السید محمد الشوکی
بسم الله الرحمن الرحیم
والحمد لله رب العالمین والصلاۀ والسلام على الحبیب المصطفى محمد وعلى أهل بیته الطیبین الطاهرین.
تحتل قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام) مکانا رفیعا فی الدین الإسلامی الحنیف, وتمثل رکناً أساسیاً فی التخطیط الإلهی للبشریۀ. وقد وردت فیها الکثیر من النصوص الإسلامیۀ الشریفۀ, سواء فی القران الکریم, أو فی السنۀ المطهرۀ. والروایات فی الإمام المهدی (علیه السلام) متواترۀ, صرح بتواترها الکثیر من العلماء سنۀ وشیعۀ. وقد وعد الله تبارک وتعالى العالم بیوم یتحقق فیه العدل کله, فی ظل دولۀ کریمۀ, وعلى یدی ولی من أولیاء الله الصالحین, من ذریۀ خاتم المرسلین, هو الإمام المهدی صلوات الله علیه وعلى آبائه الطاهرین.
ولم تکن قضیۀ المصلح الکبیر, والمنجی العظیم, الذی یظهر فیملأ الأرض قسطاً وعدلًا, ویقیم المجتمع الصالح الذی ینعم بالسعادۀ التامۀ, وتعدم فیه کل دواعی البؤس والشقاء, لم تکن غائبۀ عن وعی الناس یوماً من الأیام. کما تحدثنا بذلک النصوص التاریخیۀ المختلفۀ عند جمیع الأمم والشعوب. ولکنها فی عصرنا الحاضر أمست حاضرۀ بقوۀ أکثر وأکبر فی وعی الناس, وفی واقعهم الیومی. وذلک للتحولات العالمیۀ الکبیرۀ التی حدثت فی العقود الأخیرۀ, والتی تبشر بقرب تحقق الأمل العالمی المنتظر.العالم تطور کثیراً على مستوى الوعی والواقع, وقطع أشواطا کبیرۀ فی طریق التوحد والتقارب, وبات مهیأ أکثر مما سبق لتقبل فکرۀ الدولۀ العالمیۀ الواحدۀ. وبالإضافۀ التی تهیئ الأرضیۀ اللازمۀ لتحقق هذه الدولۀ تزاید شعور الناس بضرورۀ قیامها, واشتدت حاجتهم إلى قرب تحققها, لما یعیشه العالم الآن من ظروف عصیبۀ, نتجت من ابتعاد الناس عن قیم السماء, وعن تسلط القوى الکبرى على الشعوب الضعیفۀ, وتحکمها بمصیرها.
وقد ساهمت العولمۀ بما أفرزته من تحولات کبرى فی الصعید العالمی, على مستوى الاقتصاد والسیاسیۀ وثقافۀ المعلومات بصیاغۀ واقع عالمی جدید یختلف عما سبق تماماً. حیث أضحى العالم الآن قریۀ کونیۀ واحدۀ, زالت من بینها الحدود والحواجز الجغرافیۀ, وحتى الثقافیۀ والقومیۀ. وصار العالم شبیهاً بالعائلۀ الواحدۀ, وبرز الانتماء العالمی یظهر على السطح بعد الانتماء القومی والمحلی. ولأجل أن القضیۀ المهدویۀ, والدولۀ العالمیۀ تتأثر کثیراً بالواقع العالمی, والظروف الموضوعیۀ التی تحیط بها, ارتأینا أن نقوم بدراسۀ هذه الظاهرۀ الکبیرۀ ( العولمۀ ), ومدى تأثیرها على قضیۀ الإمام المهدی(علیه السلام).
وحاولنا فی هذا البحث أن نتناول العولمۀ من حیث المفهوم الذی تمتلکۀ, والذی یؤثر تحدیده کثیراً على طبیعۀ الدراسۀ والنتائج المستخلصۀ منها. وأیضاً حاولنا أن نوضح البیئۀ الحضاریۀ التی نشأت فیها ظاهرۀ العولمۀ, والظروف العالمیۀ التی انطلقت فی ظلّها. اعتبار أن کل مفهوم وحرکۀ ینطلق فی الواقع یحمل سمات الواقع الذی یتحرک فیه. ثم قمنا بإجراء مقابلۀ بین العولمۀ کفکرۀ غربیۀ, والعالمیۀ کفکرۀ إسلامیۀ, وحاولنا أن نحدد أبرز نقاط الاختلاف بینهما. وأخیرا سلطنا الضوء على الآثار التی یمکن أن یترکها تیار العولمۀ الجارف على العالمیۀ المهدویۀ, أو الدولۀ العالمیۀ للإمام المهدی(علیه السلام). ومن الله نستمد التوفیق.
البیئۀ والمفهوم
فی سنۀ 1985م وعندما طرح الرئیس السوفیتی السابق غورباتشوف مشروعه الإصلاحی المسمى بـ(البروستریکا) لإنقاذ الاتحاد السوفیتی من الانهیار بدأت تظهر ملامح جدیدۀ للنظام العالمی. فقد اتجهت هذه الإصلاحات إلى مزید من التقارب بین المعسکر الشرقی والمعسکر الغربی. وأعطت شیئا من الحرارۀ للعلاقات الرأسمالیۀ الاشتراکیۀ, التی جمدتها الحرب الباردۀ. وهذا التقارب ما کان ناتجاً من إدراک رحیم للواقع العالمی, أو اشتراک فی المصالح العالمیۀ بین المعسکرین, بقدر ما یحکی ضعف الجانب السوفیتی, ووصوله إلى حافۀ الهاویۀ.
فالنظام المارکسی الذی کان یحکم الاتحاد السوفیتی, وبقاع أخرى من العالم, أدى من خلال نقاط الضعف التی یحملها فی أحنائه, وهی نقاط جوهریۀ أشّر علیها المفکرون والباحثون فی هذا المجال, سواء کانت فی النظرۀ الکونیۀ لهذا المذهب,أو فی النظام الاقتصادی, أو السیاسی, أدى إلى حالۀ من الفقر والحرمان والضنک الذی لا یطاق, بحیث عاشت المجتمعات الاشتراکیۀ حالۀ مریرۀ من الاختناق انتهت بعد ذلک إلى الانفجار الذی بدّد أوصال الاتحاد السوفیتی.
فی هذا الوضع المتداعی الموشک على الانهیار أعلن غورباتشوف خطته الإصلاحیۀ التی کانت جرعۀ الموت لهذا الجسم المریض, أو کانت آخر مسمار وضع فی نعش الاتحاد السوفیتی. إذ أن النظام المارکسی کان یعانی من مرض عضال مزمن, لا تنفع معه المهدئات الوقتیۀ, والعلاجات المتأخرۀ. ولم یقض غورباتشوف على الاتحاد السوفیتی, وإنما کل ما عمله أنّه رفع المشعل لیخبرهم بنهایۀ النفق المظلم الذی ساروا فیه. والذی قال فیه أحد قادۀ الحزب الشیوعی الکبار: »إن لنا فضلا على العالم لأننا علمناهم الطریق الذی ینبغی أن لا یسلکوه«.
فی هذه الأعوام ومن خلال التنسیق والتعاون الذی ظهر بین الاتحاد السوفیتی وبین أمریکا قائدۀ المعسکر الغربی تجاه کثیر من القضایا العالمیۀ المتنوعۀ, والذی قلنا أنه یعکس ضعف الاتحاد السوفیتی, ولیس إدراکه لضرورۀ التعاون والتنسیق بین المعسکرین, بدأت تظهر ملامح نظام عالمی جدید یوشک على الولادۀ قریباً, ویحل محل النظام العالمی القدیم. فقد ظلّ العالم یرزح تحت النظام الثنائی القطبیۀ سنین, بل عقود طویلۀ وتحت ظل الحرب الباردۀ بین القطبین: الشرقی بقیادۀ الاتحاد السوفیتی, والغربی بقیادۀ أمریکا. هذان القطبان کانا یتبادلان التأثیر فی المسرح العالمی, وکانا یشکلان طرفی المعادلۀ الدولیۀ. وکل تحول فی العالم کان علیه أن یمر من خلال هاتین القناتین. ولکن فی أواخر الثمانینات من القرن الماضی تسارعت الأحداث بشکل کبیر لتعلن بدایۀ النهایۀ لذلک النظام القدیم. وتُوّج ذلک بسقوط الاتحاد السوفیتی, وبعد نهایۀ حرب الخلیج الثانیۀ.
وبعد انهیار الاتحاد السوفیتی, وبعد أن نجحت الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ فی قیادۀ التحالف الدولی لتحریر الکویت, ودحر الجیش العراقی, وبعد انتصارها وتفوقها العسکری الواضح, نهض الرئیس الأمریکی آنذاک( جورج بوش) لیعلن للعالم ولادۀ نظام عالمی جدید, یتمحور حول قطب واحد هو الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ, التی باتت القوۀ العظمى الوحیدۀ فی العالم, التی لا تدانیها قوۀ أخرى.
فی هذه الأجواء, وتزامنا مع ولادۀ النظام العالمی الجدید الأحادی القطبیۀ انطلقت فی الغرب فکرۀ العولمۀ کمفردۀ من مفردات هذا النظام, أو آلیۀ من آلیاته. وهی وإن لم تکن ولیدۀ العقد الأخیر من القرن العشرین, إذ أنها نتیجۀ لسیرورۀ تاریخیۀ طویلۀ, ولکنها انطلقت فی أواخر القرن المنصرم بقوۀ وحرارۀ فی الواقع العالمی. وأخذت لها حیزاً کبیراً من الاهتمام العالمی. فروّج لها السیاسیون الغربیون, والشرکات العالمیۀ الکبرى, وعکف علیها المختصون, لدراستها, ودراسۀ أبعادها وإفرازاتها وماهیتها وجذورها وغیر ذلک من الأمور الأخرى التی تتعلق بها. وانقسم الباحثون فی الموقف منها إلى فرق عدیدۀ , فما بین مؤید لها, وبین رافض, وبین متأمل, وبین منتظر للمستقبل.
وتعود لفظۀ عولمۀ فی أصلها إلى الکلمۀ الإنجلیزیۀ (Global), والتی تعنی عالمی أو دولی أو کروی. أما المصطلح الإنجلیزی: (Globalization). فمعناه الکوکبۀ أو الکونیۀ أو العولمۀ. ولکن کانت الغلبۀ للعولمۀ على حساب الکوکبۀ والکونیۀ لشیوع استخدامها[i].
ولم یصل العلماء والباحثون فی هذا الجانب إلى تعریف محدد للعولمۀ کما یصرح بذلک الکثیر من المفکرین, نظراً لتعدد أبعادها وتمظهراتها, ونظراً لتحولاتها الکبیرۀ السریعۀ التی تأتی کل یوم بجدید. إلا أن هناک عناصر عامۀ یمکن لنا من خلال ملاحظتها أن نخرج بتصور إجمالی حول العولمۀ. وهذه العناصر هی: العنصر الاقتصادی, والعنصر الثقافی, والعنصر السیاسی.
أما العامل الاقتصادی فیبدوا أن العولمۀ عندما انطلقت کانت تتابع أهدافا اقتصادیۀ. فنتیجۀ لزیادۀ التعامل التجاری بین البلدان وعلى مستویات متعددۀ, ولأجل نشوء الشرکات الکبرى المتعدیۀ الجنسیات فی ظل النظام الرأسمالی, التی لها أهداف ومصالح متعددۀ فی العالم, والتی تبحث عن مصادر الطاقۀ والمواد الخام کما تبحث عن الأسواق العالمیۀ, کان لابد هناک من آلیۀ محددۀ تمکن لها أن تنقل رؤوس أموالها وتبدل أسواقها بحریۀ تامۀ. فنشأت هناک شبکۀ معقدۀ من العلاقات التجاریۀ والاقتصادیۀ فی العالم ربطت العالم بعضه ببعض. ونشأت هناک منظمات ترعى هذه الشبکات والعلاقات العالمیۀ متمثلۀ بصندوق النقد الدولی ومنظمۀ التجارۀ العالمیۀ وغیرها. بالإضافۀ إلى التحالفات الاقتصادیۀ فی العالم. فأصبح العالم مترابط إلى درجۀ کبیرۀ من الناحیۀ الاقتصادیۀ. بحیث أن کل أزمۀ تقع فی جانب من العالم تتداعى لها أماکن أخرى فیه. خصوصاً إذا کانت فی الدول العظمى التی تملک شرکات عظمى تتحکم باقتصاد العالم. وهذا یدل على أن الاقتصاد لم یعد الآن اقتصاداً قومیاً, وإنما اقتصاداً عالمیاً.
وتهدف العولمۀ الاقتصادیۀ إلى مزید من حرکۀ رؤوس الأموال, ورفع الحواجز والقیود المختلفۀ أمامها. بحیث تکون متعدیۀ الجنسیات أو معدومۀ الجنسیات لا تحدّها حدود قومیۀ أو قطریۀ, أو غیرها. وبالتالی فالعولمۀ تهدف إلى تقلیل سیادۀ الدولۀ وتدخلها فی الجانب الاقتصادی. فالعولمۀ الاقتصادیۀ هی:
»عملیۀ سیادۀ نظام اقتصادی واحد, تنضوی تحته مختلف بلدان العالم فی منظومۀ متشابکۀ من العلاقات الاقتصادیۀ تقوم على أساس تبادل الخامات والسلع والمنتجات والأسواق ورؤوس الأموال«[ii].
وعلى المستوى الثقافی تحاول العولمۀ تعمیم نموذج حضاری معین على العالم, وإبراز ثقافۀ عالمیۀ تسود العالم کله هی الثقافۀ الغربیۀ, والأمریکیۀ منها بالخصوص. معتمدۀ على التقنیات المتطورۀ للاتصال من فضائیات وإنترنت ووسائط ارتباط أخرى. وهی بهذا تحاول استلاب الهویۀ الثقافیۀ للشعوب, وإبدالها بهویۀ ثقافیۀ أخرى دخیلۀ علیها. وتمارس الشرکات الإعلامیۀ الکبرى هذه المهمۀ الخطیرۀ بما تمتلکه من إمکانیات هائلۀ. یقول بعض الروائیین الأمریکیین: »إن شرکۀ دزنی سوف تفترس العالم کما افترست أمریکا من قبل بدأ بالشباب«[iii]. ویرى کثیر من الباحثین إن ذلک یمثل عدواناً بشعاً على هویۀ الشعوب. فیرى الأستاذ عبد الإله بلقزیز ثقافۀ العولمۀ أنها: »فعل اغتصابی ثقافی عدوانی على سائر الثقافات. إنها ردیف الاختراق الذی یجری بالعنف – المسلح بالتقانۀ- فیهدد سیادۀ الثقافۀ فی سائر المجتمعات التی تبلغها عملیۀ العولمۀ«[iv].
وعلى المستوى السیاسی یرى الباحثون أن العولمۀ السیاسیۀ تهدف إلى إلغاء الحدود القومیۀ والجغرافیۀ, وتهدید سیادۀ الدولۀ وزعزعۀ أرکانها. فالدولۀ فی عصر العولمۀ لا تملک الکثیر من الخیارات أمام العالم وعوامل التأثیر فیه. لا من ناحیۀ اقتصادیۀ ولا ثقافیۀ ولا حتى سیاسیۀ. العولمۀ السیاسیۀ تعنی:
»نقلا لسلطۀ الدولۀ واختصاصاتها إلى مؤسسات عالمیۀ تتولى تسییر العالم وتوجیهه, وهی بذلک تحل محل الدولۀ وتهیمن علیها«[v]. وإن کان البعض یرى بأن الحدیث عن نهایۀ الدولۀ القومیۀ وانتهاء السیادۀ سابق لأوانه[vi].
وعلى کل حال فأکثر ما یمیز عالم العولمۀ الذی هو قید التشکل أنه عالم بلا حدود, یهدف إلى توحید العالم, وتجاوز الحدود الجغرافیۀ والاقتصادیۀ والثقافیۀ وکذلک السیاسیۀ, وفی مرحلۀ لاحقۀ إلغاؤها [vii].
وهناک خلاف بین الباحثین بالنسبۀ إلى ماهیۀ العولمۀ فهل هی نظام عالمی, أم مجرد مجال, أم حالۀ حضاریۀ معینۀ. فیرى المعلق الأمریکی(توماس فریدمان) أن العولمۀ هی نظام عالمی جدید یعید تشکیل الدول والمجتمعات والأفراد والقناعات على جمیع المستویات. ویرى أن أحد عناصر العولمۀ السرعۀ التی تقاس باللحظۀ بدلاً من الساعۀ[viii].
أما الکاتب البریطانی (انطونی غیدنز) فیرى أن العولمۀ هی حالۀ حضاریۀ جدیدۀ, هی حالۀ ما بعد الحداثۀ القائمۀ فعلاً فی المجتمعات ما بعد الصناعیۀ. ویرى أنها تخلق عالماً لا یخضع لسیطرۀ کائن من کان ولا یعرف من یوجه مساراته, ویتحکم فی اتجاهاته, وهو مفتوح على کل الاحتمالات, بما فی فیها أکثر الاحتمالات خطورۀ فی التاریخ [ix].
أما الباحث البریطانی (رولاند روبرتسون) فیرى أنها مجالاً عالمیاً جدیداً, وهذا المجال الجدید الذی تحدثه العولمۀ وتتحرک فیه هو مجال متداخل ینقل البشریۀ إلى طور العالم المنکمش, والمجتمع الواحد, وربما الحکومۀ الواحدۀ, التی تنضوی تحتها البشریۀ فی أنحاء العالم [x].
وخلاصۀ الأمر أن العولمۀ انطلقت إلى العالم من البیئۀ الغربیۀ, وأمریکا بالذات, ونشأت فی أحضانها, کآلیۀ مهمۀ لتوطید دعائم النظام العالمی الجدید, وتکریس السیطرۀ الغربیۀ على العالم فی مجالاته السیاسیۀ والاقتصادیۀ والثقافیۀ, بما تملکه من قدرات فائقۀ, وإمکانات عظیمۀ, لا تتوفر فی غیرها بنفس المستوى. وهی نظام عالمی, أو حالۀ حضاریۀ تهدف إلى رفع الحدود والحواجز أمام الشرکات الکبرى متعدیۀ الجنسیات, وأمام السیل الدافق للمعلومات, وتقوم بتقلیص سیادۀ الدولۀ, وتحجیم دورها, وهی تحاول فرض نظام سیاسی وثقافی واقتصادی موحد على العالم, هو النظام اللیبرالی الرأسمالی الغربی.
أما بالنسبۀ إلى العالمیۀ المهدویۀ فهی تعنی قیام دولۀ عالمیۀ مرکزیۀ, واحدۀ, یحکمها دستور واحد, یخضع لها العالم أجمع. وهی نظریۀ إسلامیۀ أصیلۀ, انطلقت قبل أن تخطر العولمۀ على ذهن أحد, حیث أنها أحد رکائز النظریۀ السیاسیۀ الإسلامیۀ. فالإسلام انطلق کدین إلهی, ونظام سیاسی واقتصادی واجتماعی وثقافی ربانی, أراد له الله تبارک وتعالى أن یحکم العالم کله.
یقول تعالى:
– ?أَرْسَلْنَاکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً?[xi].
– ?قُلْ یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعًا?.[xii]
– ?وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا کَافَّۀً لِّلنَّاسِ?[xiii].
– ?وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا رَحْمَۀً لِّلْعَالَمِینَ?[xiv].
وغیر ذلک من الآیات التی أشارت إلى عالمیۀ الرسالۀ الإسلامیۀ. هذا بالإضافۀ إلى الآیات والروایات التی أشارت إلى عالمیۀ دولۀ الإمام المهدی (علیه السلام) بالذات قبل قرون متمادیۀ. فمن الآیات التی فسرت بالدولۀ العالمیۀ للإمام المهدی (علیه السلام) قوله تعالى: ?وَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ?[xv]. وقد وردت هذه الآیۀ الکریمۀ بتمامها فی سورۀ الصف, ووردت فی سورۀ الفتح بتفاوت یسیر.
هذا الوعد الإلهی بإظهار الإسلام على الدین کله, وانتصاره على کل الکافرین فی الأرض, لم یتحقق لا فی زمان رسول الله (صلی الله علیه و اله وسلم) ولا فی غیره. إذ ظلّت کثیر من الأدیان قائمۀ إلى یومنا هذا, ولم یسیطر الإسلام على کل الأرض .
وأما ما قد یقال فی تفسیر الآیۀ الکریمۀ: من أن المراد بظهور الإسلام ظهوره بالحجۀ والمنطق, وأن الآیۀ الکریمۀ تتحدث عن خصوصیۀ فی ذات الإسلام, وهی کونه ظاهراً بحجته ومنطقه, فغیر تام. لأن ذلک خلاف ظاهر الآیۀ الکریمۀ إذ أنها ظاهرۀ بالغلبۀ المطلقۀ. بالإضافۀ إلى أن القرآن الکریم استخدم هذه الکلمۀ (الظهور) فی الغلبۀ المادیۀ, والاقتدار الظاهری کثیراً[xvi]. مع أنه لو کان المراد من الظهور الظهور الفکری والعقائدی, لما کان هناک حاجۀ للوعد به فی الآیۀ الکریمۀ, لأنه حاصل منذ بدایۀ الدعوۀ الإسلامیۀ المبارکۀ. فمذ قام الإسلام قام قوی المنطق, ظاهر الحجۀ. والوعد کما نعرف یتضمن أمراً مستقبلیاً, لیس حاصلاً[xvii]. فالآیۀ ظاهرۀ فی الغلبۀ المطلقۀ وهذا لا یکون إلا فی ظل دولۀ عالمیۀ عادلۀ.
وعندما نرجع إلى التفسیر الروائی لهذه الآیۀ الکریمۀ نرى أنها تتحدث عن ذلک بوضوح. ففی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام: {والله ما یجیء تأویلها حتى یخرج القائم المهدی(علیه السلام), فإذا خرج لم یبق مشرک إلا کره خروجه, ولا یبقى کافر إلا قتل. حتى ولو کان کافر فی بطن صخرۀ لقالت: یا مؤمن فی بطنی کافر, فاکسرنی واقتله}[xviii].
وهکذا قوله تعالى : ?عَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُم فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضَى لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا یَعْبُدُونَنِی لَا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئًا وَمَن کَفَرَ بَعْدَ ذَلِکَ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?[xix]. قال الطبرسی (ره): »والمروی عن أهل البیت E أنها فی المهدی من آل محمد«[xx].
وروى العیاشی بإسناده عن علی بن الحسین علیه السلام أنه قرأ هذه الآیۀ الکریمۀ ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ … ? فقال: {هم والله شیعتنا أهل البیت یفعل الله ذلک بهم على ید رجل منا وهو مهدی هذه الأمۀ…}[xxi]. وکما یقول السید الطباطبائی فی تفسیره بعد مناقشته للأقوال فی الآیۀ الکریمۀ: »فالحق أن الآیۀ إن أعطیت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذی سینعقد بظهور الإمام المهدی «[xxii].
وأیضاً قوله تعالى: ?وَلَقَدْ کَتَبْنَا فِی الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ الصَّالِحُونَ?[xxiii]. وقد وردت الروایات الشریفۀ لتفسر هذه الآیۀ الکریمۀ بدولۀ الإمام المهدی(علیه السلام). قال أبو جعفر(علیه السلام): {هم آل محمد صلوات الله علیهم}[xxiv]. وعنه (علیه السلام) أیضاً: {هم أصحاب المهدی آخر الزمان}[xxv].
وأما الروایات التی تحدثت عن عالمیۀ دولۀ الإمام المهدی (علیه السلام)فکثیرۀ جداً. مثل قول الإمام الباقر(علیه السلام):{القائم منا یبلغ سلطانه المشرق والمغرب , ویظهر الله عزَّ وجلَّ به دینه على الدین کله ولو کره المشرکون}[xxvi]. وروایات أخرى کثیرۀ لا نطیل بذکرها. ویمکن استفادۀ ذلک من نفس الحدیث المتواتر: {یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً}. حیث الظاهر منها أن حکمه سیطال الأرض کلها لیقتلع منها جذور الفساد, ویغرس فیها بذور العدل.
نقاط الاختلاف
کما قلنا أن العولمۀ هی فکرۀ غربیۀ انطلقت لتکرس السیطرۀ الغربیۀ على العالم, ولتمهد السبل أمام الشرکات الکبرى متعددۀ الجنسیات, وهی تتابع أهدافا معینۀ, وتؤدی إلى نتائج مرسومۀ. وبذلک فهی تختلف عن العالمیۀ الإسلامیۀ التی سینجزها الإمام المهدی (علیه السلام) فی أمور کثیرۀ أستطیع أن ألخصها على شکل نقاط:
1- على مستوى البیئۀ الحضاریۀ, قلنا بأن العولمۀ هی فکرۀ غربیۀ, نشأت فی أحضان الغرب, وانطلقت منها. بینما العالمیۀ هی نظریۀ إسلامیۀ أصیلۀ. إنها إرادۀ الله تبارک وتعالى لأهل الأرض.
2- وعلى مستوى المفهوم تفترق العولمۀ عن العالمیۀ فی أنها مجرد مجال عالمی, أو نظام عالمی یهدف إلى رفع الحدود والقیود بین الدول وأمام الرسامیل, وسیل المعلومات. ویسعى إلى المزید من الانکماش فی المساحۀ العالمیۀ. وبالتالی هی لیست دولۀ, أو نظاماً سیاسیاً معیناً, بل هی تسعى لتقلیل دور الدولۀ وسیادتها وإلغاءها لاحقاً[xxvii]. بینما العالمیۀ تعنی قیام دولۀ مرکزیۀ واحدۀ تحکم العالم تحت دستور واحد وبصیغۀ سیاسیۀ معینۀ, هی الصیغۀ الإسلامیۀ فی الحکم.
3- وتختلف العولمۀ عن العالمیۀ على مستوى الأهداف:
أ- فالعولمۀ تسعى لتطبیق النظام السیاسی اللیبرالی فی المجال السیاسی العالمی[xxviii], وتسعى لفرض النظام الأحادی القطبیۀ المتمثل فی الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ, التی لا تملک الاستحقاق الکافی لقیادۀ العالم, وذلک لأنها لا تملک العدالۀ الکافیۀ, وهذا ما یشهد له مواقفها المتنوعۀ من القضایا العالمیۀ, التی انحازت فیها کثیراً ولم تفکر إلا بما یخدم مصالحها فقط, وخیر شاهد على ذلک موقفها من القضیۀ الفلسطینیۀ المنحاز کثیراً إلى إسرائیل, واستخفافها بالشرعیۀ والأعراف والقوانین الدولیۀ, واستهتارها واستهانتها بمنظمۀ الأمم المتحدۀ, فی حربها على ما یسمى بالإرهاب. أما العالمیۀ فتدعو إلى تطبیق النظام السیاسی الإسلامی, القائم على أساس حکومۀ القانون الإلهی, وبقیادۀ معصومۀ من الخطأ والظلم والانحیاز والاستعلاء والتجبر, هی قیادۀ الإمام المهدی(علیه السلام).
ب – وفی المجال الاقتصادی تسعى العولمۀ لتطبیق النظام الرأسمالی الذی ینطوی على مفاسد کثیرۀ تلفّت إلیها حتى بعض دعاۀ الرأسمالیۀ, وتهدف إلى تکریس مصالح الشرکات الکبرى متعدیۀ الجنسیات, وخدمۀ أهدافها التی لا یملکها ضابط دینی أو وازع أخلاقی, ومن دون نظر إلى مصالح الطبقات الفقیرۀ والمستضعفۀ. وأما العالمیۀ المهدویۀ فتدعو أیضاً إلى تطبیق النظام الاقتصادی الإسلامی الذی یحترم ملکیۀ الفرد والجماعۀ, ویدعوا إلى التوزیع العادل للثروۀ, وضمان حقوق الفقراء والعاطلین , وتحقیق الرفاه للجمیع. النظام الاقتصادی الذی یحکمه الوازع الدینی والضابط الأخلاقی.
ج- وفی المجال الثقافی تهدف العولمۀ إلى فرض الهویۀ الثقافیۀ الغربیۀ کنموذج حضاری للعالم أجمع , واستلاب هویۀ الشعوب الأخرى, واستبدالها بهویۀ أخرى مستوردۀ, بما یملکه صناع العولمۀ من آلیات ضخمۀ فی وسائل الإعلام[xxix]. العولمۀ »تتولى القیام بعملیۀ تسطیح الوعی, واختراق الهویۀ الثقافیۀ للأفراد والأقوام والأمم. ثقافۀ جدیدۀ لم یشهد لها التاریخ من قبل مثیلاً: ثقافۀ إشهاریۀ إعلامیۀ سمعیۀ وبصریۀ, تصنع الذوق الاستهلاکی (الإشهار التجاری), والرأی السیاسی (الدعایۀ الانتخابیۀ), وتشید رؤیۀ خاصۀ للإنسان والمجتمع والتاریخ. إنها (ثقافۀ الاختراق), التی تقدمها العولمۀ بدیلا من الصراع الإیدیولوجی«[xxx]. بینما العالمیۀ لا ترید أن تفرض الهویۀ العربیۀ أو الفارسیۀ أو الترکیۀ على العالم, إنها ترید تطبیق الدین الإسلامی, وهو لیس ملک أحد, ولا إنتاج أحد. وإنما هو شرع الله تبارک وتعالى خالق الجمیع, وربّ الجمیع. ولا ترید أن تستلب هویات الشعوب, بل تهذبها لتنسجم مع دین الله الذی ارتضاه لعباده[xxxi].
د- ونرى أن من أهداف الدولۀ العالمیۀ للإمام المهدی (علیه السلام) تقویۀالإیمان بالله تبارک وتعالى, وإشاعۀ الأمور الروحیۀ, شد الناس للقضایا المعنویۀ, وتحکیم الأخلاق فی المجتمع. وهذه مسألۀ جوهریۀ فی حیاۀ الإنسان وسعادته. فالإنسان لا یستطیع أن یعیش بأمن وسعادۀ ما دام مبتعداً عن ربه, معرضاً عن القوانین الأخلاقیۀ, ومبتعداً عن الأجواء الروحیۀ والمعنویۀ. یقول تعالى: ?لَّذِینَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِکْرِ اللَّهِ أَلا بِذِکْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ?. ویقول: ?مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَۀً ضَنْکاً?. بینما نرى أن العولمۀ لم تجعل ذلک من جملۀ أهدافها, فهی حاولت الترکیز على الاقتصاد والتکنولوجیا فقط. أو بالأحرى إذا أردنا أن نکون دقیقین لابد من القول أنها جعلت نقیضه من جملۀ أهدافها, أی تزییف الدین, وتشجیع الابتذال والانحطاط الأخلاقی, ومسخ الروح الإنسانیۀ.
4- الاختلاف على مستوى النتائج والمنجزات:
أ – على المستوى السیاسی سوف تقوم العولمۀ بإلغاء دور الدولۀ القومیۀ, أو لا أقل التقلیل من دورها فی النظام الدولی الجدید. وستکون لذلک تداعیات خطیرۀ جداً على الاقتصاد والمجتمع والثقافۀ والتنمیۀ, بحیث یکون مصیر الدول الضعیفۀ خاضعاً لإرادۀ الدول أو الشرکات الکبرى ومطالبها ومطامعها. »إن محصلۀ نشاط الشرکات المتعدیۀ الجنسیات لا تقود إلى مزید من الدیمقراطیۀ على مستوى العالم, وإنما إلى مزید من التحکم والسیطرۀ تحت تسمیات متعددۀ«[xxxii]. ولن تستطیع العولمۀ إنجاز دولۀ عالمیۀ واحدۀ, یخضع الجمیع لها, لنقاط الضعف الذاتیۀ التی تنتابها, ولعدم کفاءۀ القائمین علیها لذلک. بینما فکرۀ العالمیۀ تقوم على أساس إقامۀ حکومۀ عالمیۀ واحدۀ یعیش الجمیع تحت ظلها الوارف, لا یتسلط فیها أحد على أحد, ولا تتحکم شرکۀ کبرى فیها بمصیر أمۀ.
ب – على المستوى الاقتصادی سوف تجر العولمۀ العالم إلى مزید من الفقر والحرمان, واتساع الفاصلۀ بین الشمال والجنوب, بین الدول الصناعیۀ والدول النامیۀ. إذ أن الذی یستطیع أن یعیش لیس هو الذی یعمل أکثر, بل هو الذی یستطیع أن ینافس وینتصر فی الأسواق العالمیۀ, وفی تقانۀ المعلومات. حیث یؤکد أصحاب عقیدۀ السوق من الغربیین أن »من لا یقدر على المنافسۀ على الأسواق علیه أن ینزوی إلى متاحف التاریخ. ولا مکان للأقزام بجانب الکبار«[xxxiii]. ویعبر بعض صنّاع العولمۀ عن المجتمع البشری بـ(مجتمع الخمس). أی أنه یکفی 20% من العاملین من سکان العالم لتسییر الاقتصاد العالمی. ویستغنى عن جهود الآخرین فی الاقتصاد الدولی. وسیکون مصیر الاقتصاد العالمی بید ثلّۀ من الشرکات الکبرى التی تسیره وتتحکم فیه. وکما یقول رئیس إحدى الشرکات الکبرى (سکوت مکنیلی): »إن المسألۀ ستکون: إما أن تأکل أو تؤکل«[xxxiv]. ویرى الباحث محمد الأطرش: »إن العولمۀ المالیۀ تساهم فی ترکیز الثروات على مستوى العالم فی أیدی القلّۀ. فکما أن الأسواق المالیۀ القومیۀ فی المراکز الرأسمالیۀ تشکل آلیۀ لاستیلاء المنشئات الاقتصادیۀ الکبرى على المنشئات الصغرى, وتالیاً زیادۀ تمرکز وسائل الإنتاج فإن العولمۀ المالیۀ تطبق هذه الآلیۀ على المستوى العالمی«[xxxv].
أما الدولۀ العالمیۀ فإنها سوف تحقق لنا حالۀ من الرفاه والسعادۀ المادیۀ لا مثیل لها فی التاریخ. ففی الحدیث عن الإمام الباقر (علیه السلام): {… وتجبى إلیه أمول الدنیا من بطن الأرض وظهرها. فیقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فیه الأرحام, وسفکتم فیه الدماء الحرام, ورکبتم فیه ما حرم الله عز وجل, فیعطی شیئا لم یعطه أحد کان قبله. ویملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً, کما ملئت ظلماً وجوراً وشراً}[xxxvi].
وعن أبی سعید الخدری, عن النبی (صلی الله علیه و اله وسلم): {ثم یبعث الله عز وجل رجلاً منی, ومن عترتی, یملأ الأرض عدلاً کما ملئها من کان قبله جوراً. وتخرج له الأرض أفلاذ أکبادها, ویحثوا المال حثواً ولا یعدّه عداً, حتى یضرب الإسلام بجرانه}[xxxvii].
وأخرج القندوزی, عن أحمد والماوردی, عن رسول الله (صلی الله علیه و اله وسلم): {أبشروا بالمهدی, رجل من قریش, من عترتی, یخرج فی اختلاف من الناس وزلزال, فیملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت ظلماً وجوراً. ویرضى عنه ساکن السماء وساکن الأرض, ویقسم المال بالسویۀ, ویملأ قلوب أمۀ محمد غناه, ویسعهم عدله. حتى انه یأمر منادیا فینادی: من له حاجۀ إلى المال یأتیه. فما یأتیه أحد إلا رجل واحد یأتیه فیقول له المهدی (علیه السلام): أئت السادن حتى یؤتیک. فیأتیه فیقول: أنا رسول المهدی إلیک, أرسلنی إلیک لتعطینی. فیقول: أحث حثوا. فیحثو, فلا یستطیع أن یحمله. فیلقی حتى یکون قدر ما یستطیع أن یحمله, فیخرج, فیندم, فیقول: أنا کنت اجشع الأمۀ نفساً. کلهم دعی إلى هذا المال فترکوه غیری. فیرد علیه, فیقول السادن: إنا لا نقبل شیئاً أعطیناه}[xxxviii].
وأخرج البخاری, عن أبی هریرۀ أن رسول الله (صلی الله علیه و اله وسلم) قال: {لا تقوم الساعۀ… حتى یکثر فیکم المال فیفیض, حتى یهم رب المال من یقبل صدقته, وحتى یعرضه فیقول الذی یعرضه علیه: لا إرب لی به}[xxxix].
ب – وینتج من عدم التوزیع العادل للثروۀ, ومن الهیمنۀ الاقتصادیۀ لبعض الشرکات فی ظل العولمۀ حالۀ من التمییز, وعدم المساواۀ بین الشعوب. حیث ستتسع الهوۀ بین دول الشمال والجنوب, وبین المستثمرین والمستهلکین حتى فی الدول الصناعیۀ. بینما نجد أن دولۀ الإمام المهدی (علیه السلام) سوف تحقق قدراً کبیراً من المساواۀ بین الناس. کما ورد فی الحدیث عن رسول الله (صلی الله علیه و اله وسلم),أنه یقسم المال صحاحاً بالسویۀ: {أبشروا بالمهدی, رجل من قریش من عترتی, یخرج فی اختلاف من الناس وزلزال, فیملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت ظلماً وجوراً, ویرضى عنه ساکن الأرض والسماء, ویقسم المال صحاحاً بالسویۀ}[xl]. . وذلک لأن الجمیع هم أعضاء فی هذه الدولۀ العالمیۀ لا امتیاز لأحدهم على الآخر.
ج- ومن إفرازات العولمۀ الظلم والاضطهاد فی ظل سیطرۀ القوى الکبرى والشرکات العظمى على مصیر الشعوب. وفرضها لأرادتها علیها بما تملکه من تقنیات علمیۀ متطورۀ على مستوى الثقافۀ, ورؤوس أموال, وأسواق ومصارف عالمیۀ فی الجانب الاقتصادی, واستعباد وفرض للرأی فی الجانب السیاسی, حیث لا یمکن للشعوب أن تقول لا, بعد أن ربطت مصیرها بید القوى العظمى والشرکات العالمیۀ. بینما من أهم إنجازات العالمیۀ المهدویۀ, هو بسط العدل فی ربوع الأرض بحیث لن یکون هناک مکان فیها خالیا من العدل, أو مشغولا بالظلم. {یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً}.
د- ونتیجۀ لانعدام سیادۀ الدولۀ, أو تقلیل دورها, ولأجل الظلم والاضطهاد الذی ستفرزه العولمۀ, ولأجل الاعتداء على ثقافات الشعوب وخصوصیاتهم الحضاریۀ,, وعدم المساواۀ, ونهب الشرکات الکبرى لثروات البلاد, واستئثارها بالمقدرات العالمیۀ, سوف تحس الشعوب بالغبن والظلم, وسوف تحاول محاربۀ هذه الدکتاتوریۀ العالمیۀ, وتستخدم أسالیب جدیدۀ فی الأعمال الإرهابیۀ ضدها. والفقر والحرمان والاستئثار والظلم کلها بیئۀ مهیأۀ, وحضن دافئ لنشوء الإرهاب. فسیشهد العالم موجۀ من الإرهاب وانعدام الأمن, کما رأینا بوادر ذلک فی بدایۀ القرن الواحد والعشرین, کما فی أحداث أمریکا الأخیرۀ. بینما الدولۀ العالمیۀ ستحقق الأمن والسلام للعالم أجمع: ?لَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً?. جاء فی الروایۀ عن الإمام أبی جعفر الباقر(علیه السلام): {یقاتلون أی أصحاب الإمام المهدی (علیه السلام)- حتى یوحّد الله ولا یشرک به شیئاً, وتخرج العجوز الضعیفۀ من المشرق ترید المغرب لا یؤذیها أحد}[xli].
وعلى کل حال فهناک خصائص کثیرۀ للدولۀ العالمیۀ للإمام المهدی (علیه السلام) تمیزها عن غیرها, وهناک فوارق کبیرۀ بینها وبین العولمۀ التی تطرحها الدول الغربیۀ لتمریر مخططاتها, وتحقیق أهدافها, حتى أضحت نوعاً من الاستعمار المبطن.
تأثیر العولمۀ على الدولۀ العالمیۀ
لاشک بأن قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام) تتأثر بالظروف الموضوعیۀ, وبالتحولات العالمیۀ العظیمۀ بصورۀ کبیرۀ. ولاشک أن ما أتت به العولمۀ من تحولات عظیمۀ فی المسرح العالمی على صعید الوعی وعلى صعید الواقع, وما أفرزته من تحدیات خطیرۀ سوف تترک أثراً کبیراً على قضیۀ الإمام المهدی(علیه السلام).
والذی أراه أن تیار العولمۀ الجارف ما هو إلا مفردۀ من مفردات التخطیط الإلهی للبشریۀ, وللدولۀ العالمیۀ للإمام المهدی (علیه السلام). إذ أن العولمۀ اختزلت الطریق أمام الدولۀ العالمیۀ ومهدت السبل, وهیأت الأرضیۀ اللازمۀ لقیام دولۀ عالمیۀ واحدۀ, تحکم العالم تحت دستور واحد, ورؤیۀ واحدۀ. لقد کان الحدیث عن حکومۀ عالمیۀ قبل قرون, بل قبل عقود من الیوم یصنف فی ضمن أحلام الیقضۀ. وذلک للمساحۀ الشاسعۀ للعالم, وترامی أطراف المناطق المعمورۀ فی الأرض, واختلاف الأیدلوجیات, والتعصب القومی والمذهبی, ومئات الحدود المتنوعۀ التی تفصل بین شعوب العالم, من حدود جغرافیۀ وقومیۀ ودینیۀ وثقافیۀ وسیاسیۀ.. مما یجعل من الصعب جداً قیام حکومۀ واحدۀ تسیطر على کل هذه المناطق الشاسعۀ من العالم, وتضم بین هذه المتضادات المتنوعۀ.
إلا أنه فی ظل العولمۀ أصبح العالم أکثر تقارباً وتشابکاً وانکماشاً من ذی قبل. وزالت کثیر من الحدود التی کانت قائمۀ من ذی قبل, والتی کانت تعزل شعوب العالم عن بعضها. فبفضل التطور الکبیر فی تقانۀ المعلومات ووسائل الاتصال أصبح العالم یبدوا الآن وکأنه قریۀ واحدۀ, وراح العالم یقترب من فکرۀ (القریۀ الکونیۀ الواحدۀ).
فی القرى الصغیرۀ کل شئ یؤثر فی کل شئ. أی حدث اقتصادی أو سیاسی أو أمنی أو اجتماعی, یصل خبره بسرعۀ إلى الجمیع فی خلال دقائق أولاً, ویترک أثره على أهل القریۀ جمیعا ثانیاً. کذلک أمسى الیوم عالمنا الکبیر. تصل فیه الأخبار باللحظۀ, فی ظل التطور الکبیر فی دنیا الاتصالات المثیرۀ, ویعیش العالم الحدث بعد وقوعه بدقائق فی کل أرجاء الأرض. فکأن الحدث الذی وقع فی الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ, کأنه قد وقع فی قرى أفریقیا, والعکس بالعکس. وهکذا أیضاً نرى أن کل حدث سیاسی أو اقتصادی أو أمنی, یقع فی دولۀ من دول العالم, یترک أثره الکبیر على سائر دول العالم. کیف لو قد وقع ذلک الحدث فی دولۀ واحدۀ, فإنه یترک أثره على کل تلک الدولۀ. وذلک نتیجۀ التداخل الکبیر بین العالم بشتى أرجاءه. وهذا ما أنتجته العولمۀ فی الأیام الأخیرۀ.
وکما لم تعد الحدود الجغرافیۀ تقف حائلا بین الشعوب, وتأثرها ببعضها, کذلک لم تعد الحدود الثقافیۀ والإیدیولوجیۀ قادرۀ على عزل الشعوب, وحبسها داخل الإطار المذهبی أو الدینی أو الثقافی. فالعالم بات الآن أکثر تواصلاً من ذی قبل, وأکثر تأثراً على الصعید الحضاری والإیدیولوجی. غلواء التعصب الدینی والمذهبی والقومی خفت إلى حد کبیر عما کانت علیه قبل الیوم. والصراع الإیدیولوجی لم یعد حاراً کما کان, خصوصا بعد انهیار الاتحاد السوفیتی, وسقوط الإیدیولوجیۀ الشیوعیۀ. السیاسۀ أصبحت عالمیۀ, والاقتصاد عالمی, والثقافۀ عالمیۀ, والریاضۀ عالمیۀ.. کل ذلک من منجزات العولمۀ على صعید الواقع.
وعلى صعید الوعی أیضاً قطعت العولمۀ أشواطاً غایۀ فی الأهمیۀ فی طریق توحید العالم, وضمه إلى بعض. فالوعی البشری ارتقى من طور القبلی إلى المذهبی إلى الوطنی إلى القومی ثم إلى العالمی والکونی [xlii]. البشریۀ لم تجعل فی حساباتها – بصورۀ عامۀ- مسألۀ الحکومۀ العالمیۀ, والدولۀ الواحدۀ, والعالم الواحد قبل الیوم. حیث کان الإطار القومی, أو المذهبی, أو الوطنی هو الذی یصیغ تصوراتها, ویکون حاضرا دائما فی وعیها. بخلاف الیوم حیث برز الکل العالمی واضحاً فی وعی الناس. »إن بروز الانتماء العالمی, والولاء الإنسانی, والوعی الکونی, هو من أهم معالم العولمۀ السیاسیۀ, ومن أکثر الأبعاد عمقا على المدى البعید«[xliii].
»إن تقلص المسافات.. خلق رؤیۀ سیاسیۀ جدیدۀ تتجاوز الرؤیۀ القومیۀ. فالجمیع یعلمون أنهم یعیشون على کوکب صغیر ما زال ینکمش بصورۀ مستمرۀ. لم تعد مسؤولیاتهم, ولا اهتماماتهم محددۀ وفقاً لخطوط رسمت بشکل عشوائی عبر العالم. فعلى کوکب صغیر جداً لم یعد لهم من خیار, إلا أن یکونوا مواطنی العالم کله«[xliv].
»القریۀ الکونیۀ, النظام العالمی الجدید…هذه کلها کلمات شاعت فی التسعینیات, کانت تعکس تطلعاً متفائلاً لفجر القرن المقبل. کل فکرۀ من هذه الأفکار جلبت إحساساً بأننا سوف ندرک فی النهایۀ أننا عائلۀ واحدۀ«[xlv].
العالم أضحى الیوم یدرک ضرورۀ قیام دولۀ عالمیۀ واحدۀ, ویرى أنها فکرۀ تقترب من الواقع کثیراً, وهذا إنجاز مهم فی عصر ما قبل الظهور, یمهد الأرضیۀ لقیام هذه الدولۀ, ویهیئ النفوس والمشاعر لاستقبالها, والاقتراب منها, والعمل على إنجازها. وکلما کان العالم مستعداً ومهیئاً لتقبل فکرۀ الدولۀ العالمیۀ, ومدرکاً لضرورۀ قیامها, ومستعداً للمشارکۀ فی إنجازها, کلما اقترب الناس من الیوم الموعود, واقترب الیوم الموعود منهم.
إذن فنحن نعتقد بأن العولمۀ بما أفرزته من تحولات عالمیۀ کبیرۀ فی الوعی والواقع الإنسانی, تصب فی صالح الدولۀ العالمیۀ, وتمهد الأمور لها. بشرط أن نستثمر هذه الفرص التی أتاحتها العولمۀ فی صالح القضیۀ المهدویۀ, وأن نقوم بعولمۀ القضیۀ المهدویۀ من خلال العولمۀ. فإن المجال أصبح متاحاً ومتیسراً لذلک. وللأسف الشدید أننا لم نقم بالواجب علینا, ولم نستثمر هذه الفرص الکبیرۀ لصالح الإمام المهدی (علیه السلام). ولو سألنا أنفسنا أننا ماذا فعلنا للدولۀ العالمیۀ المبارکۀ, لا أظن أن أحداً منا یستطیع أن یقول شیئاً. خصوصا نحن الشیعۀ, الذین تعنینا قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام) أکثر من غیرنا, باعتبار أننا نعتقد أن الإمام المهدی (علیه السلام) أحد أئمتنا المعصومین, وأنه مولود, وحی یرزق, یعیش بین ظهرانینا, ویراقب کل أعمالنا, مما یجعلنا نشعر بالمسؤولیۀ تجاهه أکثر من غیرنا الذین لا یعتقدون بوجوده وغیبته.
نحن نعیش حالۀ من التقصیر فی هذا الجانب, سواء فی المستوى العلمی, أو فی المستوى التبلیغی والإعلامی. على المستوى العلمی لم تأخذ قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام) حظها الکافی من البحث والدراسۀ. وما بأیدینا من بحوث ودراسات هی قلیلۀ وناقصۀ کماً وکیفاً. المفروض أن تکون هناک مؤسسات علمیۀ مختصۀ بالقضیۀ المهدویۀ, تتبنى المشاریع البحثیۀ والتحقیقیۀ, وتکون لها خطط وبرامج ستراتیجیۀ, وتقوم بدراسات إحصائیۀ على مستوى العالم الشیعی والإسلامی, وحتى غیر – الإسلامی. نحن الآن لا توجد لدینا إحصائیات بالأرقام, ولا حتى بالتخمین حول نظر الناس للإمام المهدی(علیه السلام), ومدى معرفتهم به, واهتمامهم بقضیته, ومشاعرهم تجاهه. ولابد أن تقوم هذه المؤسسات بإقامۀ الندوات والمؤتمرات العلمیۀ المختصۀ, التی تناقش فیها قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام) من زوایاها المختلفۀ, وتدفع الشبه المتاحۀ حولها, وتقدم عنها صورۀ واضحۀ للعالم. الحقیقۀ أنا أدعو إلى مؤتمر إسلامی عام, یعقد کل سنۀ ویشارک فیه العلماء والباحثون, وأهل الاختصاص, من مختلف المذاهب والتیارات الإسلامیۀ. لأجل دراسۀ قضیۀ الإمام المهدی(علیه السلام), ودراسۀ کل القضایا المتعلقۀ بها. بل أدعو إلى إقامۀ مؤتمر عالمی حول المنجی العالمی, والدولۀ العالمیۀ الواحدۀ.
وعلى المستوى الإعلامی لم تأخذ قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام) حیزاً ملفتاً من المجال الإعلامی فی الدول الإسلامیۀ, مع کل التطور الذی طرأ على العالم الإعلامی. لیست هناک برامج محددۀ فی الرادیو أو التلفزیون, أوالفضائیات للتبلیغ للقائم عجل الله تعالى فرجه الشریف. فإن المفروض فی ظل العولمۀ الإعلامیۀ أن تکون لنا برامج مدروسۀ لتعریف الناس بشخصیۀ الإمام المهدی(علیه السلام), وأهدافه, وخصائصۀ, ولشد الناس إلى قضیته, ولخلق القاعدۀ الشعبیۀ الواعیۀ التی تکون منطلقاً ومتکأ لحرکته المبارکۀ, وبجمیع اللغات الحیۀ فی العالم.
نحن نرى بأن العولمۀ أتاحت لنا فرصا کبیرۀ لعولمۀ القضیۀ المهدویۀ, وأن لها آثار إیجابیۀ على مسیرها, بشرط أن نستغلها استغلالاً صحیحاً.
وعلى رغم الإیجابیات التی یمکن أن تترکها العولمۀ على قضیۀ الإمام المهدی (علیه السلام)ودولته المبارکۀ, توجد هناک سلبیات أیضاً یمکن أن یکون لها تأثیر سلبی علیها إذا لم نستطع تلافیها وعلاجها علاجاً جذریاً. ومن أهم السلبیات التی تترکها العولمۀ على القضیۀ المهدویۀ تأثیرها الخطیر على القاعدۀ الشعبیۀ الممهدۀ للإمام المهدی(علیه السلام). الممهدون للإمام المهدی (علیه السلام) أو (الموطئون) کما تسمیهم الروایات الشریفۀ لهم دور کبیر فی التمهید للدولۀ العالمیۀ, فهم یشکلون المنطلق والمتکأ للحرکۀ المهدویۀ المبارکۀ. وللعولمۀ آثار سلبیۀ کثیرۀ على تشکل هذه القاعدۀ وقوتها وتماسکها.
فقد قلنا سابقا, وذکرنا نصوصا للباحثین أن عالم العولمۀ هو عالم بلا حدود. وأن الشعوب فقدت کل جدران الحمایۀ لذاتها وهویتها الحضاریۀ, وخصوصیتها الثقافیۀ. فوسائل الإعلام الجبارۀ من شبکات الإنترنت والفضائیات, وغیرها تخترق الیوم کل الحدود والحواجز. والشرکات الإعلامیۀ الضخمۀ هی بید الدول الغربیۀ, بحیث تبدوا إمکاناتنا الإعلامیۀ فی الوقت الحاضر بالنسبۀ إلیها کالقزم إلى جنب العملاق. وهذه الشرکات الکبرى تحاول عولمۀ الثقافۀ الغربیۀ, وفرض نموذج ثقافی وقیمی على العالم کله,هو النموذج الغربی, والأمریکی بالتحدید. مما حدا بالبعض أن یعبر عن حرکۀ العولمۀ الحاضرۀ بـ(الأمرکۀ). والثقافۀ الأمریکیۀ الرائجۀ فی العالم الآن, بفضل الإمکانات الإعلامیۀ الجبارۀ التی تمتلکها [xlvi], هی ثقافۀ منحطۀ بکل ما للکلمۀ من معنى, حتى عبر عنها محرر النیویورک تایمز بأنها (نفایۀ الثقافات وثقافۀ النفایات) [xlvii].
وقد واجهت الثقافۀ الأمریکیۀ مجابهۀ ورفضاً کبیراً حتى من قبل سائر الدول الغربیۀ. لأنها ثقافۀ منحطۀ ومبتذلۀ, وفاسدۀ ومفسدۀ, تترک آثارها القاتلۀ على ثقافۀ الشعوب, وقیمها, وعلى بناء الأسرۀ, وتربیۀ الأطفال, والأمن الاجتماعی… وکانت فرنسا وکندا ودول أوربیۀ أخرى فی طلیعۀ من أبدوا امتعاضهم من الثقافۀ الأمریکیۀ, أو الهیمنۀ الثقافیۀ الأمریکیۀ[xlviii]. فإن العولمۀ وإن کانت تتیح تبادل المعلومات بین الشعوب, ولکنها لا تعنی التواصل الثقافی بین العالم, بقدر ما تعنی الاغتصاب الثقافی, والاستلاب الحضاری, والاحتکار الإعلامی من قبل الدول الکبرى, وأمریکا بالذات, تجاه الدول الضعیفۀ. فأمریکا تحتکر الإعلام بما أوتیت من إمکانیات هائلۀ, وتحاول فرض النمط الأمریکی فی التفکیر والقیم والعادات والثقافۀ والتصورات على العالم أجمع. النمط الأمریکی الذی تفرضه الشرکات الإعلامیۀ الضخمۀ سوف یؤدی إلى ضیاع القاعدۀ الشعبیۀ للإمام المهدی(علیه السلام), وتفسخها, واغترابها عن دینها وقیمها, وفقدانها لهویتها, وتباعدها عن رسالتها ومسؤلیتها تجاه الدولۀ العالمیۀ. وخصوصا بالنسبۀ إلى الجیل الجدید, الذی تشکل وسائل الإعلام الحدیثۀ, من الإنترنت والفضائیات وثقافۀ الصورۀ قناعاته وتصوراته وقیمه [xlix].
مما یستدعی من الدول الإسلامیۀ أن تبادر إلى التفکیر فی إیجاد الحلول اللازمۀ لذلک, وتوفیر الحمایۀ الکافیۀ للشعوب الإسلامیۀ, من الغزو الثقافی المحموم, والاستلاب الحضاری القاهر. ولا ینفع فی ذلک حضر الإنترنت والأطباق اللاقطۀ, فإن بناء الجدران لا ینفع الیوم فی حمایۀ الشعوب, فکلما بنینا جداراً تطاولت علیه وسائل الاتصال المتطورۀ بشکل مستمر. بل الحل فی توفیر البدائل الإسلامیۀ اللازمۀ. وإعادۀ بناء الذات وتحصینها ضد الاختراق الثقافی الذی تقدمه العولمۀ.
الهوامش:
——————————————————————————–
[i] – عبد الجلیل کاظم, مجلۀ المستقبل العربی, عدد 275, ص 59.
[ii] – عبد الجلیل کاظم, مجلۀ المستقبل العربی, عدد 275, ص 69.
[iii] – مجلۀ المستقبل العربی, عد268, ص 58.
[iv] – ن. م عدد 229ص98.
[v] – عمر, إعلام العولمۀ وتأثیره فی المستهلک: 74. نقلناه عن مجلۀ المستقبل العربی عدد275 / 69.
[vi] – أحمد عبد الرحمان, المستقبل العربی عدد 278/34.
[vii] – عبد الخالق عبد الله, المستقبل العربی, عدد278/ 24.
[viii] – ن. م: 56.
[ix] – ن. م: 25.
[x] – ن. م: 27.
[xi] – سورۀ النساء: 79.
[xii] – سورۀ الأعراف: 158.
[xiii] – سورۀ سبأ: 28.
[xiv] – سورۀ الأنبیاء: 107.
[xv] – سورۀ التوبۀ: 33.
[xvi] – تفسیر الأمثل, ناصر مکارم شیرازی: 6 /16.
[xvii] – التفسیر الکبیر, الفخر الرازی: 6 / 33.
[xviii] – ینابیع المودۀ, القندوزی الحنفی: 3 / 239. وکمال الدین, الشیخ الصدوق: 607
[xix] – سورۀ النور: 55
[xx] – مجمع البیان, الطبرسی: 7 / 267
[xxi] – تفسیر العیاشی, العیاشی: 3 / 135
[xxii] – تفسیر المیزان, الطباطبائی: 15 / 156
[xxiii] سورۀ الأنبیاء: 105
[xxiv] – بحار الأنوار, المجلسی: 24 / 359
[xxv] – تأویل الآیات الظاهرۀ: 327
[xxvi] – کمال الدین, الشیخ المفید: 310
[xxvii]- م. س.
[xxviii]- یقول محمد عابد الجابری: »العولمۀ تفرض طریقاً واحداً وفکراً وحیداً: اللیبرالیۀ ولاشیء غیر اللیبرالیۀ«. المستقبل العربی, عدد229 ص 137.
[xxix] – یقول الباحث المغربی عبد الإله بلقزیز فی هذا الصدد: »من المهم هنا الإشارۀ إلى أنها – یقصد الثقافۀ – أصبحت سلعۀ ینطبق علیها من الأحکام والإجراءات ما ینطبق على سواها من السلع المادیۀ. غیر أن الأهم هو الإقرار بأن مجال المنافسۀ فی تسویق هذه السلعۀ بات ضیقاً للغایۀ. ولا یتسع إلا للقوى التی تمتلک قدرۀ تقانیۀ أکبر, الأمر الذی یفرض القول بأن التبادل الثقافی العالمی الجاری – فی رکاب التجارۀ الحرۀ – تبادل غیر متکافئ, ولا یعبر عن أیۀ إمکانیۀ لتحویل العولمۀ الثقافیۀ إلى تثاقف متوازن بین الثقافات والشعوب والمجتمعات, بل یحتفظ لها بتعریف واحد: الغزو والاختراق«. المستقبل العربی, عدد229 ص 97-98.
[xxx]- محمد عابد الجابری, مجلۀ المستقبل العربی, عدد 228, ص18.
[xxxi] – یقول محمد عابد الجابری: »العولمۀ (Globalisation) إرادۀ للهیمنۀ, وبالتالی قمع وإقصاء للخصوصی. أما العالمیۀ
(Universalite , Universalisme ) فهی طموح إلى الارتفاع بالخصوصیۀ إلى مستوى عالمی«. المستقبل العربی, عدد 228, ص 17.
[xxxii] – خلدون النقیب, مجلۀ المستقبل العربی, عدد 268 / ص 116. ویرى الباحث محمد الأطرش أن »العولمۀ المالیۀ تتعارض جذریا مع الدیمقراطیۀ, إذ أن حفنۀ من مدراء صنادیق الاستثمارات النقدیۀ الضخمۀ وغیر المسؤلین أمام ممثلی الشعب فی أی دولۀ یتخذون وینفذون خلال لحظات قرارات قد تدمر حیاۀ الملایین من الناس«. المستقبل العربی, عدد 260, ص 25.
[xxxiii] – حسن حنفی, الثقافۀ العربیۀ بین العولمۀ والخصوصیۀ, ص 248.
[xxxiv] – مارتین وشومان, فخ العولمۀ, ص 25.
[xxxv] – محمد الأطرش, المستقبل العربی, عدد 260, ص 25. ویحاول أن یختزل الباحث مساوئ العولمۀ الاقتصادیۀ فی هذه المقولۀ: »إن تطبیق رأسمالیۀ الحریۀ الاقتصادیۀ لدرجۀ کبیرۀ فی أی نظام یخدم أساساً مصلحۀ الأقوى والأغنى فی هذا النظام, سواء أکان النظام قومیاً أم إقلیمیاً أو عالمیاً. ولیس من الضروری لمن یدعوا إلى تطبیق مبدأ فی مصلحته أن یکون على قناعۀ بأن هذا المبدأ یضر بالآخرین, بل قد یکون مقتنعاً بأن هناک انسجاماً ولیس تناقضا بین مصلحته ومصلحۀ الآخرین. وهکذا تؤدی المصلحۀ إلى تشکل القناعۀ التی تخدمها«. ن. م: 32.
[xxxvi] – معجم أحادیث الإمام المهدی علیه السلام: 3/ 323.
[xxxvii] – ن. م: 221.
[xxxviii]- منتخب الأثر: 197.
[xxxix]- صحیح البخاری: 2 / 512.
[xl] – الصواعق المحرقۀ, ابن حجر الهیثمی, ج2, باب 11
[xli] – منتخب الأثر, الگلبایگانی: 379
[xlii] – عبد الخالق عبد الله, مجلۀ المستقبل العربی, عدد 278,ص32.
[xliii] – ن. م.
[xliv] – الباحث فی کلیۀ سانت انتونی – اکسفورد ایفان لوارد, نقلا عن مجلۀ المستقبل العربی عدد 260, ص 135.
[xlv] – الیزابث دودسول – المدیرۀ التنفیذیۀ لبرنامج البیئۀ فی الأمم المتحدۀ. ن. م.
[xlvi]- یوجد فی الولایات المتحدۀ الأمریکیۀ أکثر من 1700 جریدۀ یومیۀ, وآلاف النشرات الأسبوعیۀ, وما یقارب 9000 محطۀ إذاعیۀ, و1000 محطۀ تلفزیونیۀ, و سبع مراکز إنتاجیۀ رئیسیۀ, و 2500 دار لنشر الکتب. مجلۀ المستقبل العربی, عدد 260, ص 75.
[xlvii] – مجلۀ المستقبل العربی, عدد 275, ص 66.
[xlviii]- أصدرت الحکومۀ الفرنسیۀ تشریعا یقضی بألا تزید نسبۀ البرامج الأجنبیۀ فی محطات الکوابل على 30% من مجموع البرامج. کما شجعت اتحاداتها الإعلامیۀ على بناء تکتلات إعلامیۀ تستطیع مواجهۀالانتاج الضخم للاحتکارات الأمریکیۀ. ن. م: عدد 240, ص 19.
[xlix]- یقول الباحث بول سالم مدیر المرکز اللبنانی الدراسات فی بیروت: »إن أکثر ما یلفت الانتباه من ظواهر العولمۀ المدى الذی بلغته الثقافۀ الشعبیۀ الأمریکیۀ( popular culture ) من الانتشار والسیطرۀ على أذواق الناس فی العالم. فالموسیقى الأمریکیۀ والتلفزیون والسینما, من مایکل جاکسون إلى رامبوا إلى دلاس, أصبحت منتشرۀ فی مختلف أنحاء العالم, کما أن النمط الأمریکی فی اللباس والأطعمۀ السریعۀ وغیرها من السلع الاستهلاکیۀ انتشرت على نطاق عالمی واسع, بالأخص بین الشباب. إضافۀ إلى ذلک أخذت اللغۀ الإنجلیزیۀ, وخصوصا اللهجۀ الأمریکیۀ تصیر لغۀ عالمیۀ«. ن. م, عدد 229, ص 86