ربما تستدعي الذكرى الثامنة لعدوان تموز 2006 وقفةً تأملية خاصة في مقاربتها ومقاربة أبعادها الاستراتيجية على ضوء ما تشهده المنطقة من تطورات.
ككلّ فعلٍ عدواني إسرائيلي، فإنه يسبق ذلك قراءات استراتيجية ينتج عنها تخطيطات تبرر وتسوّغ هذا العدوان، ثمة معايير وأبحاث وقراءات تضعها مراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة على طاولات المسؤولين للاسترشاد بها وتحويلها الى واقعٍ إذا امكن.
والعدوان الصهيوني على لبنان لم يشذ عن هذه القاعدة، ولعلّ ما ذكره سماحة السيد حسن نصرالله في بعض خطبه من أنّ عدوان الـ2006 قد بدأ التخطيط له منذ لحظة الانسحاب الإسرائيلي تحت النار من جنوب لبنان عام 2000، يثبت ما أشرنا اليه مطلع الكلام، وإنّ سماحته كان من أوائل الذين قرأوا المخططات والرؤى السياسية والفكرية والتخطيط الاستراتيجي للعدو الصهيوني واستعدّ له، فإجبار العدو على الخروج من لبنان دون أية مفاوضات أو تسوية أو معاهدة أو سفارة سابقة ليس لها مثيلاتها في عالمنا العربي، بما تعنيه هذه السابقة من حرجٍ لأولئك العملاء الذين خدعوا الأمة على مدى عقود لأنها تظهر عجزهم وتآمرهم؟!
ولنعد للخلفيات الاستراتيجية لما جرى العام 2006، التي اعتبر أنّ إرهاصاتها الوجوبية قد بدأت على أثر تفاهم نيسان العام 1996 وما حققته المقاومة من إنجازٍ استطاع الرئيس حافظ الأسد بحنكته السياسية وصمود المقاومة من إنجازه.
لم يكن المحافظون الجدد يومذاك في الحكم، لكنهم كانوا يخططون استناداً الى ابتهاجهم بسقوط الاتحاد السوفياتي للسيطرة على العالم، بعد تحقّق الأحادية القطبية، وحيث نظر جورج بوش الأب لنظام عالمي جديد روّج له كل من فوكوياما وصمويل هانتنغتون بنهاية التاريخ، وصراع الحضارات، فكانت البوصلة الشرق الأوسط الكبير الذي يقع في قلب العالم، ولا بدّ من السيطرة على القلب كمقدمة للسيطرة على العالم.
كان أمام المحافظين الجدد سيناريوهان يتكاملان ويُعمل على تحقيق أحدهما أو كلاهما، ابتدعتهما مراكز الأبحاث والدراسات في الولايات المتحدة .
السيناريو الأول كان بقيادة البروفسور برنارد لويس (اليهودي من أصل بريطاني) وزبغنيو بريجنسكي (مستشار الأمن القومي أيام الرئيس كارتر، وأحد أخطر المنظرين الأميركيين)، اللذين كانا يعتبران أنّ العرب لا يستحقون أن يكونوا مستقلين، فهم بنظرهم لا يمكن تحضّرهم، وأنهم اذا ما تركوا لوحدهم فإنهم سيرتكبون المجازر نتيجة فكرهم الإسلامي المتخلف، وبالتالي لا بد من إعادة احتلالهم؟!
السيناريو الثاني كان بقيادة دوغلاس فايث صاحب نظرية (الفوضى الخلاقة او البناءة)، الذي يعتبر أنه لا داعي لدخول الجيوش الأميركية الى المنطقة، وتكبيد الولايات المتحدة خسائر مالية وبشرية، يمكن الاستغناء عنها من خلال خلق الفتن والظروف المؤاتية للتقاتل الداخلي على أسس عرقية ودينية وإثنية، فذلك بنظره من شأنه تفتيت المنطقة، ودون الحاجة لأموال وجيوش وخسائر مادية وبشرية.
في تلك الأثناء، كان بنيامين نتنياهو المؤيد لكلا النظريتين يقيم في الولايات المتحدة الأميركية، بين الأعوام 82 ولغاية مطلع التسعينات، عندما بدأت هذه الرؤى تأخذ حيزها الفكري والسياسي نحو التنفيذ، كان بعض المفكرين المؤيدين لتلك الطروحات أمثال مايكل غافني واليوت ابرامز وريتشارد بيرل وبول وولفوويتز وآخرين يعمل كمستشار لدى نتنياهو، لا سيما عندما تسلّم مهامه لأول مرة كرئيس للوزراء.
عندما تسلم بوش الابن الرئاسة في الولايات المتحدة وهو ينتمي الى المحافظين الجدد، استحضر فريق الرئيس السابق رونالد ريغان الذي كان بمثابة الأب الروحي له وهو من عتاة المحافظين، انتصرت نظرية ريتشارد لويس باحتلال المنطقة وتقسيمها الى دويلات، وإخضاعها لشرق أوسط كبير تسيطر عليه أميركيا، تفرد فيه مساحة خاصة لـ”إسرائيل” كإحدى القوى الرئيسية في المنطقة، فكان احتلال العراق إثر خدعة الحادي عشر من أيلول التي رتبتها المخابرات المركزية الأميركية لتبرير الحرب على المنطقة والسيطرة عليها، تحت عنوان محاربة الإرهاب ولا سيما الإرهاب الإسلامي.
دخل بوش العراق في سياقة استراتيجية المحافظين الجدد، وأرسل وزير خارجيته كولن باول الى سوريا حاملاً دفتر الشروط التي رفضها الرئيس الأسد، ودخل على الخط الرئيس الفرنسي جاك شيراك، أرسل بدوره مستشاره غور دي لامونتانيي الذي لاقى نفس فشل باول، كانت المقاومة العراقية في هذه الأثناء توقع الخسائر بالقوات الأميركية، قرر بوش والمحافظون الجدد الاندفاع الى الأمام، لا بدّ من ضرب محور المقاومة المعترض على مشروعهم، فكان القرار 1559 القاضي بخروج الجيش السوري من لبنان، ونزع سلاح المقاومة.
خرج الجيش السوري من لبنان، لكن المقاومة أرادت إرسال رسالتها بأننا لسنا مهزومين، وأننا نحن من يتحكم بقواعد الاشتباك، لا سيما بعد أن رفضت “إسرائيل” الإفراج عن الأسرى، فكان خطف الجنود وكانت حرب تموز 2006.
أدار أوباما المعركة وأشرف عليها عبر أجهزته الدبلوماسية والعسكرية ووزيرة خارجيته التي كشفت عن أهداف العدوان، إقامة الشرق الأوسط الجديد، أراد بوش كسر إرادة محور المقاومة لفرض الشرق الأوسط الجديد، فحال دون قرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، وأطال عمر الحرب أملاً بتحقيق نصر، لتطويق سوريا وإيران بعد تدمير حزب الله، لكن المقاومة انتصرت وأسقطت مشروعه.
شكّل انتصار المقاومة حالةً تأسيسيةً لهزيمة الولايات المتحدة في العراق وانسحابها، ولهزيمةٍ مماثلةٍ في غزة، ويمكن القول بكلّ فخرٍ إنّ انتصار المقاومة شكّل القاعدة الأساسية لتراجع مشروعها السياسي، وللانهيار المالي والاقتصادي، وأيضاً بسبب الفشل السياسي والعسكري المتراكم في عدد من مساحات الصراع، اضطرت للتراجع وإجراء تغييرات جوهرية في استراتيجيتها السياسية، الحرب بواسطة الأدوات توفيراً للمال والجنود.
أدركت الولايات المتحدة و”إسرائيل” أنّ هزيمة تموز قد قلبت المعادلات، لم تعد “إسرائيل” من يحدّد مكان وزمان ونتائج المعركة، وأنّ الحسم العسكري قد أصبح ضرباً من الخيال، وأنّ حاملة الطائرات المسماة “إسرائيل” قد أصبحت مهددة بالزوال، فلا بدّ إذاً من تعديلٍ في الإستراتيجية، تفتيت المنطقة والمحيط طالما هناك استحالة الفوز، تفسيخ المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وإثنية وقومية.
استراتيجية الفوضى البناءة هي المخرج، الآن انتقلت الاستراتيجية الأميركية الى الخيار الآخر الذي نظَر له دوغلاس فايث وزبغنيو بريجنسكي (الفوضى البناءة)، سواء عبر ما سمي “الربيع العربي” الذي نجح في بعض الساحات، لكنه فشل في سوريا رغم الأدوات الداخلية والخارجية.. هي استراتيجية تستهدف بشكلٍ رئيسي محور المقاومة، لعلّ ما يجري في غزة الآن يمكن وصفه بأنه استكمالٌ لحرب تموز 2006 التي ستفشل استراتيجية الفوضى الخلاقة، كما أسقطت حرب الـ2006 استراتيجية الشرق الأوسط الجديد والاحتلال العسكري المباشر.