جعلهم يرتبكون في مضمار الحياة والدراسات. ان الادوات والاساليب الحديثة المستخدمة في البحوث الاكاديمية بالغرب قد دخلت الى هذه البلاد من دون ان تمر بمرشح اصحاب العلم والرؤية واسرت عقول الكثير بسبب صورتها الجذابة. لكن تم تجاهل ان لا نسبة بين هذه الاساليب الحديثة وسهلة المنال وبين المبادئ والاسس النظرية لكبار اهل الفكر القلبي والديني لهذه البلاد وان اعتماد هذه الادوات والاساليب الحديثة والسريعة في الظاهر، جعل العلاقات الفردية والجماعية لهؤلاء القوم اقرب الى الثقافة وعلم الكون الغربي والمعاصر.
ويشاهد احيانا ان مهمة طرح هذه القضية وضعت على عاتق «أهل الفلسفة» ومتعلمين من هذا القبيل وانيطت مهمة التعليم والتربية الى معلمي العلوم الانسانية والعلوم التربوية. وكأن الجميع يقبلون بمصدر ومنشا هذه العلوم او انهم اقاموا صلحا بينها وبين بعض العناوين الاسلامية والدينية. وهذا الكلام مؤشر على قبول علم الكون المفترض في العلوم الانسانية الجديدة، لانه فيما عدا ذلك لما كان يتم استخدام الاساليب والطرق المعروضة في التعامل وتنشئة الانسان.
والمؤسف انه عندما تطالنا الاضطرابات والارتباكات الناجمة عن تعدد «علم الكون» في الحياة العملية نبدا بالصراخ والنحيب ونستعجل عملية الاصلاح، لكن ومن خلال مراجعة الاساليب السابقة، نسلك طريقا يعيدنا من حيث الماهية الى الاساليب السابقة ذاتها. اي اننا نصلح ظاهر الامور لايام معدودات. وطبيعي ان تظهر التداعيات الناتجة عن الاسس نفسها مرة اخرى.
و سنذكر لاحقا بان جميع الامور لاسيما لغة التلفظ لشعب ما تخضع للتغيرات الناتجة عن نوع «علم الكون» وقد يكون مفيدا ذكر اننا نقع في خطا في درك المعاني والمفاهيم الكامنة في المفردات والمصطلحات ونستخدمها ظنا منا بان اي مفردة لا علاقة لها بالمفهوم الكامن فيها. لكن وبهذا العمل، نجعل النفاق والانفصال في درك المعاني يداهماننا، الا انه يجب القول بان افضل سمة هذا العصر هي «سوء الفهم». نعم اننا نواجه سوء فهما كبيرا ونعيش في الحقيقة في زمن سوء الفهم.
و على الهامش يجب القول بان «الثورة الثقافية» لم تكن في الحقيقة سوى السؤال الاساسي حول معرفة الواقع القائم والوضع المنشود وتقديم طريقة لبلوغ الوضع المنشود. الامر الذي ان كان يُرتب ويُنظم بجدية، فان التقاليد السابقة والمشهورات المدرجة في المصادر من الدرجة الثانية للعلوم الانسانية السائدة في الجامعات، لم تكن لتطل الطلبة وبالتالي عامة الناس.
3. تجلي الفكر في الأدب والأخلاق
طالما ان الانطباع القلبي لاصحاب الفكر لا يتجسد في هيئة «الثقافة» والادب بين قوم ما، فان ايا من التعامل الساري بين الناس لا يتاثر بفكر خاص. حتى وان كان جميع الناس على علم واطلاع بذلك الفكر والثقافة. وثمة الكثير من الشعوب التي كانت مطلعة على سمات وخصائص الثقافات التي سبقتها واطلقت العنان في الحديث عنها والفت الكتب بشانها، لكنها قامت في الوقت ذاته بتنظيم وتاطير علاقاتها وتعاملاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يتلاءم مع الثقافة الاجنبية. و كل هذا مؤشر على ان المسافة بين هؤلاء القوم واصحاب الفكر لديهم، كبيرة لدرجة انهم غير قادرين على التحصيل الحضوري، وامامهم مشوار طويل الى ان يصلوا الى قناعة متينة وراسخة حول رؤية اعاظمهم وكبارهم الى العالم والانسان.
إن دراسة اوضاع واحوال الحضارات البائدة تشير الى ان اي حضارة في ذروة ازدهارها وتالقها، كانت تتواصل بشكل كبير مع ثقافتها وادبها، بحيث ان الثقافة كانت تنفخ في روحها في جميع الصور المادية لتلك الحضارة وان الذين ترعروا وتربوا في احضان تلك الحضارة والثقافة، كانوا يظهرون خصائصهم الثقافية في كل بناء يشيدونه وبناء على ذلك فانه يمكن اليوم تحديد هوية معينة للعمارات او اي من المناسبات. وفيما عدا ذلك فان كلها كانت تحكي الاضطراب الداخلي لمعماريها وصانعيها. ان التعريف المحدد الذي يوضح معالم عمارة ما بصورة جزئية او حضارة ما بصورة كلية، مؤشر على نوعية الرؤية الخاصة تجاه الكون. انعكاس لانطباع المعمار عن العالم ومكانة الانسان، وروح نفخت في مواد البناء. ومن هنا يجب القول بان «اخلاق وثقافة اي امة تترسخ في فكرها او علم الكون الخاص بها». لكن يجب الانتباه الى انه كلما تحولت قناعة قوم ما حول الكون الى «علم» و «وعي»، فان تلك القناعة ستمسخ، لان الانسان يتقيد ازاء قناعاته فحسب ويعمل بما يمليه عليه قلبه، و في المقابل فان المعلومات لا تعكس اي قناعة ولا تضمن القيام باي عمل.
ورغم ان العوامل التي تؤدي الى مسخ الحضارات عديدة، الا ان اهمها عبارة عن انه ان فقدت امة ما «من يذكّر» بحقيقتها وقناعاتها او فصمت عراها عنه، فانها ستسير في حدور نازل، وتقترب كل لحظة من الزوال. وفي هكذا ظروف فان الاجيال التي تفتقد الى المذكرين الحقيقيين، يجلسون لفترة من الزمن على مائدة ابائهم لكنهم ينسون تدريجيا ما اكتسوبه من معرفة امام القناعات الجديدة ويبنون عملهم على رؤية غريبة، ويكرمون ذكريات الاب فحسب. وعندها تنهار صورة المدينة السابقة وتفسح المجال امام ارساء صرح اقتبس روحه وقدرته من الفكر الاجنبي والغريب، وفي هذه الاثناء فان ابنائهم يميلون الى ثقافة لا تمت اليهم باي صلة من دون ان يستشعروا بالخطر والعبث او غياب الهوية ويرون انفسهم فجأة بين حضارة تستنزف جسمهم وروحهم. ويتجاهلون ان همزة وصل وارتباط الاجيال بالهويات وعلم الكونيات، تُحفظ في ملاذ وحصن اهل الراي والمذكرين الحقيقيين، اولئك الذين يكرسون طاقاتهم وجهدهم لتطوير الباطن الانساني لكي تنتبه القلوب الى الحقيقة. لانهم ادركوا جيدا بان صدر الانسان لا ذهنه، هو مستقر المعتقدات والقناعات. ولذلك فانهم يستخدمون التمثيل والحكاية بافضل وجه، لان المستمع الى الكلام التمثيلي يتذكر شيئا فشيئا ويتأدب بالانطباعات التي يستقيها. الادب الذي يُتوارث ويجعل الابناء حماة تلك الهوية والثقافة، لان العالم هش تحت اقدام ارباب الحكمة والحصافة، الذين يرتبطون بمصدر الكون من خلال اختراق قشرة الحياة، وهذا الارتباط الحضوري يجعل كلامهم خالدا. ان هذا الانطباع الحضوري عن حياة الانسان وغاية سيره وسفره في ربوع الارض يفضي بصورة طبيعية الى مجموعة من الاداب تفسر كيفية الحياة وكيفية الوجود.
إن تذكير حكماء وحصفاء مثل «فردوسي» واخرين ب «الموت» ونوع من الحياة التي تفضي الى موت مرجو ويليق بماهية الانسان وطبيعته، يوضح ادب العيش في الارض. ان هذا الانطباع يستحدث في الحقيقة ادابا تربط «العيش» والسير والسلوك في ربوع الارض بمصدر تلك الانطباعات، وتدفع الانسان الى ترتيب حياته في ظل الاهتمام بذلك المصدر وحقيقة الكون. وعندها فان اي عمل يكون مقبولا عندما ينطوي على الصلاح والفلاح في المستقبل، وبخلاف ذلك فانه سيكون مرفوضا ومذموما. بعبارة اوضح فان «الحاضر» يُرسم في هذا النوع من الانطباعات على اساس «المستقبل»، وان التعريف بالحياة ينبع من التعريف بالموت. ويجب الانتباه الى انه ما وراء جميع التعليمات والاساليب المقترحة حول الحياة، فان ثمة تعريفا خاصا عن «الموت» وما يتبعه من تعريف عن منشأ الكون وخلقة الانسان. واهتم شعراء وادباء ومتكلمو اهل الذكر في هذه البلاد في اعمالهم بتبيان جميع اوجه حياة الانسان، اي كيفية العيش تاسيسا على الهوية الحقيقية.
إن اعمال متكلمين وشعراء (ايرانيين) مثل عطار نيشابوري وسنائي غزنوي وسعدي شيرازي وضعت تماما في خدمة «ادب العيش» المبني على «الدين» و «الاخلاق» او «عقل المعاد» واي حكاية وتمثيل تاخذ طابعا للتذكير وتزيل غبار الغفلة والنسيان.
إن «العقل جزئي النظرة» لا يؤمن بوجود ترابط بين «الحاضر» و «الماضي». ان صاحب هذا العقل لا يعتبر ان الحياة تيار بدا من الماضي ويرتبط بالمستقبل، لذلك فانه يتدبر في الشؤون المتعلقة بالحياة اليومية الروتينية وينهمك ببناء وتعمير الحال من دون ان يقيم اتصالا بالماضي.
إن جميع الادباء والمتكلمين الذين تجاوزوا ساحة «العقل الجزئي» ووصلوا الى معرفة حول الموت والعالم الاخر، اتخذوا من «عقل المعاد» وزيرا ومستشارا لهم وشجعوا الانسان على الذهاب الى هذا المنزل من خلال نقل العديد من الاحداث والحكايات التي حلت بالاجيال السالفة. ان المتمكنين في هذه الساحة (عقل المعاد) اعتمدوا نوعا من «الاخلاق والادب» وذكروا الجميع بها لكي ينال الانسان قسطا وافرا من الفلاح والامن في العالم الآخر.
إن التساؤل حول «الفكر» و «الثقافة» و «الحضارة» هو التساؤل عن كيفية التطورات التي تطرا في العالم. الحديث عما يحدث على امتداد الحياة على الارض، وما يتغير ويتطور فيه ويتكرس في الكتب والاذهان او الصور المادية للحياة، ليظهر نفسه مرة اخرى بشكل ما. لانه لا يمكن العثور في الارض على موضوع وكلام لا يرتبطان بشكل ما باحد هذه الموضوعات الثلاثة وهي الفكر والثقافة والحضارة.
یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.