علامات الظهور بين الاهتمام والإهمال

السيد محمد القبانجي
الحديث عن المستقبل والتطلّع إلى معرفة المجهول والاهتمام بمصير الإنسان من القضايا الساخنة في كلّ عصر سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات، وقد تكون مناشئ هذه الحالة النفسية، وهذا الاندفاع نحو الأمام هو خطوة استباقية…

 

الحديث عن المستقبل والتطلّع إلى معرفة المجهول والاهتمام بمصير الإنسان من القضايا الساخنة في كلّ عصر سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات، وقد تكون مناشئ هذه الحالة النفسية، وهذا الاندفاع نحو الأمام هو خطوة استباقية لمواجهة المجهول والتصدّي له، وربَّما مجرَّد التشويق لمعرفة الأمور قبل حدوثها من باب اللغز والأحجية، باعتبار أنَّ المستقبل من الغيب البعيد عن إدراك الإنسان بأدواته الطبيعية.

حتَّى باتت برامج التنجيم وقراءة الطالع في الفضائيات من أكثرها رواجاً على الساحة، ولا يختصُّ ذلك بالعرب أو المسلمين فقط، بل هي منتشرة حتَّى في أوربا وأميركا والغرب بشكل عام، بل نستطيع القول إنَّها هناك أكثر رواجاً بكثير من بلداننا، إذ كلَّما أصبح المجتمع مادّياً وملتصقاً بالدنيا، وبعيداً عن الروحانيات كلَّما تركَّز ذهنه وبنى حياته ومستقبله على قراءة الطالع وما قاله العرّاف والمنجّم بحقّه وما يخصُّ مستقبله فيصبح آلة يتحرَّك وفق إملاءات العرّافين.

وبنظرة خاطفة حول الفكر الإسلامي وقيمه يتَّضح أنَّ المستقبل والتعرّف عليه ومحاولة اكتشافه يعتبر من أولويات الفكر الديني، إذ اعتبر المعاد والبعث بعد الموت من أصول الدين الإسلامي، ولم يكتف هذا الفكر بذكر المفاهيم والقيم الدينية بما بعد الموت، بل أخذ يركّز على تفاصيل المستقبل بكلّ أبعاده دنيوياً قبل أن يكون أخروياً، وذلك ينبع من أنَّ الفكر الديني الإسلامي يرى أنَّ عالم الدنيا مرتبط بعالم الآخرة وليس شيئاً منفصلاً عنه، فهو ليس فكراً روحياً بحتاً يستقي مبادئه وقيمه من عوالم ما وراء الطبيعة والباراسيكولجي، بل هو فكر واقعي ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع ويحاول إيجاد صيغة متكاملة للرقي بالإنسان في مختلف جوانب أبعاده المادّية والروحية.

لذا نجد أنَّ الإسلام أراد للإنسانية مستقبلاً زاهراً ينعم بالخير والرفاه والتطوّر، وذلك وفق آلية رسمها لا يمكن أن تختلف أو تتخلَّف، وذلك عبر إرسال الرسل وبعث الأنبياء، ثمّ بسط العدل الإلهي على الأرض بخلافة الإنسان الكامل وتحقيق الوعد الربّاني حيث قال: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)، وتحقيق الهدف والغاية من الخلق: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ببركة وجهود خاتم الأوصياء المهدي المنتظر عليه السلام سليل خاتم الأنبياء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)، وقال: (بنا فتح الله وبنا يختم).

ورسم لذلك كلّه نظاماً خاصّاً رتيباً دقيقاً كما جاء في الرواية: (نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً)، وأعطى للأمّة إشارات وعلامات ودلالات لكي تستفيق من غفلتها وتنهض من سباتها وتعالج مشاكلها، ولتكون على أهبة الاستعداد وقدر المسؤولية الملقاة على عاتقها.

فصحيح أنَّ أمر المهدي من الميعاد والله لا يخلف وعده، ولكن أبى الله إلاَّ أن تجري الأمور بأسبابها، فليس من سنن الله هداية الأمم بمبدأ (كن فيكون)، بل وفق منهج (إِنْ تَنْصُـرُوا اللهَ يَنْصُـرْكُمْ)، وسنن (قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ …)، هكذا هي مسيرة الحياة التي اختارها الله لخلقه وأرادها لعباده.

هكذا هي بعض غايات علامات الظهور المقدَّس، ولكنَّنا نجد الكثير الكثير من الناس يولون اهتماماً بالغاً بمعرفة العلامات ومحاولة إيجاد الرابط بينها وبين ما يحدث في حياتهم اليومية من وقائع سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، فأصبح شغلهم الشاغل التطلّع إلى العلامات، ولا شكَّ أنَّ مثل هذا النهج يخسّر الشخصية الإنسانية الكثير، لأنَّها سوف تستغرق فيه إلى درجة تفقد معه حسّ النقد والموضوعية، ممَّا يؤثّر على وعيها بشكل عامّ.

ولعلَّ من هذا الباب وكردّ فعل على تصرّفات البعض نجد هناك من يدعو إلى إهمال العلامات وعدم البحث عنها، باعتبارها لا تقدّم ولا تؤخّر في تعجيل ظهور ذي العلامة، فليست هي مقدّمات موصلة، وليست هي من باب المقدّمات التي تجب حتَّى يحسن الاهتمام بها ولولاها لما وصل الإنسان إلى ذيها ولم يمكن تحصيل الواجب، فهي ليست كذلك على الإطلاق.

إذن فعلام كلّ هذا الاعتناء والاهتمام والتركيز على أمر ثانوي غير داخل في صميم حركة الإصلاح العالمي؟ فلنقفل كلّ باب ولنسدّ كلّ نافذة تتحدَّث عن العلامات.

هكذا قد يفكّر البعض.

والحقّ الذي ينبغي الالتفات إليه أنَّ كلا الأسلوبين سقيم، وكلا المنهجين غير صحيح، فلا المنهج الأوّل الذي صبَّ كلّ اهتمامه بالعلامات ونسي وغفل عن ذيها، بل لا يحسّ بضرورة المساهمة من قبله في تحقّق الوعد الإلهي، فهو كالمتفرّج الذي ينظر من بعيد لقضيّة لا تمتُّ إليه بصلة. ولا منهج الإهمال المطلق والذي جاء كما ذكرنا كردّ فعل على المنهج الأوّل.

فالنظر والتأمّل في تراث أهل البيت عليهم السلام يعطينا معرفة واضحة بالمنهج الذي اتَّبعوه عليهم السلام، فقد اتَّخذوا منهجاً وسطياً فأعطوا اهتماماً خاصّاً بالعلامات، لكن على أن لا تشكّل حاجزاً عن معرفة دور الإنسان وقدرته على تغيير المستقبل لصالحه، فهو ليس خارج اللعبة حتَّى يكون متفرّجاً، كما أنَّ مقاليد الأمور ليست كلّها بيده.

ولتأكيد منهجية أهل البيت عليهم السلام في بيان العلامات نذكر ما روي عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال (الزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً حتَّى ترى علامات أذكرها لك وما أراك تدرك ذلك: اختلاف بني العبّاس، ومنادٍ ينادي من السماء…)، فالإمام أمر بالتحرّك ولو بنحو المفهوم حين رؤية العلامات، ممَّا يعطي مدلولاً واضحاً بوجوب معرفة العلامات من باب مقدّمة الواجب، فعليها يتوقَّف مشروعية التحرّك والجهاد وعدم لزوم الأرض.

وفي سند آخر من الرواية نفسها يقول الإمام عليه السلام لجابر: (وما أراك تدرك ذلك، ولكن حدّث به من بعدي عنّي)، ففيها إشارة إلى لزوم التحديث ووجوب الفهم والاستماع والتناقل للخبر، فمن خلال ذلك كلّه يتبيَّن أهمّية وضرورة معرفة العلامات والاهتمام بها.

وكما جاء عن محمّد بن الصامت، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: (بلى)، قلت: وما هي؟ قال عليه السلام: (هلاك العبّاسي، وخروج السفياني، وقتل النفس الزكيّة، والخسف بالبيداء، والصوت من السماء)، فقلت: جُعلت فداك، أخاف أن يطول هذا الأمر؟ فقال عليه السلام: (لا، إنَّما هو كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً).

إذ أنَّ تلبية الإمام عليه السلام لطلبه وجوابه على سؤاله يدلّل على اهتمام السائل بالعلامات وإمضاء الإمام لهذا الاهتمام، ويستشف منه بشكل جلي أنَّ أهل البيت عليهم السلام أعطوا اهتماماً خاصّاً للعلامات وجعلوها من ركائز الفكر الشيعي المنتظر.

والرواية الثالثة عن سدير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (يا سدير، الزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنَّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك).

والرواية الرابعة عن أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا عليه السلام: ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: (علامته أن يكون شيخ السنّ شاب المنظر حتَّى أنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيّام والليالي حتَّى يأتيه أجله).

والرواية الخامسة عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ علياً وشيعته هم الفائزون)، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: (إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون _ لرجل من بني أميّة _)، قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: (يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون).

شاهد أيضاً

معالم الحكومة الإسلامية عند الإمام المهدي عليه السلام

السيد نذير الحسنيتعاقبت على هذا العالم حكومات متعددة تباينت فيما بينها بالوسائل والأهداف, والكل يسعى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *