إسماعيل شفيعي سروستاني …
ومرت الأيام، من دون أن تتاح لي إمكانية فهم تعاقبها.
وكأن أسعد ومعه ألوف الفتيان، قد بلغوا سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة في طرفة عين. وربما كان الأمر كذلك بالنسبة لاسرة أسعد. إن السؤال الخفي والواضح الذي يتبادر لذهن أسعد وأمثاله حول ما يجري في حواليهم، كان طبيعيا. أكان من ناحية الموقع الخاص الذي يمرون به أو من حيث العمر، واليوم حيث من الصعوبة بمكان التوصل إلى فهم صحيح عن الأوضاع الثقافية والإجتماعية المضطربة، فان عجز أسعد ومن معه في سنه لا يثير الاستغراب.
إسماعيل شفيعي سروستاني …
ومرت الأيام، من دون أن تتاح لي إمكانية فهم تعاقبها.
وكأن أسعد ومعه ألوف الفتيان، قد بلغوا سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة في طرفة عين. وربما كان الأمر كذلك بالنسبة لاسرة أسعد. إن السؤال الخفي والواضح الذي يتبادر لذهن أسعد وأمثاله حول ما يجري في حواليهم، كان طبيعيا. أكان من ناحية الموقع الخاص الذي يمرون به أو من حيث العمر، واليوم حيث من الصعوبة بمكان التوصل إلى فهم صحيح عن الأوضاع الثقافية والإجتماعية المضطربة، فان عجز أسعد ومن معه في سنه لا يثير الاستغراب.
وكأن المقاهي الشعبية بما تقدمه من أكلة “ديزي” أي مرق اللحم والحبوب والنرجيلة في وسط مدينة حديثة لا يربطها أي رابط بالتقاليد الماضية والحياة الآلية والربحية عديمة الرحمة التي لا تميز بين الحلال والحرام، بجانب النصائح العديدة الواردة في المناهج الدراسية وكلمات الموجهين التربويين وحلم بلوغ قمة الحضارة والمدنية الأوروبية الرفيعة بجانب أمنية نيل الفلاح والوف الموضوعات الصغيرة والكبيرة غير المتجانسة وغير المتسقة، لا تقنع روح أسعد البسيطة وذهنه التواق للتساؤل.
وجاء يوم السبت. كان الطقس رطبا وغطت سحابة داكنة السماء التي لم ترد أن تمطر. وكان المتنزه أكثر خلوة من الأيام السابقة. وأسعد الذي كان قد وصل قبلي، نهض من مكانه عندما شاهدني وألقى عليّ التحية.
– مرحبا أسعد! لِمَ لا تجلس؟
– الحقيقة أني كنت منشغلا ذهنيا طيلة الوقت. إذ كان ذهني منشغلا طوال الاسبوع باسئلة وأجوبة الاسبوع المنصرم.
– كيف؟
– أظن أن ثمة حاجة لمزيد من الفرص لدرك ما سمعته منك بالكامل.
– لا تعذب نفسك. فهذه هي خصوصية الحوار الثقافي. فان تريثت قليلا، فانك ستكون قادرا على تحديد وفهم ما يجري في حواليك.
– لكني لا أعرف شيئا عن الفلسفة.
– وأنا لم أتحدث عن الفلسفة أو ما تسميه “الفلسفة”، رغم أنك يجب أن تعرف بان أي كلام أو عمل يستند إلى فهم كلي عن العالم. بالمناسبة ماذا عن أصدقائك؟
– كنا معا يوم أمس. ذهبنا الى منطقة “اوين دركة” وفي الطريق تحدثت عنك مادحا. وكانوا متشوقين لحضور حوارنا.
– ويحين ذلك الوقت. ماذا تفعل ازاء المذاكرة والجامعة، أرايت بانك لم تقبل في الجامعة؟
– نعم… أذاكر بشكل عام. أحب مواصلة البحث الذي كنا قد بدأناه.
– لا بأس، يبدو أنك تستسيغ هذا البحث.
– طبعا!
– لقد كان ذهني منشغلا طيلة الاسبوع بالموضوعات التي تحدثت فيها عن ارتباك الحياة وصيرورة الانسان ووجوده ورحيله. أريد أن أعرف متى أصبنا بهذا الارتباك؟
– إن الإرتباك والإضطراب لا يحدثان بين عشية وضحاها، وإن أراد أحد باستعجال تحميل شخص أو شخصين مسؤولية هذا الوضع، فان ذلك ليس صحيحا ولا ينفع، فضلا عن أنه لا يمكن تسوية ومعالجة الازمة التي تحدثنا عنها في ليلة وضحاها ومن خلال وصفة بسيطة ومن ثم تنفس الصعداء. وقلت في موقع ما بان هذه القضايا تشبه وجع الأسنان. فصاحب السن المسوّس، يصرخ من الألم والوجع عندما يصل المرض الى جذر السنّ. في حين أن المرض كان قد أتى على سنه قبل فترة من الزمن وسوّسه. ومن أجل إظهار العلاقة المعقدة والوثيقة بين مناسبات الجمهور وثقافتهم وأخلاقهم بدأت برسم صورة عن العلاقة بين المعتقدات والثقافة والحضارة.
وتابعت القول: إن هذه التيارات هي على ثقة وثيقة ببعضها البعض. مثل العلاقة القائمة بين بزرة الشجرة مع جذرها وارتباطها بجذع الشجرة وأغصانها وأوراقها، وبالثمرة التي تتأتى منها، وبسبب هذا الارتباط يقال بان الشجرة تُعرف من ثمرها. وبناء على ذلك، فان نوع إعتقاد وأخلاق وثقافة شعب ما، تعرف من صورته الظاهرية وثمره الخارجي.
وعندما تقطع علاقة شجرة ما بثمارها، قد تبقى الأوراق خضراء والثمار يانعة لعدة أيام، لكن هذه الأوراق والثمار تذبل سريعا وتتساقط. وبهذه الطريقة، فعندما تقطع علاقة شعب ما بجذوره وهويته، فان الأوجه المادية لحياته تذبل تدريجيا وتسقط. وفي كثير من الأوقات يقع حديث بيننا وبين الأجداد حول البيوت القديمة والعلاقة الخاصة السائدة بين الجماهير التقليدية والماضي، ومن أن لا أثر اليوم لتلك التقاليد.
وهذه القضية، لا تقتصر علينا نحن الايرانيين أو المسلمين، بل تنطبق على جميع الشعوب والأمم وجميع الثقافات والحضارات.
وتبنى شعبنا منذ زمن خاص أخلاقا جديدة، تصورا منه أنه إن تحلى بتلك الاخلاق الجديدة، فان بوسعه التقدم في جميع المجالات والوصول إلى الحضارة التي نالها الغرب. متجاهلا بذلك أنه قام من دون وعي بقطع ارتباط شجرة حياته وثقافته بجذوره العريقة.
ولا بأس أن تعرف أنه إن تحول شئ إلى عادة، فانه يتحول إلى أخلاق وان الأخلاق تغير المصائر، وتحول المسار وتوصل الإنسان إلى وجهة أخرى.
ومنذ أن سادت العادات الجديدة الدخيلة بين شعبنا، أبرم عقد جديد واكتسبنا أخلاقا جديدة. الاخلاق التي غيرت من وجه حياتنا، لكن بما أن هذه القضية لم تتسم بالأصالة في بلدنا وكانت اصطناعية ومقلدة، ودخلت من دون تفكير وروية، جعلتنا نتعلق بين السماء والأرض تدريجيا. ويعود ماضيها إلى الوقت الذي أصيب فيه آباؤنا بمرض جديد لم يكن سائدا بينهم. وإني أطلق على هذا المرض اسم “مرض التنوير الفكري”.
– ماذا! مرض؟!
– كنت أعرف بانك ستستغرب الأمر وتريد حتما أن تسأل، هل كون المرء مثقفا وامتلاكه فكرا تنويريا أمر ردئ حتى أطلق عليه اسم المرض؟ وهل أن أجدادنا وجداتنا كانوا سابقا “ظلاميي الفكر” وأنهم إن خرجوا من ظلامية الفكر، فان ذلك يعد نعمة كبرى لا يمكن لها أن تكون مرضا وشيئا رديئا؟
معك حق، وربما كان بسبب هذا التصور أن تحولت هذه المفردة إلى أمر جميل بين الناس وانتشرت كلقب أو صفة إيجابية وأسعدة.
إن “التنوير الفكري” هو مصطلح خاص إن لم ينتبه أحد إلى مفاهيمه المستترة وماضيه التاريخي ومنشأه ومسقط رأسه، فان كل ما ذكرته سيخطر بباله بلاريب.
إن الجماهير تستخدم عموما هذا المصطلح من دون أن تأخذ بعين الإعتبار الحالات الثلاث التي ذكرتها أي مفاهيم التنوير الفكري وماضيه التاريخي ونشأته، ويتولد لديهم إنطباع إيجابي عنه، وطبعا لا ذنب لهم، لان هذا هو أحد إرهاصات الارتباك والاضطراب الذهني الذي أشرت إليه، مع اختلاف أن هذا من نوع الارتباك في اللغة وربما مصدر جميع هذا الارتباك هو “اللغة” وآمل أن أتحدث إليك في موقع آخر بشانه. لنعد إلى الموضوع الرئيسي، أي “التنوير الفكري”.
وكانت مفردة “انتلكتويل” مصطلح أدخله الكتّاب الايرانيون إلى اللغة الفارسية رديفا لمفهوم “المثقف” أو “المتنورّ” لذلك فان انتلكتويل تعني المتنورّ أو المثقف. ومفردة “انتلكتويل” مأخوذة من مفردة “انتلكت” أي العقل. لذلك فان المثقف أو انتلكتويل تمتد في ماضيها إلى خارج هذه البلاد ويعود تاريخها إلى أوروبا القرن الثامن عشر للميلاد.
وفي ذلك العصر كان بعض الفلاسفة يبذلون قصارى جهدهم لرسم رؤية مادية ودنيوية بحتة عن حياة الانسان وكانت هذه الرؤية والنظرة قد تموضعت في مواجهة الرؤية والنظرة الدينية. وهذا الموضوع يعود إلى الاحتجاجات والصراعات التي كان يخوضها الفلاسفة مع “الكنيسة” ورجال الدين.
إن هؤلاء ورغم الخلافات الكبيرة التي كانت سائدة بينهم حول القضايا الدينية، كانوا موحدين ومتسقين بالكامل في مواجهة الكنيسة. لذلك ترى بان التنوير الفكري للقرن الثامن عشر للميلاد هو فكر دنيوي بامتياز نشأ وترعرع في عصر النهضة الأوروبية في الفن والدين والسياسة والعلوم الطبيعية وكانت نشأته في “بريطانيا” ومن ثم انتقلت هذه الحركة الفكرية من بريطانيا إلى فرنسا وثم المانيا.
وإلى هنا يجب أن يكون واضحا لديك بان شتلة “التنوير الفكري” تضرب بجذورها من الناحية التاريخية في بلاد غير إيران، أي بداية في بريطانيا وبعدها فرنسا والمانيا، وفي القرن الذي سعت فيه أوروبا لادارة ظهرها على الدين والكنيسة لاحلال فكر آخر محل الفكر الديني.
وإن عدت مرة أخرى إلى معنى مفردة “انتلكتويل” أي العقل، سترى بان المثقف أو الانتلكتويل هو الانسان الذي جعل “العقل” والعقل الإنساني يحل محل الوحي والفكر الديني.
كما أن مفردة “التنوير” تذكّر الانسان دائما بمفردة “الظلام”. ومن هنا يمكن لك أن تفهم لماذا صنعت مفردة “المتنورّ”. التنوير ضد الظلام، مثلما أن مضاد كلمة “الظاهر” هي “الباطن”.
– ولِمَ كان فلاسفة القرن الثامن عشر يعتبرون أنصار الدين والمؤمنين بالكتب السماوية، بانهم “ظلاميو الفكر”؟
– يجب أن تستخرج جواب هذا السؤال من نوع نظرة أنصار الدين والمؤمنين بالكتب السماوية إلى العالم. أتدري أن المؤمنين بالكتب السماوية يعتبرون أن العالم وكل ما فيه، خلقه الله الذي لا يُرى ويؤمنون بان العالم كله لا يُختزل في هذا العالم المادي الذي يمكن احساسه، بل ثمة عالم واسع آخر يدعى “عالم الغيب” وغير المادي. وإن أرواح جميع البشر متعلقة به.
وعالم الغيب هذا هو “الباطن” والطبقة الخفية للعالم المادي الذي لا يُرى بالعين، لكن كل إنسان مؤمن بدين سماوي يؤمن به، لذلك فان كان العالم المادي والترابي والأحجار والنباتات والحيوانات و… ظاهرة وجلية، فان العالم غير المادي أو عالم الغيب، خفي ولا يُرى. ومن هنا يمكن لك أن تفهم بوضوح معنى مفردة “المتنورّ”. إن “المتنورّ” يؤمن فقط بالطبقة الجلية والشفافة والظاهرة للكون ويرفض كل ما هو خفي وغيبي ولا يُدرك بالحواس والتجربة. لذلك أرى أنه إن تم استخدام مفردة “سطحي النظرة” أو “سطحي الفكر” – أي الذي ينظر إلى الجزء الظاهري والواضح للكون وينظر بعين من الريبة والشك إلى الجزء الخفي والغيبي منه – بدلا من مصطلح “المتنور” سنفهم ما حدث بشكل أفضل.
– ما العلاقة القائمة بين “سطحية النظرة” النابعة من التنوير الفكري وما سميته سابقا العقل؟
– “العقل” هو ليس العقل الذي نعرفه إلى حد ما. ومفردة “العقل” تصنف ضمن المفردات التي يجب أن نناقشها في محلها باسهاب. إنتبه جيدا! إن ما يسميه المثقفون والمتنورون “العقل” هو العقل الذي ينبذ ويرفض كل ما هو غير واضح ومحسوس، وهذا التعريف عن “العقل” يختلف تماما عن التعريف الذي يقدمه عظماء الدين عن “العقل”. فهذا العقل يضع نفسه مكان الله ويضع القوانين بدلا من الله والكتب السماوية، ويعطي تفسيرا حول العالم ويزعم بانه قادر على معرفة الكون كله بمدد الحواس والأدوات الحسية.
وواضح أن “المتنور” لا يعتبر أن الانسان فطر على “الفطرة الإلهية” ويرى أن الانسان في حياته على الارض ليس بحاجة إلى الايمان بشئ إسمه الكتاب السماوي وكلام الأنبياء والشريعة والدين والإمثتال لاحكامه والالتزام به.
– صحيح! لكن ما دور العلم في هذا المجال؟
– يجب الإنتباه إلى أن العديد من المفردات أو المصطلحات، لا تستخدم بمعنى واحد. فقد أوردت تعاريف مختلفة عن العلم. ففي موقع استخدم “العلم” رديفا للمعرفة مقابل “الجهل”، كأن يقول أحدهم: عندما يولد الإنسان فانه “جاهل”، لكنه يكتسب المعرفة تدريجيا ومع الوقت ومن خلال مشاهدة العالم المحيط به، أي أنه يصبح صاحب معرفة. ويُراد من “العلم” تارة مجموعة المعطيات والمعلومات المنتظمة والمحددة حول موضوع خاص، مثل علم الفيزياء وعلم الحساب وعلم الرسم.
ويُستعمل العلم تارة أخرى بمعنى الوعي مقابل الغفلة، فعندما تقول لصديقك “لقد حطمت الزجاج عن وعي ودرك” فذلك يعني أنك كسرت الزجاج بوعي تام وعن دراية، لا من منطلق الغفلة. والأهم من كل هذا هو أن “العلم” يعني المعرفة. ويطلق أهل الفلسفة والدين والعرفان على هذا العلم إسم “المعرفة”. وقد تكون سمعت بمصطلح “العلم الحضوري” وأحيانا “العلم الحصولي”. لكن العلم في العصر الحديث (أعني عصر ما بعد القرن الثامن عشر لاوروبا) اكتسب معنى مختلفا. فالعلم في هذا العصر يعني “المعرفة التجريبية والمنطقية” للعلاقات الكمية للظواهر المنتشرة في الكون. إن العلم الحديث يستند إلى التجربة الحسية وبناء على ذلك فان أنصار وأتباع العلم التجريبي الحديث يعتبرون كل ما لا يُبرهن عن طريق التجربة الحسية، بانه غير علمي. وقال أحد كبار الجراحين الغربيين وعلى ما أعتقد البروفيسور برنارد ذات مرة: أقبل الله عندما أستطيع أن أجري لقلبه عملية جراحية. أي أني لا أقبل الإله الذي لا أستطيع تجربته عن طريق حواسي. أو أني أعتبر الشئ علميا أن يكون قابلا للتجربة والاختبار، وكل شئ لا يمكن تجربته فهو غير علمي. ومن هنا لقب العلم الحديث ب”العلم التجريبي”، لكن بخصوص الصفة المنطقية التي أشرت إليها يجب القول بان أي شئ محسوس وتجريبي ليس علميا بالضرورة، بل أن التجارب المنطقية هي علمية. إن التجربة المنطقية تعني التجربة التي تكتسي شكلا ثابتا ومحددا، وأن تتكرر بوتيرة واحدة، مثل تكرر غليان الماء عند 100 درجة مئوية. ولا بأس أن أشير هنا إلى أن “العلم الحديث” لا يتعاطى مع الحقيقة في ظل هذه الأوصاف.
إن آباء العلم الحديث أي أناس مثل بيكن وكبلر وغاليلة وكبرنيك و… لديهم قول معروف. فهؤلاء يقولون: إن العلم الحديث لا يبحث عن الحقيقة، بل يبحث عن السلطة وأن هذه السلطة تتحصل عن طريق كشف العلاقة الكمية بين الظواهر واستخدامها في كل هيئة ممكنة.
لذلك فان العقل الذي تحدثت عنه، يستند إليه المتنورون ليعبروا عن وجهة نظرهم، وكل ما يرفضونه أو يقبلونه وأي قانون يضعونه و… يتم من خلال الإستناد إلى هذا العلم.
– وما الهدف الذي كان يتابعه هذا التنوير الفكري؟
– إن هدف التنوير الفكري كان يتمثل في تغيير نوع نظرة الانسان، أي تغيير الأسس والمبادئ التي كان يستند إليها الانسان لمعرفة كل شئ، ونجح في ذلك. إن السؤال السابق الذي طرحته على الفور حول دور العلم، يُظهر جيدا أنك على غرار جميع الناس في هذا العصر، تتساءل عن دور العلم ما أن دار الحديث عن الله والنبي والقضايا العقائدية. وهذان الاثنان لا يتعارضان أبدا وأن ما يكتشفه الانسان كقوانين علمية (إنتبه! يكتشف لا يخترع تأسيسا على تلك القوانين) كله مخلوق على يد إله عليم وقادر. وهذا هو الفكر الذي كان التنوير الفكري يناصبه العداء وكان يسعى من خلال تغيير طريقة التفكير إلى إحلال الفكر التنويري محله.
واعتبر المتنورون الأوروبيون أثناء الحديث عن الخصائص التاريخية والثقافية للقرن الثامن عشر، أن النظرة العالمية للتنوير الفكري مبنية على أساس ثلاث فئات من المفاهيم المفتاحية وهي: العقل والطبيعة والتقدم.
– أدرك موقع العلم في ما أسميته النظرة العالمية، لكن أين هو موقع الطبيعة؟
– إن نظر أحد من خلال هذه الرؤية أي “مع تجاهل المكانة والإعتبار الإلهيين والماورائيين” إلى العالم والانسان والطبيعة، سيفهم التعريف الذي يقدمه المتنور الفكري عن “الطبيعة”.
وقد سمعت لحد الان بمصطلح ماوراء الطبيعة حتما. إن “ماوراء الطبيعة” لدى جميع الدارسين لاسيما المسلمين منهم رديف للعالم غير المادي والطبيعة المجردة من المادة وكل ما هو خارج عن عالم المادة المحسوس والملموس، مثل الروح والملائكة و… التي هي متعلقة بعالم ماوراء الطبيعة. وإن قلنا بان المتنورين ومن خلال انكار هذا العالم يعتبرون أن كل ما نتحدث عنه كماوراء الطبيعة، نابع عن الخيال ولا يعيرون كيانا له، ستفهم المفهوم والمعنى الذي تحظى به “الطبيعة” لديهم.
إنهم يعتبرون “الطبيعة” الملموسة والمحسوسة والمادية، موجودة فحسب ويعيرون كيانا وقيمة لها وماعدا ذلك يعيتبرونه خيالا ووهما.
والمبدأ الثالث الذي ذكرته هو “التقدم”. وربما سمعت وقرأت مرارا وتكرارا في الصحف والمجلات وحتى البرامج الإذاعية ألفاظا وكلمات مثل “التقدم” و “التكامل” و “الرقي” وما شابه، وهل يكره أحد التقدم؟! وإن سألت جميع الناس عَمّ يبحثون وما هي غايتهم المنشودة في العمل والدراسة والحياة؟ سيقولون: “التقدم” و “الرقي”، كما أن آباءنا وأجدادنا كانوا يتحدثون بطريقة أخرى عن “الكمال” و”الرشد” لكن ما كان ينشدونه عن “الكمال والرشد” يختلف تماما عما نفهمه نحن عن التقدم والرقي. إنهم كانوا يدعون للكمال والرشد كما يتبين من معطيات معلميهم والأعمال المنظومة والمنثورة الكبيرة، وكانوا يعتبرون “الرشد” متضادا ل “الغيّ”. وقد قرأت آية الكرسي حتما وتدري أنه جاء في إحدى آياتها:
“قَدْ تَبيّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ”.
فالرشد هو الهداية والكمال هو الرقي والنمو باضطراد، والآن أسالك: عندما يقول الناس اليوم أنهم بصدد تحقيق التقدم أو يجب أن نزدهر، فهل قصدهم هو “الإهتداء” و “الكمال”؟ وهل أن ضالة هؤلاء الناس الذين يبحثون عنها ليل نهار هي اللحاق بركب أهل الرشد والهداية أم ركب الحضارة والتقدم بمفهومها العصري؟
ولا تعتبر كلامي هذا معارضا للتقدم، بل ما أريده من خلال هذه الأمثلة هو أن أوضح لك أسس ودعائم النظرة العالمية ل “التنوير الفكري” والتي انتشرت بين الناس العاديين أيضا.
إن أصل كلمة الرقي هي مفردة “بروغره” الفرنسية. فعندما كان المتنورون الإيرانيون يسافرون في العصر القاجاري إلى “تركيا” الحالية أي الدولة العثمانية آنذاك، تعرفوا على مفردة “بروغره”. وطبعا كان هؤلاء يتلفظون هذه المفردة “بروقره”. ومذاك سادت هذه الفكرة بين الجماهير. واليوم حلت مفردات أخرى مثل “التقدم” و “التنمية” محل “بروغره”.
ولا تنس دور المناهج الدراسية في تناقل وتحول هذه المفاهم أي تحول أمنية “الرشد” إلى “التقدم”. وقد طرح مبدأ “الرقي” للمرة الأولى في الغرب من قبل فيلسوف فرنسي يدعى “تورغو” خلال محاضرة، وتحول بعده إلى نظرية على يد تلامذته.
وهذا الموضوع تأثر بنظرة الانسان الغربي للعالم، وقد أوضحته سالفا. وعندما بدأ الإعراض عن الدين والرؤية الدينية وتم إنكار ماوراء الطبيعة، تألقت الأرض والحياة الأرضية في نظرة الانسان لدرجة أن “إنماء الأرض” و “الإستيلاء في الأرض” أصبح أكبر أمنية للانسان وأصبح الانسان الغربي يعتبر الدنيا غايته القصوى وقرر أن يكرس جل حياته وعمره للاستمتاع الجسدي والحيواني بهذا العالم. وليس في غير محله إن قلنا بان الاستمتاع الأرضي، تحول إلى مذهب وغاية للانسان، لانه نسى كليّا عالم ما بعد الموت والرشد المعنوي والروحاني.
إن جميع الذين درسوا الثانوية يعرفون حتما فرضية التطور لداروين. وجاء في هذه الفرضية أن الحيوانات أمضت أطوارا في سيرورتها التدريجية ما أدى إلى أن يتحول الحيوان البدائي إلى قرد والقرد إلى إنسان. ولذلك فان الانسان هو حيوان متكامل، بنفس السمات الحيوانية البحتة والرغبات الجسدية.
– أريد أن أعرف أكثر عن هذه الفرضية وعلاقتها بالقضايا الاجتماعية.
– بادئ ذي بدء يجب أن تعرف بان كل ما هو متعلق بمعرفة العالم والانسان نابع من جذر وأساس فكري واحد يناقش عادة بين علماء الدين والفلاسفة وما نعرفه تحت عنوان “العلوم الانسانية”. العلوم التي يبدو أن لا أثر لها تقريبا على الأمور المختلفة بما فيها العلم والفن وغير ذلك.
وأتوجه إليك بالسؤال، هل يمكن اعتماد البرمجة والتخطيط للانسان أو المجتمع الانساني وحياته أو كيفية تنظيم الشؤون الاقتصادية والعلمية والصناعية التي يحتاجها الانسان من دون معرفة من هو هذا الانسان وإلى أين يجب أن يذهب؟ تعرف أن ذلك غير ممكن، لذلك فان هذه النقاشات الاولية وتحديد نشأة الانسان واحتياجاته الكبيرة والطفيفة، تتعلق كلها بالمجال الذي أشرته إليه أي “العلوم الانسانية”.
وكان داروين عالم تاريخ طبيعي، يحمل رؤية ونظرة فلسفية خاصة به. لندع هذا الأمر جانبا من أن علماء الأحياء المعاصرين الاكاديميين، يرون أنهم في غنى عن هذه البحوث والدراسات ويظنون أن هذه الأشياء لا علاقة لها بعملهم وعلمهم. وهؤلاء في الحقيقة يكونوا قد قبلوا من دون أن يعرفوا بالركيزة الخفية لفكر علماء الأحياء السابقين بمن فيهم داروين ولاماراك.
وكانت لداروين نظرة أخرى تجاه نشوء الكائنات وذلك على النقيض من المدارس الدينية والديانات السماوية – التي تؤمن بان كلا من الكائنات بما فيها الانسان قد خلقها الله في شكلها وهيئتها الحالية-. وقد عرض داروين فرضية عرفت فيما بعد بفرضية “أصل الانواع” أي فرضية تحول وتطور أنواع الحيوانات والكائنات في الارض.
ووفقا لهذه الفرضية فان الكائنات تكاملت تدريجيا وعلى مر الأجيال والأزمان ووجدت منها أنواع مختلفة، فمثلا حصل الضفدع من تحول السمك والزواحف من تحول الضفادع أو البرمائيات وبهذه الوتيرة حتى نشأت القردة ونشأ الانسان من القرد. والبقية يمكن لك ان تتكهن بها. ونصل في الحقيقة إلى هذه النتيجة بان جيلنا نحن الانسان يصل إلى القرد ولا شئ عن آدم وحواء ونفخ الروح الالهية في جسد آدم و… . وكما قلت فان هذه الرؤية كانت فرضية في بدايتها، لا قانونا ومبدأ مسلما به، لكن كانت هناك الكثير من وجهات النظر والبحوث حول هذه الفرضية وألفت الكتب حولها والقيت المحاضرات بشأنها، بحيث تبلورت هذه الفكرة من أن هذه الفرضية أصبحت مبدأ مسلما به ولا تبطل .
لذلك وإلى هنا فان الانسان فقد الايمان بالنشأة الإلهية للكائنات بما فيها الانسان ذاته. والنقطة اللافتة الأخرى هي أنه عندما تسلم بان الانسان نشأ من حيوان آخر أو أنه في الحقيقة نوع آخر من الحيوان، لا يمكن لك حينئذ أن تسلم بان شيئا مثل “الروح” يميزه عن سائر الكائنات. وكنتيجة لهذه الفرضية أصبح الانسان مساويا للحيوان من جميع النواحي والصفات الحيوانية والرغبات الحيوانية والوجهة الحيوانية. والنقطة الثالثة والمهمة هي أن هذا الانسان الذي هو حيوان متكامل يُصبح في غنى عن الدين والوحي والسماء والنبي.
إن هذه الفرضية وبالتالي هذا الفرع من علوم الأحياء الذي بني على “نظرية” غير دينية، تُعرّف الانسان هكذا: الإنسان، حيوان كسائر الحيوانات بنفس الإحتياجات والصفات والتي تفتقد إلى السمة السماوية والروحانية.
یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.