معالم النظام الدینی فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام

لابد أن نتعرف على بقیة فقرات بناء ذلك النظام حیث تشیر الآیة الكریمة ((فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ))(2) وهذه الآیة قد نزلت فی عهد الرسول صلى الله علیه وآله وسلم وابتدأ العمل بها منذ ذلك الحین فی العصر النبوی ومفادها محكم إلى قیام الساعة وهی ترسم حلقة مهمة…

وللتعرف على ذلك بعد وضوح كون رأس هذا النظام یمثله الإمام المعصوم علیه السلام كخلیفة لله تعالى فی أرضه حیث قال تعالى: ((إِنِّی جاعِلٌ فِی الأَْرْضِ خَلِیفَةً)).(1)
1 ـ دور الفقهاء فی عصر الغیبة والظهور:
لابد أن نتعرف على بقیة فقرات بناء ذلك النظام حیث تشیر الآیة الكریمة ((فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ))(2) وهذه الآیة قد نزلت فی عهد الرسول صلى الله علیه وآله وسلم وابتدأ العمل بها منذ ذلك الحین فی العصر النبوی ومفادها محكم إلى قیام الساعة وهی ترسم حلقة مهمة من حلقات النظام الدینی الذی یفصح عن هیكله القرآن الكریم، وهذه الحلقة هی دور الفقهاء كواسطة بین المعصوم علیه السلام وقاعدة المؤمنین، وأن معرفة الدین یقوم الفقهاء بالدور النیابی عن المعصوم لنشر معارفه فی مختلف القومیات والبلدان، وأن التعرف على أحكام الدین وشرایعه لا یتم إلا بقیام فئات من الأمة تأخذ على عاتقها اكتساب العلوم الدینیة والتفقه والتفهم للكتاب العزیز والسنة المطهرة حتى بلوغ مرحلة الفقاهة لیقوموا بعد ذلك بإنذار الناس بالحلال والحرام والفرائض والسنن بعد أن یكون مستقاهم ومنبعهم هو الكتاب والسنة، وهذا الدور باق بنص إطلاق الآیة إلى قیام الساعة، أی شامل لعصر الظهور لدولة الإمام المهدی علیه السلام ولدولة الرجعة لأئمة أهل البیت علیهم السلام.
وكذلك تشیر الآیة الكریمة الأخرى ((إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدىً وَنُورٌ یَحْكُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَالرَّبَّانِیُّونَ وَالأَْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآیاتِی ثَمَناً قَلِیلاً وَمَنْ لَمْ یَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ))(3) إلى نیابة الفقهاء كأیدی، سواعد للمعصوم فی إقامة الحكم الإلهی، فإن الدور الأول للنبیین ثم للأوصیاء وهم الربانیون ثم للعلماء وهم الأحبار، وهذا الرسم للنظام الدینی حكم قائم إلهی.
ومن ذلك بزغ دور الفقهاء النیابی فی العهد الأول للإسلام فی عصر الرسول صلى الله علیه وآله وسلم وأمیر المؤمنین علیه السلام والحسنین علیهما السلام وكذلك استمر فی عهد السجاد والباقر والصادق علیهم السلام وبقیة أئمة أهل البیت علیهم السلام إلى عصر الغیبة الصغرى، فكان لفقهاء عصر الغیبة الصغرى دور كبیر فی القیام بمسؤولیات خطیرة فی إقامة معالم منهاج أهل البیت علیهم السلام والعبور من شدة الظروف التی یمرّ بها أتباع الأئمة علیهم السلام نظیر أحمد بن إسحاق الأشعری القمی، وسعد بن عبد الله الأشعری، ومحمد بن الحسن الصفار، ومحمد بن عبد الله الحمیری، وعلی بن بابویه والد الصدوق، ومحمد بن یعقوب الكلینی صاحب كتاب الكافی، وأبی محمد هارون بن موسى التلعكبری، وأبی محمد همام وغیرهم العشرات من زعماء فقهاء المذهب، وكان دورهم جنباً إلى جنب النواب الأربعة السفراء إلا أن لكلٍ دائرته وحدود مسؤولیته.
2 ـ التكافل بین دور السفراء ودور الفقهاء ومحدودیة صلاحیة السفراء:
فإن دور الفقهاء النیابی كما مرّ قد قرّر وفعّل منذ نزول الآیتین فی مجال الإفتاء وبیان أحكام الدین المستمدة من كتاب الله تعالى وأحادیث المعصومین علیهم السلام وكذا فی مجال القضاء وإنفاذ الأحكام، بینما دور النواب الأربعة السفراء كان فی مجال إقامة جسر الإرتباط بالإمام المهدی علیه السلام وإیصال أوامره علیه السلام إلى عموم المؤمنین ضمن دائرة وسقف محدود من الأوامر والخطوات، وكذلك إیصال أجوبة الأسئلة التی یوجهها عموم الناس، ومن ثم یلاحظ أن أجوبة الإمام علیه السلام فی كثیر منها یرجع السائلین إلى التراث الروائی المروی عن آبائه المعصومین علیهم السلام ویعلمهم كیفیة استنباط واستخراج الحكم الشرعی من تلك الأحادیث، وهذا منه¨ تبیان لما یجب أن یقوم به الفقهاء فی دورهم النیابی فی استخراج الأحكام الشرعیة من أدلتها الشرعیة.
ولذلك نلاحظ أن النائب والسفیر الثالث الحسین بن روح النوبختی عندما ألّف كتاباً فی الفقه والحدیث جمعه مما رواه عن الرواة عن الأئمة السابقین علیهم السلام عرض ذلك الكتاب ـ كما روى ذلك الطوسی فی كتاب الغیبة ـ على فقهاء قم ومحدثیها، فصححوا روایاته إلا روایة واحدة فی مقدار زكاة الفطرة فإنهم خطّأوه فی روایته، وهذا الموقف مما یدلل على محدودیة صلاحیات النائب والسفیر، فإنه فی استخراج الأحكام شأنه شأن بقیة الفقهاء فی كیفیة التوصل إلیها عبر الأدلة الشرعیة المرسومة إلا ما أطلعه الإمام علیه السلام من بیانات خاصة.
3 ـ تلقی المعصوم وتلقی غیر المعصوم:
إن هناك فارقاً بین قدرة المعصوم فی ما یتلقاه عن الغیب وبین غیر المعصوم فإن الأنبیاء والأوصیاء رؤیاهم حجة شرعیة وتعدّ رؤیاهم وحیاً إلهیاً أو علماً لدنیاً كما فی رؤیا النبی إبراهیم علیه السلام أو رؤیا سید الأنبیاء صلى الله علیه وآله وسلم أو رؤیا سید الشهداء لجده المصطفى وأمره له بالنهضة ضد بنی أمیة، وأما تلقی واتصال غیر المعصوم بالغیب فلا یعوّل علیه ولا یكون مداراً للحجیة ولا میزاناً شرعیاً وإن رأى غیر المعصوم فی الرؤیة الإمام المعصوم علیه السلام أو النبی صلى الله علیه وآله وسلم، وذلك لأن رؤیا غیر المعصوم لیست وحیاً ولا علماً لدنیاً، ومن ثم لا یستغنی ـ غیر المعصوم مهما كانت درجته فی التقوى والیقین والإیمان ـ عن الكتاب والسنة المطهرة لأنه لا یتمكن من الإرتباط بالغیب كما تمكن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم أو تمكن الأئمة من أهل البیت علیهم السلام.
بل إن تلقی غیر المعصوم فی الیقظة من الامام المعصوم علیه السلام یكون فی معرض الخطأ فكیف حال ما یتلقاه غیر المعصوم فی المنام وإن كان هی رؤیا رأى فیها المعصوم علیه السلام، كما روى صاحب بصائر الدرجات بسنده عن أبی جعفر الباقر علیه السلام قال قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: من أهل بیتی اثنا عشر محدثاً (أی إماماً ذا علم لدنی)… فقال أبو جعفر علیه السلام: هی التی هلك فیها أبو الخطاب لم یدر تأویل المحدّث والنبی) .(4) وفی هذه الروایة یبین الباقر علیه السلام أن أبا الخطاب وقد كان من خواص الباقر والصادق علیهما السلام وممن اطلع على كثیر من أسرار علومهما بل هناك ما یشیر إلى نیابته الخاصة عنهما، إلا أنه رغم كل ذلك انحرف وطرد من قبلهما علیهما السلام لأنه لم یدر بفهم صحیح تأویل بعض معارف مدرسة أهل البیت علیهم السلام مما كان قد سمعها فی الیقظة من الإمامین الصادقین علیهما السلام، فإذا كان حال غیر المعصوم فی ما یتوصل إلیه ویتلقاه فی الیقظة هو فی معرض الإنحراف والهلاك إذا لم یوفق لرعایة الموازین فكیف ترى حال ما یتلقاه غیر المعصوم فی المنام والرؤیا. ولو كان غیر المعصوم فی ما یتلقاه عن الغیب مأموناً عن الخطأ لاستغنى الكثیر عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم ورسالته والإمام المعصوم علیه السلام وهدایته ـ والعیاذ بالله تعالى ـ .
4 ـ هیمنة البدیهة العقلیة ومحكمات الكتاب والسنة:
إن من أصول قواعد المعرفة فی مدرسة القرآن وأهل البیت علیهم السلام مدرسة الثقلین هی مداریة المعرفة والإیمان على أحكام العقل البدیهیة الفطریة لا النظریة المبهمة، وعلى بدیهیات أحكام الكتاب والسنة المطهرة، قال تعالى: ((كَذلِكَ یُبَیِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْیاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ))(5) وقال ((أَوَلَمْ یَتَفَكَّرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالأَْرْضَ وَما بَیْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى))(6) وقال ((كَذلِكَ یُحْیِ اللَّهُ الْمَوْتى وَیُرِیكُمْ آیاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))(7) وقال ((كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآْیاتِ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ)).(8)
وقال تعالى ((أَنْزَلَ عَلَیْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ وَما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ))(9) فتبین الآیة أن اللازم إتباع المحكم وترك متابعة المتشابه أی اتباع ما وضح من معالم الدین والتمسك به والحذر من ما یستراب فی معناه ویتردد فیه من الأمور المنسوبة إلى الدین، فالزائغ عن الطریق هو الذی یتشبث بما هو مرتاب وفیه التردد ویترك ما هو بیّن ظاهر من معالم الدین، وهذا میزان به یقام عمود المعرفة بالدین والهدایة.
5 ـ صحة المعرفة أشد الإمتحانات:
إن الافتتان فی البصیرة والمعرفة هی أشد الامتحانات الإلهیة ولقد جرت السنة الإلهیة على وقوع الفتنة فی المعرفة والإمتحان والابتلاء فی نفوذ البصائر وسباق شهب الأنوار فی الفطنة كل ذلك حكمة منه تعالى لأجل تعالی المعرفة وتكاملها وعدم جمودها عند القشور والسطوح دون الغور فی أعماق الحقائق والأعیان. ولقد قصّ لنا القرآن أمثلة فی ذلك فی وقوع هذا النمط من الإبتلاء فی الأمم السابقة كما فی قوله تعالى ((ما كانَ اللَّهُ لِیَذَرَ الْمُؤْمِنِینَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَیْهِ حَتَّى یَمِیزَ الْخَبِیثَ مِنَ الطَّیِّبِ)).(10)
ففی أمة موسى علیه السلام فتنة السامری كما فی قوله تعالى ((فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِیَ))(11) ومنشأ الصوت فی العجل هو ما أشارت إلیه الآیة ((قالَ فَما خَطْبُكَ یا سامِرِیُّ * قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ یَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِی نَفْسِی))(12) أی أن السامری أخذ قبضة من تراب أثر الفرس الذی من عالم ملكوت النور الذی كان جبرئیل علیه السلام یعتلیه عندما سار بموسى وببنی إسرائیل البحر لینجیهم من فرعون، حیث كان لذلك التراب خاصیة بعث الحیاة فی الجماد، فافتتن بنو اسرائیل بذلك الأثر عند جلیه ووظفه السامری فی سبیل الغوایة.
وكذلك بنی إسرائیل وأمة عیسى علیه السلام حیث افتتنوا بقتل عیسى علیه السلام كما فی قوله تعالى ((وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِینَ اخْتَلَفُوا فِیهِ لَفِی شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ یَقِیناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَیْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِیزاً حَكِیماً))(13) فإنه ألقى الله تعالى شبه عیسى على رجل آخر فأبصر بنو اسرائیل فی حسهم أن الذی قتل وصلب هو عیسى واعتمدوا على حسهم البصری وهو أحد مصادر الیقین والمعرفة ولكنهم تركوا فی مقابل ذلك ما هو أشد یقینا وبرهاناً وهو قول النبی عیسى علیه السلام لهم قبل ذلك أنه لن یقتل ولن یموت حتى ینتشر العدل والدین الإلهی فی أرجاء الأرض كافة، وغیرها من الامتحانات الصعبة الشائكة التی یستعرضها القرآن الكریم فی بصائر وفطنة الأمم السابقة كل ذلك لإبلاغ المؤمنین الحذر والإنذار على الاستعداد والیقظة لخوض الفتن فی المعرفة الدینیة ولزوم التثبت والتحری واتباع لما هو أبلغ فی الحجیة وأبین فی البرهان والدلالة الأوضح وأن فی الأدلة والدلائل مراتب ورتب ودرجات یجب ویلزم مراعاة الأعلى منها فالأعلى لا الإتكاء على الأدون منها فالأدون والأبین منها فالأبین لا المتشابه منها فالمتشابه والأشد إحكاماً منها فالأحكم لا المریب فالمریب.

الهوامش:
(1) البقرة/ 30.
(2) البراءة/ 122.
(3) المائدة/ 44.
(4) بحار الأنوار 26/ 68.
(5) البقرة/ 219.
(6) الروم/ 8.
(7) البقرة/ 73.
(8) الروم/ 28.
(9) آل عمران/ 7.
(10) آل عمران/ 79.
(11) طه/ 88.
(12) طه/ 95 ـ 96.
(13) النساء: 158.
الشیخ محمد السند

شاهد أيضاً

الإنتظار حالة ترقب لنبأ عظيم

مركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي عليه السلام قال سماحة السيد على السبزواري في حديثه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.