انتهينا في البحث السابق عن معرفة كيفية طرح الإمام لقضية ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) و إمامته وأنه الخلف الصالح الذي وعد الله به الاُمم أن يجمع به الكلم في أصعب الظروف التي كانت تكتنف ولادة الإمام(عليه السلام)، وقد لاحظنا مدى انسجام تلك الاجراءات التي اتّخذها الإمام العسكري(عليه السلام) في هذا الصدد مع الظروف المحيطة بهما.
غير أن النقطة الاُخرى التي تتلوها في الأهمية هي مهمة اعداد الاُمة المؤمنة بالإمام المهدي(عليه السلام) لتقبّل هذه الغيبة التي تتضمّن انفصال الاُمة عن الإمام بحسب الظاهر وعدم امكان ارتباطها به وإحساسها بالضياع والحرمان من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية، فقد كان الإمام حصناً منيعاً يذود عن أصحابه ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية في كثير من الأحيان.
فهنا صدمة نفسية وايمانية بالرغم من أن الإيمان بالغيب يشكّل عنصراً من عناصر الإيمان المصطلح، لأنّ المؤمنين كانوا قد اعتادوا على الارتباط المباشر بالإمام(عليه السلام) ولو في السجن أو من وراء حجاب وكانوا يشعرون بحضوره وتواجده بين ظهرانيهم ويحسّون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقى هذا الإيمان بالإمام حيّاً وفاعلاً وقويّاً بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم وقريباً منهم بحيث يستطيعون الارتباط به متى شاءوا.
إنّ هذه لصدمة يحتاج رأبها الى بذل جهد مضاعف لتخفيف آثارها وتذليل عقباتها. وقد مارس الإمام العسكري تبعاً للإمام الهادي(عليهما السلام) نوعين من الإعداد لتذليل هذه العقبة ولكن بجهد مضاعف وفي وقت قصير جدّاً.
الأوّل: الإعداد الفكري والذهني.
الثاني: الإعداد النفسي والروحي.
أما الإعداد الفكري فقد قام الإمام تبعاً لآبائه(عليهم السلام) باستعراض فكرة الغيبة على مدى التاريخ وطبّقها على ولده الإمام المهدي(عليه السلام) وطالبهم بالثبات على الايمان باعتباره يتضمن عنصر الايمان بالغيب وشجّع شيعته على الثبات والصبر وانتظار الفرج وبيّن لهم طبيعة هذه المرحلة ومستلزماتها وما سوف يتحقق فيها من امتحانات عسيرة يتمخّض عنها تبلور الايمان والصبر والتقوى التي هي قوام الإنسان المؤمن برّبه وبدينه وبإمامه الذي يريد أن يحمل معه السلاح ليجاهد بين يديه.
فقد حدّث أبو علي بن همّام قائلاً: سمعت محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي(عليهما السلام)
وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه(عليهم السلام): إنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه الى يوم القيامة وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية فقال(عليه السلام): إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق، فقيل له: ياابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمّد هو الإمام والحجة بعدي. من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر الى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة[1].
وحدّث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي فقال: سمعت أبا محمد الحسن(عليه السلام) يقول: كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) المنكر لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والمنكر لرسول الله(صلى الله عليه وآله) كمن أنكر جميع الأنبياء، لأن طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه الله عزّ وجل[2].
وحدّث الحسن بن محمد بن صالح البزّاز قائلاً: سمعت الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام) يقول: إنّ ابني هو القائم من بعدي وهو الذي يُجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد فلا يثبت على القول به إلاّ من كتب الله عزّ وجلّ في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه[3].
الى غيرها من الأحاديث والأدعية التي تضمّنت بيان فكرة الغيبة وضرورة تحققها وضرورة الإيمان بها والصبر فيها والثبات على الطريق الحق مهما كانت الظروف صعبة وعسيرة.
وأما الإعداد النفسي والروحي فقد مارسه الإمام(عليه السلام) منذ زمن أبيه الهادي(عليه السلام) فقد مارس الإمام الهادي(عليه السلام) سياسة الاحتجاب وتقليل الارتباط بشيعته إعداداً للوضع المستقبلي الذي كانوا يستشرفونه وكان يُهيئهم له، كما انّه قد مارس عملية حجب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) عن شيعته فلم يعرفه كثير من الناس وحتى شيعته إلاّ بعد وفاة أخيه محمد حيث أخذ يهتمّ باتمام الحجة على شيعته بالنسبة لإمامة الحسن من بعده واستمر الإمام الحسن(عليه السلام) في سياسة الاحتجاب وتقليل الارتباط لضرورة تعويد الشيعة على عدم الارتباط المباشر بالإمام ليألفوا الوضع الجديد ولا يشكّل صدمة نفسية لهم، فضلاً عن ان الظروف الخاصة بالإمام العسكري(عليه السلام) كانت تفرض عليه تقليل الارتباط حفظاً له ولشيعته من الانكشاف أمام أعين الرقباء الذين زرعتهم السلطة هنا وهناك ليراقبوا نشاط الإمام وارتباطاته مع شيعته.
وقد عوّض الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) الاضرار الحاصلة من تقليل الارتباط المباشر بأمرين:
أحدهما:
بإصدار البيانات والتوقيعات بشكل مكتوب الى حدٍّ يغطي الحاجات والمراجعات التي كانت تصل الى الإمام(عليه السلام) بشكل مكتوب. واكثر الروايات عن الإمام العسكري(عليه السلام) هي مكاتباته مع الرواة والشيعة الذين كانوا يرتبطون به من خلال هذه المكاتبات.
ثانيهما:
بالأمر بالارتباط بالإمام(عليه السلام) من خلال وكلائه الذين كان قد عيّنهم لشيعته في مختلف مناطق تواجد شيعته. فكانوا حلقة وصل قوية ومناسبة ويشكّلون عاملاً نفسيّاً ليشعر اتباع أهل البيت باستمرار الارتباط بالإمام وإمكان طرح الأسئلة عليه وتلقي الأجوبة منه. فكان هذا الارتباط غير المباشر كافياً لتقليل أثر الصدمة النفسية التي تحدثها الغيبة لشيعة الإمام(عليه السلام).
وهكذا تمّ الإعداد الخاص من قبل الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) لشيعته ليستقبلوا عصر الغيبة بصدر رحب واستعداد يتلائم مع مقتضيات الايمان بالله وبرسوله وبالأئمة وبقضية الإمام المهدي(عليه السلام) العالمية والتي تشكّل الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع الإنساني من أوحال الجاهلية في هذه الحياة.
____________________
[1] كمال الدين: 2/409 .
[2] كمال الدين: 2/409 .
[3] كمال الدين: 2/524 .