إسماعيل شفيعي سروستاني
لقد انتجت البشرية منذ غابر الازمان و حتى يومنا هذا اعمالا و اثارا مختلفة؛ فقد بنت حضارات عريقة دامت الاف السنين على الارض واصبحت مصدر استلهام للحضارات التي تلتها. فالامم الكبيرة صاحبة حضارات كبيرة، الحضارات التي يؤشر مجمل العلاقات الاجتماعية و المعمارية و الموسيقى و التكوين التعليمي و النسيج الاجتماعي و العلاقات الانسانية فهيا على روعتها و بهائها و جلالها.
إسماعيل شفيعي سروستاني
لقد انتجت البشرية منذ غابر الازمان و حتى يومنا هذا اعمالا و اثارا مختلفة؛ فقد بنت حضارات عريقة دامت الاف السنين على الارض واصبحت مصدر استلهام للحضارات التي تلتها. فالامم الكبيرة صاحبة حضارات كبيرة، الحضارات التي يؤشر مجمل العلاقات الاجتماعية و المعمارية و الموسيقى و التكوين التعليمي و النسيج الاجتماعي و العلاقات الانسانية فهيا على روعتها و بهائها و جلالها.
و لا شك كانت ثمة حضارات لم يتبق منها الان سوى عدد محدود من الاثار او التجليات الباهتة. فحضارات انشاها اليونانيون القدامى والصينيون والايرانيون والمسلمون في يوم من الايام، كانت تختلف من حيث الاوجه المادية للحياة و النظم السائدة في تلك المنظومات، لكنها بلا شك كانت تلبي بشكل من الاشكال احتياجات انسان عصرها في جميع المجالات بما فيها العمارة و اللباس و الحكم و التعليم والمسائل الاخرى. لكن يجب معرفة ما اذا كان عامل مشترك يربط اجزاء ومكونات حضارة ما ام لا رغم التباينات الصورية في هيئتها الظاهرة.
وربما يبدو في اول نظرة ان كلا من هذه الاوجه في الاقتصاد والسياسة والعمارة وبناء المدن واللباس والعلاقات الانسانية لا تتناسب مع بعضها البعض، لكن عندما نمعن النظر في الحضارة المعاصرة، نرى ببساطة بان جميع اوجهها سواء نظام التعليم والنسيج الاقتصادي وكيفية ادارة الامور والبنية المعمارية الخاصة وحتى اعمالها الادبية والفنية تتناغم تماما مع الظروف الحالية.
إن القاء نظرة على الابنية المتبقية من عصر الحضارة الاسلامية يظهر ان هذه المباني ورغم انها كانت منتشرة في اقاصي العالم في تلك الحقبة وغطت مناطق شاسعة ومترامية الاطراف بدءا من شمل افريقيا وانتهاء بطشقند، الا ان العناصر الرئيسية لتلك المجموعة تظهر وجود وجه مشترك يمكن تمييزه وتشخيصه فيها كلها. فالنقوش الاسلامية والخطوط المنقوشة على الجدران والابواب والقبب والاسقف المقوسة في جميع المساجد الكبيرة والبلاطات اللازوردية اللون تحكي كلها عن فكر ثابت تشكل العمارة بنيتها الرئيسية. ان القبب الرفيعة للمساجد تحفظ دوما ذكر السماء ويجد المعمار وصانع البناء، فيها كل الطيبات والمحاسن والجمال. وكأن عيناه تتتبعان النور والضياء والطهارة والخير حتى اعالي السماء ويحفظ بعد ذلك ذكرى وذكريات كل هذا الضياء والانارة على هيئة قبة وبناية. انه يستعرض اللون اللازرودي للقبة الزرقاء من خلال تكسية العتبات والمآذن بالبلاطات ويسعى من خلال تماثل الخطوط والزخارف الجصية اظهار التعادل والنظام السائد في مجمل العالم والمنبعث عن الرؤية الحصيفة لخالقه.
فالعمارة الاسلامية تمرر الضيف عبر مجاز يعرف بالممر الداخلي قبل ان توصله الى القسم الداخلي للمنزل في خطوة لحفظ الحريم من نظرات غير المحارم. ان الجدران الشاهقة للمبنى تحفظ كل القيم التي ينوي حمايتها. والفناء الواسع للبيت مؤشر على رحابة صدره. إن هذا الجهد الحثيث للحفاظ على القيم يمتد الى حيث ان مقرعة الباب، تخبر بجنس الطارق، فالمقرعة الضخمة والكبيرة بصوتها الجهوري تدل على حضور رجل خلف الباب والمقرعة اللطيفة بصوتها الناعم تدلل على وجود امراة تنادي صاحبة المنزل للحضور الى الباب. وهذا التناسب والتناسق يمكن مشاهدته في ارجاء هذه البلاد الشاسعة. وكأن الحفاظ على منظومة القيم التي اقرتها السماء اهم للمعمار مما يدعو هو اليه. لذلك فانه يرى نفسه ملزما بحفظ القيم ويعمل وفق ذلك على دمج القيم والقناعات بالظروف الجغرافية والمناخية الخاصة ببراعة ومهارة، ويوفر امكانية حماية كل ما يحبذه. وفي هذا الخضم، فان الظروف الجوية الصحراوية في يزد والطقس المعتدل في اصفهان والبرد القارس في اذربايجان، لا يثبط اطلاقا من عزيمة وفكرة المعمار وانطباعه عن العالم والانسان.
ومن جانب اخر فان القينا نظرة على لباس هذا الانسان نجد ان الفكر السائد في البنية المعمارية، يسود هذا الجانب ايضا. وقد تفرض الجبال الباردة والشاهقة في الغرب والشواطئ الدافئة في الجنوب ظروفا خاصة من حيث اللباس والزي، لكن التعايش السلمي بين الظروف المناخية ومنظومة القيم اوجدت لدى هذا الانسان نظاما ثابتا ل «اللباس». لانه يستر ما يعتبره عزيزا عليه عن اعين الغرباء ويمتثل للكلام القدسي لبارئ الارض والسماء قبل ان يستجيب لتمنياته الشخصية، ويقدم حكم الله على رايه الشخصي. ان القاء نظرة خاطفة على مضامين الاعمال الادبية لعظماء الادب الفارسي في الكلام المنظوم والمنثور، يظهر رؤية هذا الانسان ـ الانسان المسلم ـ الى العالم والانسان والله. وهو ما يبني على اساسه عمارته ولباسه وباقي شؤونه.
لقد كنت مَلَاكا وكان مكاني الفردوس الاعلى لكن ادم جاء بي في هذه الدنيا الزائلة
***
يا له من يوم سعيد ان ارحل من هذا المنزل (الدنيا) وان اطير واخفق بجناحي في حيه ومنطقته
***
لقد اكتابت من زنزانة الاسكندر لارحل واذهب الى ملك سليمان
***
اسمع من الناي عندما يحكي ويرويويشكو ويئن من الفراق
وعندما قطعوني من مزارع الناي
اطلق الرجال والنساء الانين من نفيري
ولا يفرق ان كان الكلام صادر من اي من الشعراء، حافظ أم سعدي أم مولوي؟ لانه كلام واحد ليس الا:
انسان يعيش امل الطيران والتحليق الى المنزل المنشود، انه متململ ومتقلقل ويئن ويكتئب من الفراق والهجر ويتشوق للعودة الى ذلك المنزل المألوف. كائن لا يعتبر الارض بل السماء مكان استقراره ولا يعتبر الارض وطنا مالوفا ومانوسا بل بيت مستعار.
فان اصبحت العمارة والبناية وجها يذكّره بالسماء ويظهر قدَرَه في مرآتها ويستعرض رغبته لحفظ قدسية السماء، فان كلامه المنظوم وشعره يبين حرصه على العودة الى المنزل السماوي المنشود. وهذه الرؤية تتجلى في العديد من الآلات والنغمات الموسيقية المحلية في مختلف المناطق الايرانية. وعندما يختار «مثنوي» وينشد الاشعار التي كتبت في هذا السياق بلحن «مثنوي» •.
ويجب القول بان ثمة الفة لا تنفصم عراها بين الموسيقى والعمارة واللباس والشعر لدى هؤلاء القوم. وكأن كل ذلك انعكاس لصوت واحد ليس الا وقد يكون الاختلاف الوحيد بينها يكمن في جهورية الصوت او نعومته او تركيب الالوان او نوع اللكنة وبيان المفردات بسبب الاختلاف الضئيل للظروف المناطقية. الا ان حقيقة جلها ثابتة. ان هذا التركيب الجميل الناتج عن جهود الشعب الايراني المسلم، مؤشر على سعيه لابراز الوجه الجسماني ورمز ثقافته وفكره. وبما انه يرى ان جميع مكونات العالم تعيش تناسبا متسقا ومنسجما، فان هذه النسبة والتقارب يظهران نفسيهما في جميع اوجه حياته.
وعلى الرغم من اننا لا نتوجه في هذا المقال الى الحضارة المعاصرة لكنه لا بد من التاكيد على وجود علاقة وثيقة بين مظاهر ثقافة ما وحضارة ما. ويكفي اليوم ان نفتح نافذة من بيتنا على حينا ومدينتا لننظر من خلالها الى الاحياء والمنازل. كل شئ وكل صغيرة وكبيرة وكل شاردة وواردة يمكن مشاهدتها في المنازل. وحتى يمكن تحديد نوع الاثاث والادوات المستخدمة في كل اسرة. العمارة العارية التي تعكس ارهاصات الانسان المعاصر، الانسان الذي لا يملك شيئا ليخفيه ويتستر عليه، وليس لديه سر لاخفائه ومحارم لحمايتها من اعين الاخرين.
إن محاولات الانسان للربط بين الماضي والحاضر، تستحدث مجموعة مثيرة للسخرة من الدمج بين القديم والحديث. قصة ذلك المهندس الذي اراد احياء واعادة تاهيل العمارة القديمة، فالتقط صورا من الزخارف الجصية ومنافذ واعمدة البيوت القديمة ليقوم حسب تصوره باحياء العمارة القديمة من خلال تقليدها وان ما لا يراه في هذا الخضم، هو المعمار والرسام والمصمم وبالتالي الانسان وتبيان النظرة الخاصة لذلك الانسان الى العالم والانسانية.
والقصة كذلك في نظام التربية والتعليم. فالحديث يدور حول موضوع كلي وفكر سارٍ يعود بموجبه الانسان الى ذاته. لكن هذه الذات ليست الذات الحقيقية ـ التي ترشده الى الاصل ـ بل هي الذات النفسانية.
إن الانسان العصري يرى «ذاته النفسانية» في «مرآة» فكره ومن ثم يقوم بتصوير ما يشاهده والا من لا يدري بان المتعلم في النظام السابق كان يتعلم بان «اول العلم معرفة الجبار واخره تفويض امري الى الله» . وهو المتعلم الذي كان يعلن: ان القدرة والمشيئة هي للفعال ما يشاء.
وبناء على ما ذكر، فان كل ما يحصل في الارض على يد الانسان، هو نتاج وتجسيد لفكره وانطباعه، وبعبارة ابسط فان «الحضارة هي وجه متشكل من جميع المكونات، وتصل الى الاستقرار والثبات في ظل الروح المشتركة او الثقافة رغم اختلافها الصوري». وهذه الثقافة هي التي توعز الى جميع الاجزاء والمكونات وتعمل كالروح التي توفر امكانية استمرار حياة الجسم. لكن يجب القول انه في العصر الذي تسوده ثقافة خاصة وتقوم حضارة خاصة على اساسه، فان الانسان سيكون في خدمة احكام تلك الثقافة من حيث يدري او لا يدري.
یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.