أسعد يولد من جديد

إسماعيل شفيعي سروستاني
لقد كتبت ” أسعد يولد من جديد” بكل نواقصها وثغراتها، باسم الله، لكل الشباب الطيبين لهذا البلد الكبير، وكلي أمل، أن يغضوا الطرف عن نقائصها بقلبهم الكبير، الشبان الذين منوا علي بلطفهم المستديم.

ولقد سعيت من خلال هذا العمل، إيجاد أجوبة بسيطة وحميمة لأسئلتهم؛ رغم أني أتوجه في الكتاب إلى تلك الأذن الصاغية التي تجسدت في شخصية “أسعد” القصصية.
وما الفرق، أكان أسعد أو مريم أو علي أو محمد، فكلهم ملاك، يقص مرور الزمن أجنحتهم شيئا فشيئا، ورغم أني أطالب لهم باجنحة كبيرة، تأخذهم إلى أعالي السماء حيث الله تعالى، وأني على ثقة بان “المعرفة” هي ذلك الجناح الخفي الذي ليس باقل من الجناح الذي أتمناه.

آمل أن يحظى بقبول أصحاب القلم. إن شاء الله
إسماعيل شفيعي سروستاني

البداية
قد أكون في هذه المدينة الصاخبة والمكتظة واحدا من الذين يمرون صبيحة كل يوم وقبل الساعة السابعة، عبر “بولفار كشاورز” بجانب “متنزه لاله”. إلى جانب المرور والعبور اليومي العام حيث اضطر أحيانا لسلوك هذا الطريق مرتين أو ثلاث مرات يوميا، أي أني أشهد مرة واحدة يوميا على الاقل طوال السنة، كل هذا الذهاب والمجئ وهذه الاشجار في الربيع والصيف والخريف، لكن إن سألتني كم مرة استطعت فيها أن تنزل من السيارة وتذهب إلى المتنزه والجلوس على أحد كراسيه، سأقول لك، أن ذلك لم يتجاوز عدد أصابع اليد خلال عشرة أعوام، إلى أن طرأ في الآونة الأخيرة طارئ صغير أدى إلى … .
***
كم هو مُضايق كل هذا العمل والذهاب والمجئ والجلبة، فمنذ الصباح الباكر وحتى الهزيع من الليل، ينطلق المرء بسرعة واستعجال لا ينتهي، كل هذا ينتزع منه فرصة التأمل والتعمق، لدرجة انه لا يسمح حتى معرفة متى يحل الربيع ومتى يرحل الصيف؟
وفي يوم ترى جميع الأشجار وقد اخضرت، والصفصاف المستحي وقد تدلت أغصانه الجميلة، وذات يوم الثلوج ناصعة البياض وقد غطت الشوارع والحدائق.
وكل هذا، مُصاحب للحياة في مدينة كبيرة صاخبة ومكتظة حديثة وعصرية في الظاهر. المدينة التي هي بؤرة الحركة والمليئة بالأماكن والمؤسسات التي تضع مجمل الأخبار والمعطيات بتصرفك.
الكم الهائل من المعطيات التي تنتزع من المرء فرصة التأمل والتفكير. وتعكر صفو وحدته وتجعله ينظر الى كل شئ بنظرة سطحية وضحلة، وأن يرى الظاهر فحسب ويمرر النهار والليل باستعجال وتسرع.
قلت: حتى الآونة الأخيرة حتى طرأ طارئ…
وكان الربيع في منتصف الطريق واخضوضرت الأشجار. وككل يوم توجهت إلى المنزل تعبا مرهقا، لكن حزنا لا سبب محدد له كان يلقي بثقله على كاهلي ويقطع أنفاسي ويثقل قدمي.
قطعت “بولفار كشاورز” وتولدت لدي رغبة ملحة تدعوني للذهاب الى المتنزة والجلوس على أحد مقاعده تحت إحدى أشجار الصفصاف،. فاستدرت بسيارتي نحو شمال “شارع كاركر”، وركنتها في موقع ما وذهبت الى المتنزه. الكل كانوا يتمشون وكنت أشاهد بين الفينة والفينة رجلا أو امراة أو أسرة وضعت كل حياتها وسعادتها في عربة أطفال صغيرة وهي تمر عبر  الممرات الضيقة التي تفصل جنينات وبرك مياه المتنزه.
ألعاب الأطفال والريح العليلة التي كانت تتماوج بين الأشجار الباسقة والرجال المسنون المتقاعدون الذين كانوا جالسين في مجموعة على أحد المقاعد ويتحدثون عن شبابهم، والشبان الذين كانوا منهمكين في لعب الشطرنج والأطفال الذين كانوا غارقين في لعب كرة الريشة غير مكترثين باحوال المارة، والفتيات والفتيان المتحابون الذين كانوا جالسين خلف الاشجار خارج مدى رؤية أهاليهم وهم يخوضون حوارا والكل والكل يرسم صورة الحياة على ستارة المتنزة الكبيرة، وأنا المعروف الغريب الذين كنت أحمل حقيبة يد ثقيلة وأبحث عن مكان منعزل لامضي سويعات بعيدا عن ضجيج المدينة وصخبها.
كان صوت بائع البوظة المتجول، وصوت الموسيقى التي تبث عن طريق مكبرات الصوت المركبة في المتنزه ومزاح وضحك الشبان والمارة الذي كان يمتزج مع صوت الموسقى.
إن مشاهدة كل هذا، أخذ بي إلى عهد الشباب ومشاهدة الشبان، أحيا فيّ طموح الشباب. وما كان، هو مظهر آخر من مظاهر الحياة تجسد في أجواء المتنزه. المظهر الذي ما كان بالإمكان المرور عليه مرور الكرام. المظهر الذي كان يملك لغته الخاصة. فكان الشبان يتحدثون عن كل شاردة وواردة بلامواربة ولا مبالاة. عن الأمنيات والأحلام التي يرسمونها للمستقبل، عن شجاعتهم واقدامهم في الحيّ والزقاق وسلوكياتهم الغرامية والأفلام والأغاني التي جلبتها لهم القنوات الفضائية و… .
وكان يمكن مشاهدة باطنهم من نافذة عيونهم وكذلك قلبهم الذي كان ينبض بحيوية الربيع والمستقبل والمصير الذي كانا يخفيان أنفسهما خلف ملابسهم الملونة.
لقد كان المتنزة معرضا للأبطال المحببين لدى شبان المدينة. الأبطال الذين كانوا يحركون هؤلاء الشبان من على بعد الاف الكيلومترات ويصنعون سلوكهم ويأخذون بهم إلى عالم بعيد وزاخر بالخيال…
وضعت حقيبة اليد على الارض والقيت بنفسي على المقعد الاخضر اللون تحت شجرة الصفاف وحدقت إلى السماء والى قطعة السحاب التي كانت تسير رويدا نحو الشرق، لكني لم أتمالك أذني، فقد كنت أسمع صوتا من كل حدب وصوب.
– بوظة! مثلجات!
وكان الصوت لرجل كهل يستقل دراجة هوائية متهالكة، ويحمل خلفه صندوقا مطاطيا مليئا بالبوظة ليكسب من خلال بيعها رزق يومه. ولم يكن صوت الرجل الذي كان يعلو على الأصوات الأخرى، يبتعد كثيرا حتى شاهدت سيدة شابة وهي تحمل حقيبة يد طفولية مع بالونة كبيرة بلونين، وكانت تصرخ على الدوام، إحترس، لا تسقط على الأرض! وهي تتعقب طفلا صغيرا يبلغ سنتين أو ثلاث سنوات من العمر. الأم التي كانت تختزل كل مستقبلها وأحلامها وشبابها في هذا الطفل الصغير، وربما لم تكن تسمع نداءات منتسبي المتنزه الذين كان يعلنون باستمرار: نرجوا من السيدات المحترمات أن يحافظن على حجابهن الإسلامي. بل ان الصوت الوحيد الذي كانت تقدر على سماعه هو صوت ضحك إبنها الصغير.
وعلى بعد عدة أمتار، كان ثمة ثلاثة شبان يجلسون على مقعد أمامي وهم غير مكترثين بما يجري حولهم، ومن دون أن أريد كنت أسمع يقولون:
–    أنظر أسعد! لقد واعدتك أمام “سينما العصر الجديد” عند الساعة الخامسة وانتظرتك حتى الخامسة والنصف ولم تأت، والان تتعامل معي وكأني أنا المذنب؟
–    لقد أخبرتك باني قد أأتي متأخرا، والان، ما الخطب؟
–    ماذا كنت تريد أن يحصل؟ الرجل ووعده الذي يقطعه…
وقاطع الشاب الثالث هذين الإثنين وقال:
–    كفوا عن الكلام! لقد سئمت، لِمَ هذه الثرثرة؟ لدي خبر جديد. لقد تشاجر بهرام مع أبيه بشان خروجه من المنزل، وبسبب مذاكرته لامتحان قبول الجامعات وأمور من هذا القبيل…
–    إن شهرام ملازم للبيت مثل الفتيات ويراجع الدروس … وكم هو طيب أبي، إني أمضي الوقت بلاعمل ولا يحاسبني!
والشاب الذي كانا يناديانه أسعد، قاطعهما بصوت عال وقال:
–    كفوا عن هذا، سنتصل به هاتفيا ونسأله.
–    طبعا إن لم تقل أمه انه ليس في البيت.
قال هذا فتى يبلغ من العمر نحو سبعة عشر أو ثمانية عشر عاما وكان يرتدي بنطالا أبيضا وحذاء رياضيا كبير الحجم، كان يقف أمام الجميع ويحدق بين الفينة والفينة بالفتيات الشابات اللواتي كن يمرن من ذلك المكان.
وفيما كان أسعد يخرج سيجارة من جيبه ويبحث عن ولاعة أو علبة كبريت، قال:
–    أتعرفون! لقد اجتمعنا اليوم لنتخذ قرارا ليوم الجمعة.
وكأن أحدا لم يكن يحمل معه علبة كبريت، لان أسعد انفصل عن الاخرين واتجه نحوي على أمل أن يحصل على علبة كبريت.
–    عفوا سيدي! هل لديك علبة كبريت؟
–    كلا، آسف!
–    عفوا!
قال هذا وهو يهم بالمغادرة. لقد كانت عيناه تلمعان. وقع نظرنا للحظة على أحدهما الاخر. وكان لا يبدو من مظهره انه من الشبان المتحللين والعاطلين الذين يمضون وقتهم في الشوارع من الصباح إلى المساء. شعرت بان ثمة هوة بين ما كان يُظهر وما كان يمكن فهمه من نظراته. حصل على ولاعة من أحد المارة وأخذ يتنشق السيجارة بعمق. وحدق للحظة في نقطة نائية.
–    أسعد! لِمَ هذا المكوث، هيا أسرع …
أخرجت الصحيفة التي كانت معي من حقيبتي وأخذت أتصفحها. لم تكن تحمل أخبارا جديدة، تلك الجلبة الدائمة التي يثيرها اللاهثون وراء السلطة وسجالات الصحف التي تعرض تصوراتها وأوهامها على الجماهير بلاهوادة في سياق التحليل والمقالة والخبر.
ألقيت نظرة سريعة وخاطفة على الصحيفة، وتركتها على المقعد. ومن ثم وضعت يدي متشابكتين خلف عنقي ووجهت عيناي نحو السماء وأنا أشاهد أوراق الصفصاف الخضراء والمتدلية. لا أدري كم مضى من الوقت. وفجأة شعرت بصوت أسعد وهو يستأذنني لقراءة الصحيفة. حركت رأسي بعلامة الرضا فرفع الصحيفة مبتسما ورحل. وما عدا أسعد، كان الإثنان الآخران قد ذهبا.
كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف مساء فجهزت نفسي للذهاب. نهضت، فجاء أسعد نحوي ووجه الصحيفة التي كان قد طواها إلي وقال:
–    شكرا جزيلا سيدي!
–    عفوا، لا يهم، بامكانك أن تأخذها.
–    شكرا، قرأتها. إن الصحف تزيد من حيرة المرء أكثر من أن تزوده بموضوعات مفيدة.
–    كيف؟!
–    لا شئ، دعنا عن هذا، قلتها هكذا، شكرا على أي حال!
كان يتكلم بطمأنينة وراحة بال، لكن كان يمكن مشاهدة الحياء والخجل في حركاته وسكناته. وما أن ذهب خطوتين حتى رجع فجأة إلى الوراء وقال باحتشام:
–    معذرة، هل يمكن لي أن أعرف من أنت؟
–    لا بأس! من يمكن أن أكون أنا؟
–    تبدو من ظاهرك أنك معلم أو كاتب أو شئ من هذا القبيل.
–    لقد كان حدسك صحيحا! لكن ما يهمك إن عرفت من أنا؟
–    منذ أن جلست أنت هنا لفت نظري إليك، ربما شعرت في داخلي بنوع من الإستئناس والألفة معك.
–    أرى أن جميع اصدقائك قد ذهبوا، لِمَ بقيت وحدك؟
–    لم يكن لدي عمل يدعوني للذهاب، وكنت أحبذ أن أبقى فترة أطول في المتنزه، والان حيث …
–    والان ماذا؟
–    سنحت لي فرصة التحدث إليك.
–    يبدو أنك تقضي معظم وقتك مع أصدقائك هنا أو أماكن مشابهة؟
–    إلى حد ما، عادة ما نأتي إلى هنا مرة في الاسبوع، نتحدث إلى بعض … وماذا عنك؟
–    للأسف قليل جدا! العمل والإنشغالات لا تسمح، لكني أحب أن آخذ قسطا من الراحة.
–    هذا جيد! وربما هي فرصة لي لأتحدث إليك أنت المهتم بالبحث والدراسة.
كنت أشعر بالرضا قلبيا. وربما كنت أحب أن أتحدث إليه ولاصدقائه، ولهذا السبب قلت:
–    جيد!
إرتسمت ابتسامة بعلامة الرضا على شفتيه، وقال على الفور:
–    في أي يوم؟
–    الأسبوع المقبل، هنا في هذه الساعة.
–    ممتاز! بالمناسبة إسمي أسعد!
–    أعرف!
–    وكيف عرفت؟
–    كان أصدقاؤك ينادوك بهذا الاسم، أنسيت أنك أتيت لتأخذ علبة كبريت لإشعال السيجارة؟ وأنا اسمي مهدوي.
–    أتفأل خيرا بالتعرف عليك، وسعدت للقائك.
–    وأنا كذلك.

یتبع إن شاء الله
جـمیع الحقـوق مـحفوظـة لموقع موعود الثقافی
لا یسمح باستخدام أی مادة بشكل تجاریّ دون أذن خطّیّ من ادارة الموقع
ولا یسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.

شاهد أيضاً

أسعد يولد من جديد ( القسم الثالث: وأما التقدم )

إسماعیل شفیعی سروستانی… ومرت الأيام، من دون أن تتاح لي إمكانية فهم تعاقبها. وكأن أسعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *