السيد علي الحكيم
لعلّ من المعاجز المهمة في تاريخ البشرية, أن يكون الإمام علي “عليه السلام” أول وليدٍ يولد في أقدس بقعة من بقاع العالم, تلك البقعة التي شاءَ الله لها أن تكون مهوى أفئدة المؤمنين عبر التاريخ, والتي أوجب الله علينا اتّخاذها قبلة نسجد له ولجلاله وعظمته أمامها في كلّ يوم عدة مرات, هذه المعجزة التي لم تكن لغير علي “عليه السلام” ولن تكون لغيره حتى قيام الساعة، وفي هذا دلالة وإشارة إلى الارتباط الوثيق بين علي “عليه السلام” وبين بيت الله و إشارة إلى أن لهذا الوليد شأن كبير عند الله سبحانه وتعالى, وأن هناك انسجاماً حقيقياً بين هذه الشخصية العظيمة وبين هذا البيت العظيم.
نص المقال :
لعلّ من المعاجز المهمة في تاريخ البشرية, أن يكون الإمام علي “عليه السلام” أول وليدٍ يولد في أقدس بقعة من بقاع العالم, تلك البقعة التي شاءَ الله لها أن تكون مهوى أفئدة المؤمنين عبر التاريخ, والتي أوجب الله علينا اتّخاذها قبلة نسجد له ولجلاله وعظمته أمامها في كلّ يوم عدة مرات, هذه المعجزة التي لم تكن لغير علي “عليه السلام” ولن تكون لغيره حتى قيام الساعة، وفي هذا دلالة وإشارة إلى الارتباط الوثيق بين علي “عليه السلام” وبين بيت الله و إشارة إلى أن لهذا الوليد شأن كبير عند الله سبحانه وتعالى, وأن هناك انسجاماً حقيقياً بين هذه الشخصية العظيمة وبين هذا البيت العظيم.
وتشاء الإرادة الإلهية أيضاً أن يختم هذا العظيم حياته, وهو في بيتٍ من بيوت الله سبحانه وتعالى, وهو قائم بين يدَيْه الله عابداً خاضعاً, وفي هذا ما فيه من الإشارة إلى عظم شخصيته. فالشخص الذي يولد في بيتٍ من بيوت الله, ويبدأ حياته في هذه الدنيا ويختمها وهو في بيت الله, لا يعني ذلك إلاّ على مدى الارتباط الوثيق بين هذه الشخصية وبين المسجد.
وهناك أمرٌ آخر وهو أن النبي “صلى الله عليه وآله” عندما أمر بإغلاق الأبواب التي تطلّ على المسجد النبوي – إذ كان المسلمون الذين يجاورون المسجد يفتح كلّ واحد منهم باباً من داره على المسجد, فأمر النبي “صلى الله عليه وآله” بإغلاق جميع الأبواب – وأستثنى منها باب علي “عليه السلام” إشعاراً بأهمية هذا البيت العلوي الفاطمي وإشعاراً بمدى ارتباطه بالله سبحانه, وكأن هذا البيت هو جزء من بيوت الله سبحانه, بل هو كذلك .
يذكر المفسرون أنه حين نزول هاتين الآيتين: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (1) .
سألوا النبي وهل بيت علي منها, قال بل من أفضلها .
ولكن مع كون الولادة والعيش والخاتمة كانت في بيوت الله إلاّ أن المعجزةَ الأهمَّ و الخصيصة التي تجلب الانتباه أكثر, هي كون علي “عليه السلام” عاش في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياته في بيت الله .
فإذا نظرنا إلى المسجد كبناءٍ مكوّن من حجارة وطين ومواد بناء, يمكننا أن نقول: إن علياً لم يعشْ كلّ لحظات حياته في المسجد, ولكن عندما ننظر إلى محتوى المسجد، وهو كونه مكاناً لعبادة الله ولتساوي المسلمين والنظر في همومهم ومنطلقاً لوحدتهم وتساويهم أمام الله سبحانه, يمكن القول إن عليّاً “عليه السلام” عاش في كلّ لحظات عمره في بيت الله. لأن المسجد في التصور الإسلامي و الرؤية الإسلامية هو الأمر الثاني لا الأول, وإلاّ ما قيمة الحصى و الطين من غير محتوى؟ وما قيمة المكان إذا لم يحقق الأهداف التي أرادها الله؟ بل إن مثل هذا المكان إذا فقد محتواه, فإنه يتحوّل من مكان مقدس إلى مكانٍ لا قيمة له, ألم يهدم الرسول الأكرم “صلى الله عليه وآله” مسجدَ ضرار حيث يخبرنا الله سبحانه عن هذا المسجد, و أنه أصبح منطلقاً لمحاربة الإسلام و التفريق بين المؤمنين (وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) .(2).
فلما فقد المسجد محتواه فقد قدسيّته و أهمّيته, بل تحول إلى مكان مضرّ بالمجتمع الإسلامي, لذا هدمه الرسول “صلى الله عليه وآله”, فإذا نظرنا إلى المسجد كمحتوى, يمكننا القول: إن علياً “عليه السلام” عاش في المسجد طيلة حياته, ولم يخرج منه لحظة من اللحظات, ونحن لو أردنا أن نتابع سيرة علي “عليه السلام” والتدليل على أنه “عليه السلام” حقّق الحالة المسجدية طيلة حياته لما وسعنا ذلك, ولكن نكتفي بذكر بعض الصور على سبيل المثال :
(1)العمل الخالص لوجه الله: مِن أهم رسالات المسجد هو جعل العمل خالصاً لوجه الله سبحانه, فعندما يقف الإنسان متعبداً أمام ربه لا بدّ و أن يكون بعمله هذا قاصداً وجه الله وحده دون غيره, وإلاّ فالإنسان لا يستطيعُ حينئذٍ الانسجام مع روح المسجد, وعلي “عليه السلام” في كلّ حياته كان يعمل لوجه الله تعالى, ففي غزوة الخندق وعندما يبرز عمرو بن ودٍّ ويتحدى جموع المسلمين ويخرج إليه الإمام “عليه السلام” ليبارزه, وحينما يتغلب عليه ويجثم على صدر عدو الله حينها يتصايح المسلمون مطالبين الإمام بقتله وحزّ رأسه, ولكن علياً يصبر, وبعد برهة من الزمن يحتزّ رأسه ويأتي به إلى الرسول الأكرم, وعندما يسأل الإمام “عليه السلام” عن السبب في تأخّره عن قتله يقول: عندما جثمت على صدرِه بصقَ في وجهي, فغضبتُ فخشيتُ أن أقتله في تلك الساعة غضباً لنفسي, فصبرت حتى سكنت نفسي فقتلته غضباً لله سبحانه وتعالى, ألم يحقق الإمام محتوى المسجد في هذا العمل, ألم يجسد الإمام المسجد في عمله هذا, ألم يلتزم الإمام برسالة المسجد في كون العمل يجب أن يكون خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى .
(2)الاهتمام بشؤون المسلمين: لعل من أهم أهداف المسجد وأسسه التي يبتني عليها هو مسألة التقاء المسلمين والاهتمام بمختلف مناحي حياتهم, وهذه الناحية تُلاحظ عند الإمام في أدقّ لحظات حياته. تلك اللحظات التي يقف فيها بين يدي ربه, وكلنا يعرف ما يجري للإمام حين وقوفه بين يدي ربه, ومع ذلك لا يشغله ذكر الله عن الاهتمام بالمسلمين باعتباره أمرٌ إلهي ومقدّسٌ فيأتي ذلك السائل إلى المسجد يسأل المسلمين فلا يعطيه أحدٌ والإمام مشغول بأجمل لحظات حياته وهي مناجاته مع محبوبه وخالقه فيمدّ يده الكريمة إلى الفقير مشيراً إليه بأخذ الخاتم, وهنا يحقق الإمام في هذه الصورة المزدوجة التي أرادها الإسلام للمسجد فهو مكان عبادة واتصال مع الله, ومكان اهتمامٍ بخلق الله في آن واحد, وهذا الإمام يجسّد هذه الحالة, ففي لحظة واحدة يكون الإمام مشغولاً مع الله مشغولاً بعباد الله, لذا استحق هذا الوسام الخالد الذي قلّده الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (3) .
وكم هو سخيفٌ عندما يقف عالم ومفسّر له شأنه وقدره محاولة منه لإرضاء المنحرفين: ويقول متحدياً الله سبحانه وتعالى: إن هذه ليست فضيلة لعليٍّ لأنه انشغل بأمرٍ غير ذكر الله في صلاته, ما أشدّ هذا التحدي فالله سبحانه يعتبرها فضيلة مهمة, وهذا ما أجرأه على الله, كلّ ذلك لأن هذه الفضيلة لعلي “عليه السلام”, ولكن مهما حاول أمثال هؤلاء إطفاء نور الله فإنهم لا يستطيعون ذلك.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (4).
(3)وحدة المسلمين: لا شك أن من أهم أهداف المسجد هو وحدة المسلمين وتعاضدهم وتكاتفهم, ليكونوا صفاً واحداً أمام أعدائهم, وهذا الهدف المقدس نلاحظه جلياً في حياة أمير المؤمنين, بل لعله من أظهر ملامح حياة الإمام “عليه السلام” الذي تنازل عن حقه وعن ميراثه وتراثه في سبيل حفظ الإسلام, أليس هو القائل حينما عزم أهل الشورى مبايعة الخليفة الثالث: (لَقد عَلِمتُم أني أحَقّ الناس بها من غيري، وَوَالله لأسَلِّمَنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين، ولم يَكن فيها جَور إلا عَلَيَّ خاصَّة) (5) .
نعم يتنازل ويسلّم ما دامت أمور المسلمين في أمان, وما دام لا يوجد جور إلاّ عليه “عليه السلام”, وهو حين يسلم ويتنازل عن الخلافة لا يتنازل عن أمر يرى له فيه بعض الأفضلية على غيره, بل يرى أن كلّ الحقّ له أليس هو القائل في خطبته الشقشقية: (أما والله لقد تقمّصها فلان, و إنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرحى, ينحدر عني السيل, ولا يرقى إليَّ الطير فسدلت دونها ثوباً, وطويت عنها كشحاً, وطفقت أَرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء أو أصبر على طخية عمياء, يهرم فيها الكبير, ويشيب فيها الصغير, ويكدح فيها المؤمن, حتى يلقى ربه, فرأيتُ أنَّ الصبرَ على هاتا أحجى, فصبرتُ وفي العين قذًى وفي الحلق شجًى أرى تراثي نهبا) (6) .
نعم: يتنازل الإمام عن ميراثه الذي أعطاه الله إياه , وورّثه إياه رسول الله “صلى الله عليه وآله”, كلّ ذلك في سبيل ألاّ يمسّ المسلمين سوءٌ. وألا يتفرق جمع المسلمين, ويقف طيلة فترة إبعاده عن الخلفاء موقف الناصح للمسلمين وللخلفاء, ولم يعتبر نفسه إنساناً لا يهمه أمرَ من أخذ حقه, فما دام الإسلام يحتاج إليه فلا بدّ وأن يقف سلام الله عليه موقفَ الناصح والمدافع عن الإسلام بكلّ كيانه.
أليس في ذلك تحقيقاً لرسالة المسجد وتجسيداً لمحتوى المسجد ؟
(4)العبادة: إن الشعار الذي يطرحه المسجد هو عبادة الله, فهو المكان الذي يرتقى فيه الإنسان مدارجَ الكمال عبر العبودية المخلصة لله سبحانه وتعالى, وعندما نلاحظ وندرس عبادة علي “عليه السلام” فإننا نقف عاجزين أمام هذه الشخصية العظيمة, التي وصلت إلى أرقى مدارج الكمال في العبادة, فهو يخاطب الله سبحانه: (إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارِك, ولا طمعاً في جنّتك, ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) (7). فهذه العبادة بالمعنى العام, إذا نظرنا إلى عبادة علي بالمعنى الأخص أي تلك العبادة المخصوصة التي تتمثل بالممارسات الخاصة كالصلاة و الصوم لوجدنا العجب العجاب عند هذا الشخص – فيكفي ما يروى عن زين العابدين وسيد الساجدين – الذي عرف بالعبادة بشكل كبير – أنه أطّلع يوماً على صحيفة فيها عبادة علي “عليه السلام” فرمى الصحيفة وتأفّف, وقال: (من يقوى على عبادة علي “عليه السلام”) (8) .
ونلاحظه في أدقّ الأوقات و أشدّها لا يترك عبادة ربه, ففي ليلة من ليالي حرب صفين سميت ليلة بليلة الهرير لشدّتها ولشدّة ما جرى فيها من القتال, ويفتقد الجيش قائده ويتمّ البحث عنه, وإذا به في تلك الساعة العصيبة يتوجّه إلى ربه ولا يغفل عن صلاة الليل التي لم يتركها طيلة حياته .
ويلاحظه ابن عباس أثناء القتال في أحد أيام صفين وهو يرقب الشمس: فقال له: ما هذا الفعل يا أمير المؤمنين؟
فقال: انظر إلى الزوال حتى نصلي, فقال ابن عباس: هل هذا وقت صلاة؟ إن عندنا شغلاً بالقتال عن الصلاة فقال “عليه السلام”: فعلى ما نقاتلهم إنما نقاتلهم على الصلاة (9) .
وهكذا نلاحظ أن أمير المؤمنين “صلوات الله عليه” جسّد المسجد في حياته ولم يجعل عبادته فقط مقتصرة على بيت الله, و إنما كان في كلّ لحظة من لحظات حياته يمثل بيت الله ويعيش بيت الله بكلّ محتواه ومضمونه, لذا ليست المعجزة في ولادته في بيت الله فحسب, وليست الفضيلة في استشهاده في بيت الله فحسب, وليست الكرامة في بقاء باب داره مفتوحة على بيت الله وحسب, وإنّما كلّ الفضيلة والكرامة والمعجزة في كون علي “عليه السلام” عاش كلّ لحظة من لحظات حياته وهو في بيت الله سبحانه وتعالى(*).
______________________
(1)النور: 36-37.
(2)التوبة: 107.
(3)المائدة: 55 .
(4)التوبة: 32.
(5) الشريف الرضي : نهج البلاغة : ج1 , ص124 , خطبة 74 .
(6) الشريف الرضي : نهج البلاغة : ج1 , ص30 , الخطبة 3 .
(7) الفيض الكاشاني , التفسير الصافي : ج3 , ص353 .
(8) المفيد , الإرشاد : ج2 , ص142.
(9) الحلي , كشف اليقين : ص122.
(*)المصدر كتاب “دروس من الإسلام” للسيد علي الحكيم.