فى 17 أغسطس 2006، أى أثناء الحرب العربیة الإسرائیلیة السادسة، وبینما كانت الطائرات الإسرائیلیة تدك المدن والقرى والبنیة التحتیة اللبنانیة وتُسیل دم المدنیین، نشرت صحیفة معاریف مقالاً كتبه الصحفى یونتان شیم بعنوان “أسست تل أبیب فى عام 1909 وفى عام 2009 ستصبح أنقاضاً “. جاء فى المقال “أنه قبل مائة عام أقاموا أولى المدن العبریة، وبعد مائة عام من العزلة قضى أمرها”. ما الذى یدعو مثل هذا الكاتب للحدیث عن النهایة، نهایة إسرائیل، فى وقت بلغت فیه القوة العسكریة الإسرائیلیة ذروتها، وتجاوز الدعم الأمریكى، السیاسى والمالى والعسكرى، لها كل الحدود والخطوط الحمراء؟ كیف یمكن تفسیر هذا الموقف؟
فى 17 أغسطس 2006، أى أثناء الحرب العربیة الإسرائیلیة السادسة، وبینما كانت الطائرات الإسرائیلیة تدك المدن والقرى والبنیة التحتیة اللبنانیة وتُسیل دم المدنیین، نشرت صحیفة معاریف مقالاً كتبه الصحفى یونتان شیم بعنوان “أسست تل أبیب فى عام 1909 وفى عام 2009 ستصبح أنقاضاً “. جاء فى المقال “أنه قبل مائة عام أقاموا أولى المدن العبریة، وبعد مائة عام من العزلة قضى أمرها”. ما الذى یدعو مثل هذا الكاتب للحدیث عن النهایة، نهایة إسرائیل، فى وقت بلغت فیه القوة العسكریة الإسرائیلیة ذروتها، وتجاوز الدعم الأمریكى، السیاسى والمالى والعسكرى، لها كل الحدود والخطوط الحمراء؟ كیف یمكن تفسیر هذا الموقف؟
ابتداء لابد وأن نذكر حقیقة تاهت عن الكثیرین فى العالم العربى وهو أن موضوع نهایة إسرائیل متجذر فى الوجدان الصهیونى. فحتى قبل إنشاء الدولة أدرك كثیر من الصهاینة أن المشروع الصهیونى مشروع مستحیل وأن الحلم الصهیونى سیتحول إلى كابوس. وبعد إنشاء الدولة، وبعد أن حقق المستوطنون الصهاینة “النصر” على الجیوش العربیة تصاعد هاجس النهایة. ففى عام 1954 قال موشیه دیان، وزیر الدفاع والخارجیة الإسرائیلى، فى جنازة صدیق له قتله الفدائیون الفلسطینیون: “علینا أن نكون مستعدین ومسلحین، أن نكون أقویاء وقساة، حتى لا یسقط السیف من قبضتنا وتنتهی الحیاة”. النهایة، ماثلة دائما فى العقول، فالضحایا الذین طردوا من دیارهم تحولوا هم وأبناؤهم إلى فدائیین یقرعون الأبواب یطالبون بالأرض التى سلبت منهم. ولذا فإن الشاعر الإسرائیلی حاییم جوری یرى أن كل إسرائیلی یُولَد “وفی داخله السكین الذی سیذبحه”، فهذا التراب (أی إسرائیل) لا یرتوی”،فهو یطالب دائماً “بالمزید من المدافن وصنادیق دفن الموتى”. فى المیلاد یوجد الموت وفى البدایة توجد النهایة.
وتتناول قصة “فی مواجهة الغابة” التی كتبها الروائی الإسرائیلی أبراهام یهوشوا فى النصف الأول من الستینیات الحالة النفسیة لطالب اسرائیلى عُیِّن حارساً لغابة غرسها الصندوق القومی الیهودی فی موقع قریة عربیة أزالها الصهاینة مع ما أزالوه من قرى ومدن. ورغم أن هذا الحارس ینشد الوحدة، إلا أنه یقابل عربیاً عجوزاً أبكم من أهل القریة یقوم هو وابنته برعایة الغابة، وتنشأ علاقة حب وكره بین العربی والإسرائیلی، فالإسرائیلی یخشى انتقام العربی الذى أصیب بعاهته أثناء عملیة التنظیف العرقى التى قام بها الصهاینة عام 1948. ولكن وعلى الرغم من هذا یجد نفسه منجذباً إلى العجوز العربى بصورة غیر عادیة، بل یكتشف أنه یحاول، بلا وعی، مساعدته فی إشعال النار فى الغابة. وفی النهایة، عندما ینجح العربی فی أن یضرم النار فی الغابة، یتخلص الحارس من كل مشاعره المكبوتة، ویشعر براحة غریبة بعد احتراق الغابة، أى بعد نهایة اسرائیل!
وفى اجتماع مغلق فى مركز الدراسات السیاسة والاستراتیجیة فى الأهرام أخبرنا الجنرال الفرنسی أندریه بوفر، الذی قاد القوات الفرنسیة فی العدوان الثلاثی على مصر عام 1956، بواقعة غریبة، كان هو شاهدها الوحید. فقد ذهب لزیارة إسحق رابین فی منتصف یونیة 1967 أى بعد انتهاء الحرب بعدة أیام، وبینما كانا یحلقان فى سماء سیناء والقوات الإسرائیلیة المنتصرة فى طریق عودتها إلى إسرائیل بعد أن أنجزت مهمتها، قام الجنرال بوفر بتهنئة رابین على نصره العسكرى، ففوجىء به یقول: “ولكن ماذا سیتبقى من كل هذا؟” “what will remain of it?” all. فى الذروة أدرك الجنرال المنتصر حتمیة الهوه والنهایة.
إن موضوع النهایة لا یحب أحد فى إسرائیل مناقشته، ولكنه مع هذا یُطل برأسه فى الأزمات. ففى أثناء انتفاضة 1987، حین بدأ الإجماع الصهیونى بخصوص الاستیطان یتساقط، حذر إسرائیل هاریل المتحدث باسم المستوطنین من أنه إذا حدث أى شكل من أشكال الانسحاب والتنازل (أى الانسحاب من طرف واحد). فإن هذا لن یتوقف عند الخط الأخضر (حدود 1948) إذ سیكون هناك انسحاب روحى یمكن أن یتهدد وجود الدولة ذاتها (الجیروسالیم بوست 30ینایر1988). وأخبر رئیس مجلس السامرة الإقلیمى شارون (فى مشادة كلامیة معه) “إن هذا الطریق الدبلوماسى هو نهایة المستوطنات، إنه نهایة اسرائیل” (هآرتس17ینایر2002). ویردد المستوطنون أن الانسحاب من نابلس یعنى الانسحاب من تل أبیب.
ومع انتفاضة الأقصى تحدثت الصحف الإسرائیلیة عدة مرات عن موضوع نهایة إسرائیل. فقد نشرت جریدة یدیعوت أحرونوت (27 ینایر 2002) مقالا بعنوان “یشترون شققاً فى الخارج تحسباً للیوم الأسود”، الیوم الذى لا یحب الإسرائیلیون أن یفكروا فیه، أى نهایة اسرائیل!. والموضوع نفسه یظهر فى مقال یاعیل باز میلماد (معاریف 27دیسمبر2001) الذى یبدأ بالعبارة التالیة: “أحاول دائماً أن أبعد عنى هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل فى كل مرة وتظهر من جدید: هل یمكن أن تكون نهایة الدولة كنهایة الحركة الكیبوتسیة؟ ثمة أوجه شبه كثیرة بین المجریات التى مرت على الكیبوتسات قبل أن تحتضر أو تموت، وبین ما یجرى فى الآونة الأخیرة مع الدولة”. وقد لخص جدعون عیست الموقف فى عبارة درامیة “ثمة ما یمكن البكاء علیه: اسرائیل”(یدیعوت أحرونوت 29 ینایر2002) .
بل إن مجلة نیوزویك (2إبریل2002) صدرت وقد حمل غلافها صورة نجمة اسرائیل، وفى داخلها السؤال التالى: “مستقبل اسرائیل: كیف سیتسنى لها البقاء؟”. وقد زادت المجلة الأمور إیضاحاً حین قالت: “هل ستبقى الدولة الیهودیة على قید الحیاة؟ وبأى ثمن؟ وبأیة هویة؟”. ولكن ما یهمنا فى هذا السیاق ما قاله الكاتب الإسرائیلى عاموس إیلون: الذى أكد أنه فى حالة یأس لأنه یخشى أن یكون الأمر قد فات”. ثم أضاف “لقد قلت لكم مجرد نصف ما أخشاه” (النصف الثانى أن الوقت قد فات بالفعل). ویتكرر الحدیث عن نهایة اسرائیل فى مقال إیتان هابر بعنوان “لیلة سعیدة أیها الیأس.. والكآبة تكتنف اسرائیل” (یدیعوت أحرونوت 11نوفمبر2001). یشیر الكاتب إلى أن الجیش الأمریكى كان مسلحاً بأحدث المعدات العسكریة، ومع هذا یتذكر الجمیع صورة المروحیات الأمریكیة تحوم فوق مقر السفارة فى سایجون، محاولة إنقاذ الأمریكیین وعملائهم المحلیین فى ظل حالة من الهلع والخوف حتى الموت. إن الطائرة المروحیة هى رمز الهزیمة والاستسلام والهروب الجبان فى الوقت المناسب. ثم یستمر الكاتب نفسه فى تفصیل الموقف: “إن جیش الحفاة فى فیتنام الشمالیة قد هزم المسلحین بأحدث الوسائل القتالیة. ویكمن السر فى أن الروح هى التى دفعت المقاتلین وقادتهم إلى الانتصار. الروح تعنى المعنویات والتصمیم والوعى بعدالة النهج والإحساس بعدم وجود خیار آخر. وهو ما تفتقده إسرائیل التى یكتنفها الیأس”.
أما أبراهام بورج فیقول فی مقال له (یدیعوت أحرونوت، 29 أغسطس 2003) إن “نهایة المشروع الصهیونی على عتبات أبوابنا. وهناك فرصة حقیقیة لأن یكون جیلنا آخر جیل صهیونی. قد تظل هناك دولة یهودیة، ولكنها ستكون شیئا مختلفاً، غریبة وقبیحة… فدولة تفتقد للعدالة لا یمكن أن یُكتب لها البقاء… إن بنیة الصهیونیة التحتیة آخذة فی التداعی… تماماً مثل دار مناسبات رخیصة فی القدس، حیث یستمر بعض المجانین فی الرقص فی الطابق العلوی بینما تتهاوى الأعمدة فی الطابق الأرضی”. ثم، أطل الموضوع برأسه مجدداً فی مقال لیرون لندن (یدیعوت أحرونوت 27 نوفمبر 2003) بعنوان: “عقارب الساعة تقترب من الصفر لدولة إسرائیل”، وجاء فیه “فی مؤتمر المناعة الاجتماعیة الذی عُقد هذا الأسبوع، عُلم أن معدلاً كبیراً جداً من الإسرائیلیین یشكون فیما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 سنة. وهذه المعطیات المقلقة تدل على أن عقارب الساعة تقترب من الساعة 12، (أى لحظة النهایة) وهذا هو السبب فی كثرة الخطط السیاسیة التی تولد خارج الرحم العاقر للسلطة”. وحینما أصدرت محكمة العدل الدولیة حكمها بخصوص الجدار العازل وعدم شرعیته بدأ الحدیث على الفور عن أن هذه هى بدایة النهایة.
والسؤال الذى یطرح نفسه: لماذا هاجس النهایة الذى یطارد الإسرائیلیین؟ سنجد أن الأسباب كثیرة، ولكن أهمها إدراك المستوطنین الصهاینة أن ثمة قانوناً یسری على كل الجیوب الاستیطانیة، وهو أن الجیوب التی أبادت السكان الأصلیین (مثل أمریكا الشمالیة واسترالیا) كُتب لها البقاء، أما تلك التی أخفقت فی إبادة السكان الأصلیین (مثل ممالك الفرنجة التى یقال لها الصلیبیة والجزائر وجنوب أفریقیا) فكان مصیرها الزوال. ویدرك المستوطنون الصهاینة جیداً أن جیبهم الاستیطانى ینتمى لهذا النمط الثانى وأنه لا یشكل أی استثناء لهذا القانون. إن الصهاینة یدركون أنهم یعیشون فى نفس الأرض التى أقیمت فیها ممالك الفرنجة وتحیط بهم خرائب قلاع الفرنجة. التى تذكرهم بهذه التجربة الاستیطانیة التى أخفقت وزالت. ومما یعمق من هاجس النهایة أن الوجدان الغربى والصهیونى یوحد من البدایة بین المشروع الصلیبى والمشروع الصهیونى ویقرن بینهما، فلوید جورج رئیس الوزارة البریطانیة التی أصدرت وعد بلفور، صرح أن الجنرال اللنبی الذی قاد القوات الإنجلیزیة التی احتلت فلسطین شن وربح آخر الحملات الصلیبیة وأعظمها انتصاراً. ویمكننا أن نقول إن المشروع الصهیونی هو نفسه المشروع الفرنجی بعد أن تمت علمنته، وبعد أن تم إحلال المادة البشریة الیهودیة التی تم تحدیثها وتطبیعها وتغریبها وعلمنتها محل المادة البشریة المسیحیة.
لكل هذا یدرس العلماء الإسرائیلیون المقومات البشریة والاقتصادیة والعسكریة للكیان الفرنجى، والعلاقة بین هـذا الكیـان والوطن الأصلی المساند له. وقد وجَّه كثیر من الباحثین الصهاینة اهتمامهم لدراسة مشكلات الاستیطان والهجرة التی واجهها الكیان الفرنجى ومحاولة فهم عوامل الإخفاق والفشل التی أودت به.
ولكن الاهتمام لا یقتصر على الدوائر الأكادیمیة، فنجد أن شخصیات سیاسیة عامة مثل إسحق رابین وموشیه دیان یهتمون بمشاكل الاستیطان والهجرة. ففی سبتمبر 1970، عقد إسحق رابین مقارنة بین ممالك الفرنجة والدولة الصهیونیة حیث توصَّل إلى أن الخطر الأساسی الذی یهدد إسرائیل هو تجمید الهجرة، وأن هذا هو الذی سیؤدی إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سریان دم جدید فیها.
ویورى أفنیرى، الكاتب الصحفى الإسرائیلى، وعضو الكنیست السابق، كان من المستوطنین الصهاینة الذین أدركوا منذ البدایة استحالة تحقیق المشروع أو الحلم الصهیونى. ولذا كان ینشر منذ الخمسینات مجلة هاعولام هزه (هذا العالم) والتى تخصصت فى توجیه النقد للسیاسات الصهیونیة. وكان أفنیرى یحذر الصهاینة من مصیر ممالك الفرنجة التى لم یبق منها سوى بعض الخرائب. وقد صدر له كتاب بعنوان إسرائیل بدون صهیونیة ( 1968) عقد فیه مقارنة مستفیضة بین ممالك الفرنجة والدولة الصهیونیة، فإسرائیل مثل ممالك الفرنجة مُحاصَرة عسكریاً لأنها تجاهلت الوجود الفلسطینی ورفضت الاعتراف بأن أرض المیعاد یقطنها العرب منذ مئات السنین. ثم عاد أفنیری إلى الموضوع، عام 1983، بعد الغزو الصهیونی للبنان، فی مقال نشر فی هاعولام هزه بعنوان “ماذا ستكون النهایة”، فأشار إلى أن ممالك الفرنجة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التی احتلتها الدولة الصهیونیة، وأن الفرنجة كانوا قادرین على كل شیء إلا العیش فی سلام، لأن الحلول الوسط والتعایش السلمی كانا غریبین على التكوین الأساسی للحركة. وحینما كان جیل جدید یطالب بالسلام كانت مجهوداتهم تضیع سدى مع قدوم تیارات جدیدة من المستوطنین، الأمر الذی یعنی أن ممالك الفرنجة لم تفقد قط طابعها الاستیطانی. كما أن المؤسسة العسكریة الاقتصادیة للفرنجة قامت بدور فعال فی القضاء على محاولات السلام، فاستمر التوسع الفرنجی على مدى جیل أو جیلین. ثم بدأ الإرهاق یحل بهم، وزاد التوتر بین المسیحیین الفرنجة من جهة وأبناء الطوائف المسیحیة الشرقیة من جهة أخرى، الأمر الذی أضعف مجتمع الفرنجة الاستیطانی، كما ضعف الدعم المالی والسـكانی من الغـرب. وفی الوقت نفســه، بدأ بعـث إسلامی جدید، وبدأت الحركة للإجهاز على ممالك الفرنجة، فأوجد المسلمون طرقاً تجاریة بدیلة عن تلك التی استولى علیها الفرنجة. وبعد موت الأجیال الأولى من أعضاء النخبة فی الممالك، حل محلهم ورثة ضعفاء فی وقت ظهرت فیه سلسلة من القادة المسلمین العظماء ابتداءً من صلاح الدین ذی الشخصیة الأسطوریة حتى الظاهر بیبرس. وظل میزان القوى یمیل لغیر صالح الفرنجة، ولذا لم یكن هناك ما یوقف هزیمتهم ونهایتهم ونهایة الممالك الصلیبیة!
لكل هذا عاد هاجس النهایة مرة أخرى بعد الحرب السادسة وبعد الصمود اللبنانى العظیم فى وجه الهمجیة الأسرائیلیة، وبعد إبداع المقاومة اللبنانیة. فقد اكتشف الصهاینة حدود القوة ووصلوا إلى مشارف النهایة، وكما قال المثقف الإسرائیلى شلومو رایخ: “إن اسرائیل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهایتها المحتومة”. فالانتصارات العسكریة لم تحقق شیئاً، لأن المقاومة مستمرة مما یؤدى إلى ما سماه المؤرخ الاسرائیلى یعقوب تالمون (نقلاً عن هیجل) “عقم الانتصار”.
والله أعلم