هل هو من الفضول العلمی أن نتحدث عن معالم دولة لا أحد یدری متى تأتی، ربما قریباً، وربما بعیداً، وربما فی غایة البُعد؟ ولماذا یرغب كثیر من الناس وربما كل الناس أن یتعرفوا على معالم تلك الدولة؟ هل هو مجرد نزوع لاكتشاف المجهول حتى وإن لم یكن یؤثر شیئاً ما على مسارات حیاتهم؟ لكن علم الاجتماع، وعلم التاریخ الانسانی هو الآخر ومن منطلقات علمیة یحاول أن یكتشف معالم ذلك المستقبل لماذا؟
هل هو من الفضول العلمی أن نتحدث عن معالم دولة لا أحد یدری متى تأتی، ربما قریباً، وربما بعیداً، وربما فی غایة البُعد؟
ولماذا یرغب كثیر من الناس وربما كل الناس أن یتعرفوا على معالم تلك الدولة؟ هل هو مجرد نزوع لاكتشاف المجهول حتى وإن لم یكن یؤثر شیئاً ما على مسارات حیاتهم؟
لكن علم الاجتماع، وعلم التاریخ الانسانی هو الآخر ومن منطلقات علمیة یحاول أن یكتشف معالم ذلك المستقبل لماذا؟
مدلول البحث عن المستقبل التاریخی:
لیست المسألة اذن مجرد فضول علمی، ولا نزعة فطریة لاكتشاف المجهول، وإنما هی ذات مدالیل ترتبط بحركتنا المعاصرة والمسارات العقائدیة والسیاسیة التی اخترناها، إلى أین تنتهی؟ ومن هو المنتصر؟ ومن هو صاحب الرؤیة الصحیحة؟ ومتى ستنتهی هذه المعاناة البشریة؟ وكیف ستنتهی؟ وما هی الوسائل؟ كل هذه الأسئلة تلقی بظلالها على طبیعة العقیدة وطبیعة المسارات والمناهج التی نختارها لحیاتنا، ومن أجل ذلك فإن كل ایدیولوجیة تحاول أن ترسم صورة ذلك المستقبل، ومعالم تلك الدولة العالمیة بما یتناسب مع تلك الایدیولوجیة.
الماركسیون یرون أنها مجتمع العمال العالمیة، الذی تنتهی فیها مؤسسات الدولة، ویدار إدارة ذاتیة.
النصارى یعتقدون أن السید المسیح هو الذی سیقود عملیة الإصلاح الكبرى.
وبطبیعة الحال ستكون الدیانة النصرانیة كما ستكون الكنیسة هی صاحبة النفوذ فی تلك الدولة.
فیما یتحدث المسلمون: أن الإسلام هو الذی سیؤسس تلك الدولة، وسیقودها واحدٌ من ذریة رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم.
اما الغرب العلمانی فهو یعتقد ـ ومن منطلقات علمیة أیضاً ـ أن العالم الحر الذی تسوده الدیمقراطیة وترعاه التكنلوجیا المتطورة وتنتهی عنده كل أنواع النظم الدیكتاتوریة، والایدیولوجیات الأحادیة، كما تنتهی عنده الاختناقات الاقتصادیة؛ هو الصورة التی سیشهدها المستقبل البشری بدون شك.
أدوات المعرفة بالمستقبل:
وهناك سؤال آخر لیس أقل أهمیة من السؤال الأول.
ما هی أدواتنا لمعرفة ذلك المستقبل ربما الغارق فی البعد؟
هل تستطیع القوانین التی اكتشفها الإنسان للمجتمع، والتاریخ، والاقتصاد والطبیعة أن ترسم لنا صورة ذلك المستقبل بشكل دقیق؟
ما تزال معلوماتنا غیر دقیقة بتلك القوانین، فهی فی أحسن حالاتها قد ترسم لنا صورة خیالیة لا أكثر دون أن تتمتع بقیمة علمیة.
إذن ما هی الأدوات التی یعتمدها الفكر الدینی فی هذا الموضوع بالذات؟
الإسلام لا ینفی وجود قوانین تحكم البشر كما تحكم الطبیعة.
والإسلام لا ینفی خضوع المسیرة البشریة لقوانین تحكم المجتمعات فی الماضی والحاضر والمستقبل.
لكن السؤال عمّا إذا كان الإنسان قادراً على المعرفة الدقیقة بتلك القوانین، وهو لم یزل رغم كل الدراسات والبحوث إلاّ على حافة الطریق.
أمّا الإسلام فهو حین یتحدث عن المستقبل البعید للبشریة فإنه یعتمد على أدوات الوحی، ومن هنا فإن المعلومات التی یقدمها هی معلومات یقینیة لا تقبل الخطأ أو الجدل.
فحینما تحدث القرآن عن الروم قائلاً: ((غُلِبَتِ الرُّومُ * فِی أَدْنَى الأَْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَیَغْلِبُونَ)) أو حینما یتحدث عن بنی إسرائیل قائلاً: ((لَتُفْسِدُنَّ فِی الأَْرْضِ مَرَّتَیْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِیراً * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَیْكُمْ عِباداً لَنا أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ)).
فإنه لا یتحدث اعتماداً على قوانین علم المجتمعات البشریة، وسنن التاریخ، وإنما یتحدث اعتماداً على مصدر الوحی المحیط إحاطة كاملة بكل تحولات المجتمع البشری.
والآن ماذا یتحدث العلم الدینی عن معالم دولة المهدی علیه السلام؟
لا شك أنها مسألة لا یمكن اكتشافها بأدواتنا المعرفیة التحلیلیة أو العقلیة، ولذا فإن مصدرنا الوحید هو اعتماد التراث الدینی الصادر عن أهل بیت الوحی والنبوة، وبمقدار ما یكون هذا التراث الدینی دقیقاً فإن معلوماتنا ستكون دقیقة، لكننا یجب أن نؤكد أنه لیس كل ما ورد فی هذا الشأن هو دقیق وصحیح من الناحیة العلمیة، ولذا فإن علینا أن لا نقبل إلا بما هو ثابت وصحیح من حیث السند أو من حیث المضمون، من خلال عرضه على النص القرآنی أو من خلال ثبوته بشكل تواتر لا یقبل الشك.
فی هذا الضوء نستطیع أن نسجّل عدة معالم لدولة الإمام المهدی علیه السلام.
المعلم الأول: العالمیة
إن دولة الإمام المهدی علیه السلام فی ضوء ما هو الثابت من النص الدینی هی دولة عالمیة، تسقط فیها الحواجز القومیة، وتتوحد فیها الملل البشریة. متجاوزة حدود اللغات، والأعراق، والتضاریس.
هی دولة الأرض كلها كما یشیر إلى ذلك القرآن الكریم بالقول: ((وَلَقَدْ كَتَبْنا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ یَرِثُها عِبادِیَ الصَّالِحُونَ)).
یمكن أن نقرأ بهذا الصدد النصوص الشرعیة الثابتة مثل: ما روی عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قوله: (لو لم یبق من الدنیا إلا یوم لطوّل الله ذلك الیوم حتى یخرج رجل من ولدی یواطئ اسمه اسمی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً).
وكذلك ما روی عن الإمام علی علیه السلام، قوله: (یبعث الله رجلاً فی آخر الزمان.. یملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً وبرهاناً، یدین له عرض البلاد وطولها لا یبقى كافر إلا آمن ولا طالح إلا صلح…)(1)
وتوجد فی هذا السیاق عشرات الروایات فی مصادر الحدیث لدى الشیعة والسنة بما یجعلها فی موضع الیقین.
المعلم الثانی: الإسلامیة
كما تؤكد النصوص الیقینیة الصحیحة أن دولة الإمام المهدی علیه السلام هی دولة تقوم على أساس الإسلام، الإسلام الذی جاء به محمد بن عبد الله صلى الله علیه وآله وسلم، ولیس دیناً جدیداً، ولا هو الإسلام فی معناه العام الذی یستوعب كل الدیانات التوحیدیة والذی یعنی التسلیم إلى الله تعالى، بل هو إسلام القرآن وحده، وفی هذا الإسلام سوف تدخل جمیع البشریة، ویعم نوره كل الأرض.
ورغم أن بعض النصوص تؤكد أنه یأتی (بدین جدید) إلاّ أن مراجعة دقیقة لكل تلك النصوص توضح أن المقصود هو الإسلام نفسه، لكنه حیث كان غریباً على الناس یومئذ فأضحى كأنه دین جدید.
لنقرأ فی هذا الصدد بعض الروایات وهی كثیرة بمستوى الیقین بصحتها وصدورها من الإمام المعصوم علیه السلام.
1 ـ عن محمد قال: سألت أبا جعفر والباقر علیهما السلام عن القائم إذا قام بأی سیرة یسیر فی الناس؟
قال: بسیرة ما سار به رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم حتى یظهر الإسلام.
قال: وما كانت سیرة رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم؟
قال: أبطل ما كان فی الجاهلیة، واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم علیه السلام إذا قام یبطل ما كان فی من كان فی أیدی الناس ویستقبل بهم العدل).(2)
2 ـ عن عبد الله بن عطا قال: سألت أبا جعفر الباقر علیه السلام:
فقلت: إذا قام القائم علیه السلام بأی سیرة یسیر فی الناس؟
فقال: یهدم ما قبله كما صنع رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ویستأنف الإسلام جدیداً).(3)
المعلم الثالث: الإزدهار الاقتصادی
ومن أبرز معالم دولة الإمام المهدی علیه السلام هو الازدهار الاقتصادی، حیث یزول التفاوت الطبقی الفاحش، كما یزول الفقر والحرمان، وتعمّ ظاهرة الثراء والغنى لمختلف شرائح الناس.
وربما یمكن تفسیر هذه الظاهرة على أساس التقدم التقنی، والاستثمار الواسع لثروات الطبیعة، لكن ما یظهر من الروایات الشریفة أن المسألة ترتبط بصلاح الناس وإیمانهم الذی یستنزل رحمة الله وعطفه على العباد كما فی قوله تعالى ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَیْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَْرْضِ)).(4)
لم تكن ظاهرة الازدهار الاقتصادی والرفاه العیشی فی دولة الإمام المهدی علیه السلام قائمة على أساس زوال الطبقیة، ومصادرة الملكیة، وحكومة الطبقة العالمیة كما تبشر به الماركسیة.
ولم یكن قائماً على أساس الاستثمار اللامحدود لرؤوس الأموال، وفتح أبواب التنافس الاقتصادی والجشع اللا متناهی لدى الطبقة الثریة كما تبشر به الرأسمالیة.
وإنما هو تنامی البُعد المعنوی لدى البشریة إلى جانب التقدم العلمی، والاستثمار الواسع للطبیعة.
لنقرأ فی هذا السیاق بعض النصوص كمؤشرات على الفكرة…
1 ـ عن أبی سعید الخدری عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم:(5)
(یخرج رجل من أهل بیتی ویعمل بسنتی وینزل الله له البركة من السماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وقال صلى الله علیه وآله وسلم: (یتنعّم أمتی فی زمن المهدی علیه السلام نعمة لم یتنعموا قبلها قط: یرسل السماء علیهم مدراراً، ولا تدع الأرض شیئاً من نباتها إلاّ أخرجته).
2 ـ وعن الإمام علی علیه السلام: (ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشی المرأة بین العراق إلى الشام لا تضع قدمیها إلا على نبات..).(6)
وعن الإمام علی علیه السلام أیضاً: (یبعث الله رجلاً فی آخر الزمان.. یدین له عرض البلاد وطولها… وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز…).(7)
المعلم الرابع: الإزدهار الثقافی
قد یبدو الحدیث عن الإزدهار الثقافی فی مستقبل التاریخ البشری حدیثاً عن أمر واضح وحقیقة لا تحتاج إلى بیان، لكن النصوص الدینیة التی بین أیدینا والتی تعود إلى أكثر من اثنی عشر قرناً ماضیاً حین تؤكد ذلك فإنها تتحدث عن نهوض علمی، وقفزة ثقافیة هائلة لم تكن بالحسبان یومئذ.
وربما تكون تلك النصوص إشارة إلى التقدم العلمی الذی نشهده الیوم، لكنها فی الحقیقة أقرب إلى مدلول آخر، هو انتشار الوعی والثقافیة لیس على مستوى النُخَب الفكریة وإنما على مستوى أبناء المجتمع كلهم، فهی تشیر إلى نقلة نوعیة حضاریة أوسع وأعمق مما نشهده الآن.
بهذا الصدد لنقرأ النصّین الآتیین:
1 ـ عن أبان عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام قال: (العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجمیع ما جاءت به الرسل حرفان فلم یعرف الناس حتى الیوم غیر الحرفین، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرین حرفاً فبثها فی الناس، وضمّ إلیها الحرفین حتى یبثها سبعة وعشرین حرفاً).(8)
وربما تكون هذه النصوص إشارة إلى الوعی الدینی أكثر ما هی إشارة إلى الإزدهار الثقافی عموماً، وهذا ما نلاحظه فی النص التالی:
عن الإمام الباقر علیه السلام: (كأنی بدینكم هذا لا یزال مولیاً یفحص بدمه ـ بقدمیه ـ ثم لا یردّه علیكم إلا رجل منّا أهل البیت ـ وتؤتون الحكمة فی زمانه حتى أن المرأة لتقضی فی بیتها بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم).(9)
المعلم الخامس: التقدم العلمی الهائل.
وفی أكثر من نصٍ ربما نقرأ الإشارة إلى التقدم العلمی الهائل، والتقنیة المتطوّرة التی نشهد فی عصرنا الحاضر بعض أشكالها.
عن الإمام الصادق علیه السلام: (إن المؤمن فی زمان القائم وهو بالمشرق لیرى أخاه الذی فی المغرب، وكذا الذی فی المغرب یرى أخاه الذی فی المشرق).(10)
وعن الإمام الباقر علیه السلام: (إذا قائم القائم بعث فی أقالیم الأرض فی كل اقلیم رجلاً یقول: عهدك فی كفك، فإذا ورد علیك ما لاتفهمه ولا تعرف القضاء فیه، فانظر إلى كفك واعمل بما فیها).(11)
وعن الإمام الباقر علیه السلام قال: (إذا قام قائمنا وضع یده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم، وكملت بها أحلامهم).(12)
إن هذه النصوص قد تطبّق الیوم وبشكل طبیعی على التقنیة العالمیة فی وسائل الإتصال والمعلوماتیة، فالقراءة فی الكف ربما تكون قراءة فی جهاز محمول بالكف یستبطن جمیع الأحكام الشرعیة، وكذلك رؤیة المؤمن فی المشرق لأخیه وهو فی المغرب فهذا ما نشهده الیوم عبر أجهزة الإتصال المرئی.
لكن من الممكن أن تكون هذه الروایات ذات إشارة أخرى، فالملاحظ فیها أنها تتحدث عن المؤمنین ولا تتحدث عن عموم الناس، وهی تتحدث عن المبعوثین المعتمدین الذین یرسلهم الإمام فی أطراف الأرض…
وحینئذ فربما تكون إشارة إلى قدرات متفوقة فی المعرفة، والمشاهدة، والاتصال، إلاّ أنها قدرات لا یعرفها ولا ینالها إلا المؤمنون وربما تخضع لنمط من التأثیرات المعنویة الروحیة التی لاتتوفر إلاّ لدى المؤمنین. والله العالم.
المعلم السادس: الدیمومة
(الدیمومة) هی صفة أخرى من صفات دولة الإمام المهدی علیه السلام.
فهناك سؤال لدى عموم الناس كما هو سؤال لدى الباحثین فی قوانین علم الإجتماع وتاریخ الأمم، إن دولة الإمام المهدی علیه السلام وهی دولة العدالة المطلقة التی ستحكم البشریة فی نهایة التاریخ كم هو عمرها؟ هل تحتل مقطعاً زمنیاً قصیراً أم طویلاً ثم تنتهی؟
وإذا كان ستنتهی بعد عمرٍ قصیر أو طویل فماذا سیكون بعدها؟ وهل ستعود دولة الظلم والاستبداد مرةً أخرى؟ وحینئذ فما قیمة هذا التحوّل البسیط قیاساً إلى عمر التاریخ الإنسانی الملیء بالمرارة؟
ومن ناحیة سنن الطبیعة، وقوانین علم الاجتماع، هل یمكن لأیة حضارة من الحضارات، أو دولة من الدول أن تدوم؟
إن سنن الطبیعة ـ كما یقول ابن خلدون ـ لا تقبل ذلك، فكل دولة من الدول وكل حضارة من الحضارات تبدأ من مرحلة الطفولة ثم مرحلة المراهقة ثم مرحلة الشیخوخة ثم تنتهی وهو ما لا یستغرق أكثر من عمر جیلین لا أكثر، فهل هكذا ستكون دولة العدالة العالمیة!؟
ماذا یقول الدین فی هذه المسألة؟ وبالأحرى ماذا تقول النصوص الدینیة فی هذه المسألة؟
النصوص الدینیة فی هذا الموضوع جاءت متعددة ومختلفة، فبینما یؤكد بعضها أن حكم الإمام المهدی علیه السلام سوف لا یستغرق أكثر من سبع سنین، تقول روایات أخرى انه سیستمر أربعین سنة، فیما تقول روایات ثالثة انه سیستمر سبعین سنة، فیما تقول طائفة رابعة من الروایات انه سیدوم تسع عشرة سنة لا أكثر.
فیما یقول قسم خامس من الروایات أنه سیدوم ثلاثمائة وتسع سنة، إذن ما هو الموقف تجاه هذا الاختلاف فی نصوص الروایات؟
إن الموقف الذی یمكن اختیاره واعتماده فی الجمع بین هذه النصوص هو أن تلك الطوائف من الروایات تتحدث عن عمر حكومة الإمام المهدی علیه السلام والتی هی بالتأكید فترة محدودة سبع، أو تسع عشرة، أو أربعین، أو ثلاثمائة وتسع، وهذه الأرقام جمیعاً قد تذكر فی الاستعمال العربی لیس على أساس التحدید وإنما على أساس الإشارة إلى امتداد الفترة الزمنیة.
لكن المؤكد من روایات أخرى هو أن عمر دولة الإمام المهدی علیه السلام هو عمر أطول من عمر الإمام نفسه، وهو عمر یمتد إلى نهایة عمر البشریة ومن خلال أئمة هدى صالحین فهو یبین واحداً بعد واحد.
تعالوا بهذا السیاق نقرأ النصوص التالیة:
1 ـ عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام حین یسأله الراوی عن مدة مكث الإمام المهدی علیه السلام فی مسجد السهلة (قلت: جعلت فداك لا یزال القائم فیه أبداً؟ قال: نعم. قلت: فمن بعده؟ قال: من بعده مهدی بعد مهدی إلى انقضاء الخلق).(13)
2 ـ وعن الإمام الجواد علیه السلام عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فی حدیثه عن المهدی علیه السلام ان الله تعالى قال: (ولأنصرنه بجندی، ولأمدنه بملائكتی، حتى یعلن دعوتی، ویجمع الخلق على توحیدی، ثم لأدیمنّ ملكه ولأداولن الأیام بین أولیائی إلى یوم القیامة).(14)
3 ـ عن أبی بصیر یقول قلت للصادق علیه السلام:
(یابن رسول الله سمعت من أبیك انه قال: یكون بعد القائم اثنا عشر مهدیاً. قال: إنما قال اثنا عشر مهدیاً ولم یقل اثنا عشر إماماً ولكنهم قوم من شیعتنا یدعون الناس إلى موالاتنا).(15)
السابع: حكومة العدالة
العدالة هی عنوان الدولة التی یؤسسها الإمام المهدی علیه السلام وهذا العنوان لا یعنی مجرد شعار ترفعه هذه الدولة بمقدار ما یعنی مدلولاً سیاسیاً وایدیولوجیاً یرتبط بهدف النظام الحاكم ومناهجه وأولویاته.
لقد كانت الماركسیة ترفع شعار المساواة، بینما یرفع الغرب الیوم شعار الحریة فی إشارة إلى طبیعة النظام وأهدافه وأولویاتها فی التحرك.
ما هی الأولویات فی طبیعة نظام الحكم فی دولة الإمام المهدی علیه السلام؟
الإسلام هو الدین والمعتقد والنظام.
لكن مجالاً آخر یبقى للسؤال عما هی أولویات هذا النظام الذی سیطبقه الإمام المهدی علیه السلام فی دولته؟
لم یكن هذا السؤال غائباً عن ذاكرة النص الدینی الذی تحدث عن سمات دولة الإمام المهدی علیه السلام ومعالمها.
لقد جاء التأكید المكرّر، والمقصود، والهادف على أن العدالة هی عنوان تلك الدولة وهدفها وأولى أولویاتها.
وإذا كانت الحریة قیمة إنسانیة مهمة كما هی المساواة أیضاً، فإن دولة الإمام المهدی علیه السلام حریصة على أن تكون العدالة هی التی تتحرّك من خلالها الحریة والمساواة.
المساواة وحدها لیست ذات قیمة بعیداً عن العدالة فی التوزیع والاستخدام.
والحریة وحدها لیست ذات قیمة بعیداً عن العدالة فی التحرك والاختیار، العدالة هی المنار الذی تتحرك بإتجاهه المساواة والحریة.
ومن هنا جاءت التأكیدات القطعیة فی العشرات بل المئات من النصوص على عنوان العدالة فی دولة الإمام المهدی علیه السلام.
اسمحوا لنا أن نذكر نموذجاً منها وهو ما جاء مكرراً فی أسانید متعددة ومصادر موثوقة.
1 ـ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: لو لم یبق من الدنیا إلا یوم لطوّل الله ذلك الیوم حتى یبعث رجلاً منی یواطئ اسمه اسمی یملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً).(16)
2 ـ عن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: لو لم یبق من الدنیا إلاّ یوم واحد لطوّل الله ذلك الیوم حتى یخرج رجل من أهل بیتی یملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(17)
وربما یشیر إلى هذه الظاهرة ما جاء من الروایات العدیدة التی تقول: (لن تذهب الدنیا حتى یخرج رجل منا أهل البیت یحكم بحكم داود وآل داود لا یسأل الناس البیّنة) حیث كانت حكومة داود تعمل على أساس المعرفة الكاملة بالحقیقة بدلاً عن اعتماد وسائل الاثبات الظنیة.(18)
المعلم الثامن: دولة الأمان
هذه ظاهرة أخرى یرد التركیز علیها فی الروایات عن دولة الإمام المهدی علیه السلام حیث لا تكفی العدالة وحدها لتحقیق الصورة المثالیة لمجتمع صاحب العصر والزمان علیه السلام.
فربما تكون عدالة لكنها مشحونة بالاضطرابات والاعتداءات، فما هو واقع الحیاة فی دولة الإمام المهدی علیه السلام؟
یبدو أن دولة الإمام المهدی علیه السلام لا تخلو من مشاكل، ونزاعات فی داخل المجتمع، ومن هناكان هناك ـ كما جاء فی الثابت من الروایات ـ موقع كبیر للقضاء والمحاكم، إلاّ أن (الأمان) هو الظاهرة البارزة فی تلك الدولة.
یمكن أن نقرأ لذلك نموذجاً من الروایات فیما جاء عن الإمام علی علیه السلام قوله: (ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشی المرأة بین العراق إلى الشام، لا تضع قدمیها إلا على النبات، وعلى رأسها زنبیلها لا یهیجها سبع ولا تخافه)(19) حیث تعطی هذه العبارة الأخیرة دلالة واضحة على استتباب الأمن أو انقطاع مصادر الرعب والقلق، وهو ما تؤكده نصوص أخرى كثیرة یمكن الاطمئنان بصدورها وصحتها.
لعل هذه المعالم الثمانیة هی أبرز سمات دولة الإمام المهدی علیه السلام التی ننتظر أیامها، ونرجو قیامها.
جعلنا الله تعالى من أنصاره والمستشهدین بین یدیه.
الهوامش:
(1) بحار الأنوار ج52 ص 280 وغیرها.
(2) البحار ج52 ص 381 عن التهذیب للشیخ الطوسی ج2 ص51.
(3) البحار ج52 ص 352 عن كتاب (الغیبة) للشیخ النعمانی.
(4) الاعراف 96
(5) الروایة وما بعدها رواها <كشف الغمة> عن الحافظ أبو نعیم/ كما نقلها العلامة المجلسی فی البحار ج51/ ص 78 و83.
(6) البحار ج52/ 316 عن كتاب الخصال للشیخ الصدوق.
(7) البحار/ ج52/ ص 280.
(8) البحار/ ج52/ ص336/ عن كتاب <الخرائج>.
(9) البحار/ ج52/ 352 عن كتاب الغیبة للنعمانی.
(10) البحار/ ج52/ 391 عن كتاب <العُدد>.
(11) البحار/ ج52/ 365 عن كتاب الغیبة للنعمانی.
(12) البحار/ ج52/ 328 عن كتاب إكمال الدین للصدوق.
(13) بحار الأنوار/ ج52/ ص381 ج191.
(14) البحار ج52 ص312 عن كتاب عیون أخبار الرضا علیه السلام.
(15) البحار/ ج53/ ص115/ ج21.
(16) البحار/ ج51/ ص74 عن كتاب الغیبة للشیخ الطوسی.
(17) المصدر السابق.
(18) البحار/ ج52/ 319 وغیرها.
(19) البحار/ ج52/ ص316 عن الخصال للشیخ الصدوق.
السید صدر الدین القبانجی