شهدت العتبة العباسية المقدسة منذ عدة قرون خلت العديد من الهجمات العدوانية وطالها الكثير من الدمار، وقد يضيق المقام بذكر كل تلك الحوادث لو استطعنا إحصاءها منذ بدايتها، لكننا سنحاول جاهدين في هذا التقرير ذكر ما أحصيناه منها (فما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه) وسنقسم الحوادث وفق القرون الهجرية.
فمنذ النصف الثاني للقرن الأول من الهجرة بدأ تقتيل وإرعاب للزائرين وتخريب واعتداء على رموز قداستها، سمات لازمت عتبات كربلاء المقدسة مذ وجدت لبناتها الأولى بعد انطواء الصفحة العسكرية من ملحمة الطف الخالدة في العاشر من محرم الحرام عام 61هـ، حتى عندما كانت تلك المراقد الطاهرة، مجرد شواهد بسيطة كتلك التي توضع للقبور العادية.
والمتتبِّع لسلسلة الحوادث الكثيرة تلك، والتي مازالت مستمرة حتى يومنا هذا مع اختلاف طفيف في الأساليب، يؤشر إلى خوف الطغاة ومتّبعي سُبُل الضلال من هذه الرموز العظيمة، التي طهّرت هذه البلاد وأنارت طريق الأحرار فيه وفي غيره من بلاد المعمورة، والتي يبدو أنها تُذّكِر من يعتدي عليها بخواء نهجه وبقرب زوال ظلمه، خاصة إن كان من الحُكّام، فيحاولون لأجل ذلك طمس معالمها وحجب شمس حقيقتها بغربال باطلهم، كما أنها في كل عصر -ولكونها الشاهد الحاضر- وقبل كل ذلك تحرّض المظلومين على الثورة ضدّ الطغاة، رغم قلة الناصر وضعف العُدّة وتبشّرهم بالنصر ولو بعد حين.
ولعلّ الفترة التي مضت على القبر المطهّر من بعد ملحمة الطف إلى أواخر الدولة الأموية، كانت أهدأ دورٍ مضى على الحائر؛ لأنّهم اكتفوا -حسب الظاهر– بما اقترفوه من جرائم وآثام لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، جرت كلها بحق الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه(عليهم السلام) في تلك الواقعة وما تلاها من عذابات السبي، مما حدا بعبد الملك بن مروان أن يكتب إلى عامله الحجاج بن يوسف الثقفي بقوله: (جنّبني دماء آل أبي طالب فإنّي رأيت المُلْكَ استوحش من آل حرب حين سفكوا دماءهم)، فكان الحجّاج ممتثلاً لذلك الأمر، خوفاً من زوال الملك عنهم لا خوفاً من الله عزّوجلّ!!، متجنّبين دماء آل بيت النبي(صلى الله عليه وآله)، ولهذا السبب أو لغيره لم يتعرّضْ الأمويون لمراقد كربلاء المقدسة كما تعرّض لها العباسيون بعد ذلك، عدا أن أولئك أقاموا المخافر والرجال المدججة بالعتاد والسلاح على أطراف كربلاء لمطاردة الزوار ومعاقبتهم بأقسى العقوبات من القتل والصلب والتمثيل بهم، وأكملت الدولة العباسية الدور بعدهم على أثر انقراض دولة الأمويين، فسنّ العباسيون أسوأ السنن بالتعرض للحائر المقدس، وهدمه وما حوله.
القرن الثاني الهجري:
صبّ المنصور العباسي جام غضبه على العلويّين وآثارهم، وتطاول على القبر المطهّر فهدم السقيفة التي بُنيت عام 65هـ على قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وذلك في عام 146هـ.
وفي سنة 193هـ أمر الحاكم هارون العباسي بهدم كربلاء كلّها، بضمنه البناء القائم على ضريح الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس(عليهما السلام)، وحرث أرض القبر الشريف للإمام(عليه السلام)، وهدم الدور المحيطة به، وقطع السدرة المطلّة على قبر الإمام الحسين(عليه السلام)، وكان يروم بقطعها منع الزائرين لئلاّ يستظلّوا تحتها أو ليهتدوا بها إلى القبر الشريف كمحاولة من محاولات الطغاة الكثيرة لإخفائه ومنع الناس من زيارته على مرّ العصور، كل ذلك لكي لا يستلهموا منه قيم الإباء والثورة ضدّ الظالمين مهما عتوا وكبروا -وهارون منهم طبعاً-، وقد فعل هارون كل ذلك من خلال أوامره الى واليه على الكوفة موسى بن عيسى بن موسى الهاشمي.
العتبة العباسية المقدسة شهدت ومنذ قرون عديدة جرت العديد من الهجمات العدوانية وطالها الكثير من الدمار، وقد تناولنا في الجزء الأول (للاطلاع على الجزء الأول اضغط هنا )) من التقرير بعض من مراحل العدوان على العتبة العباسية المقدسة وسنتناول في هذا التقرير الجزء الثاني من هذه المراحل.
القرن الثالث الهجري:
لما كانت سنة 232ه تولّى الحكم المتوكّل العباسي، وكان شديد البغض للإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، ولذلك عمد إلى هدم قبر الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) أربع مرات:
المرة الأولى: عام 233ه وذلك إثر ذهاب إحدى جواريه المغنّيات إلى زيارة شعبان في كربلاء، فأنفذ عمر بن فرج الرخجي لهدم ما عمّره المأمون العباسي، وأمر بتخريب قبر الحسين(عليه السلام) وحرثه، فلمّا صار إلى الناحية أمر بالقبر فمرّ بها على القبور كلها فلمّا بلغت قبر الحسين(عليه السلام) لم تمر عليه، ثم إنّ الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) رغم الاضطهاد والتنكيل عمدوا إلى تعمير مرقده الشريف وإنشاء البيوت من حوله.
المرة الثانية: سنة 236ه حيث عمد المتوكّل أيضاً إلى هدم الضريح المطهّر وملحقاته وزرعه بعد تسوية أرضه، كما أمر بهدم ما حوله من المنازل والدور، ثم منع زيارة المكان وغيره من البقاع الشيعية المقدسة وهدد الزوار بفرض عقوبات صارمة عليهم، فنادى بالناس: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق، وإلى هذا يشير السماوي في أرجوزته فيقول:
ثم تناهى جعفرٌ بالمَخْرِ والحَرْثِ للأرضِ ونـبشِ القبر
لمائتين وثلاثين وسِـتِّ إذ فوّض الأمر إلى علق وست
وأوعَزَ مهمة الهدم لرجل يهودي اسمه إبراهيم الديزج، فبعثه المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، وإن الديزج حسب أمر المتوكل لم يكتفِ بهدم القبر وإنّما ضرب ما حوله فهدم مدينة كربلاء كلها، وكَرَبَها وأرسل الماء عليها، فلمّا وصل القبر لم يتقدّم إليه أحد خوفاً، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه وأجروا الماء عليه، وأنه أوكل في أطرافها المسالح لمنع الزائرين من الزيارة بالعنوة وبعقاب القتل وجعل المتوكل عقوبة على زائري الإمام الحسين(عليه السلام) وهي قطع يده للمرة الأولى، ورجله للمرة الثانية.
والتقى أبو علي العماري بإبراهيم الديزجٍ وسأله عن صورة الأمر، فقال له: أتيت في خاصة غلماني فقط، وأني نبشت فوجدت بارية جديدة عليها بدن الحسين بن علي، ووجدت منه رائحة المسك فتركت البارية على حالها وبدن الحسين على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه، فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة لئن ذكر أحد هذا لأقتلنّه، ويصف السماوي الحادثة كلها في أرجوزته التي يقول فيها:
ثم حرثنا الأرض لكن البقر تأتي إلى ذاك المـقام وتذر
وكلّما تُضرب للـكراب تقهقرت تمـشي على الأعقاب
ثم مخرنا الـماء فوق القبر فحار عنه واقفاً لا يجري
ويبدو أن محبي أهل البيت(عليهم السلام)، لم يتركوا قبر إمامهم على حاله بل عمّروه بما يتناسب على الرغم من تضييق السلطات عليهم.
المرة الثالثة: عام 237ه حين بلغ المتوكل أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الإمام الحسين(عليه السلام) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قوّاده واسمه هارون المعري وضمّ الوزير معه وغيرهم إضافة إلى إبراهيم الديزج لينفّذ الهدم والحرث إضافة إلى الجند، ليشعِّث قبر الحسين (عليه السلام) ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره، ففعلوا ما أمروا به ويعلّق أحد الباحثين: (إن الطاغية لم يوفّقْ في هذه المرة إلى مثل ما ارتكبته يداه في المرات السابقة وذلك لتأثير الرأي العام من جهة، ومن جهة أخرى تجاه المقاومة الفعلية الشديدة التي لاقاها جنوده من قبل الأهلين)، ولم يزل زواره (عليه السلام) يقصدونه ويصلحون قبره الشريف عن الهدم المتكرّر.
وفي سنة 240ه توجه الأشناني وهو من محبي أهل البيت(عليهم السلام) إلى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) سرّاً برفقة أحد العطّارين فلما وصلا القبر الشريف جعلا يتحرّيان جهة القبر حتى عثرا عليه؛ وذلك لكثرة ما كان قد مُخِر وحُرِث حوله فشاهداه وقد قُلِع الصندوق الذي كان حواليه وأُحرق، وأُجري عليه الماء فانخسف موضع اللِّبْنِ وصار كالخندق حول القبر ولمّا أتمّا مراسيم الزيارة نصبا حول القبر علامات شاخصة في عدة مواضع من القبر، ويصف الأشناني الوضع الأمني آنذاك بقوله: (فخرجنا زائرين نكمن في النهار ونسير في الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا، فصرنا نشمّه…الخ).
المرة الرابعة: سنة 247ه كان قد بلغ المتوكل مرة أخرى مسير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الإمام الحسين(عليه السلام) وأنه قد كثر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق كبير فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره، ونبش وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبّع آل أبي طالب والشيعة فقتل منهم جمعاً كثيراً، وإن هدم المتوكل لقبر الإمام الحسين(عليه السلام) في المرة الرابعة صادف في النصف من شعبان حيث كان الناس يتوافدون بكثرة على زيارة كربلاء في ذلك الوقت.
وقد تولّى الهدم في هذه المرة إبراهيم الديزج أيضاً حيث يقول: إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى، إلى قبر الحسين فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساءً ومعنا الفعلة ومعهم المساحي والمرود، فتقدّمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت فذهب بي النوم، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية، وجعل الغلمان ينبهوني، فقمت وأنا ذعر فقلت للغلمان: ما شأنكم؟ قالوا: أعجب شأن؟! قلت: وما ذاك؟ قالوا: إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب، فقمت معهم لأتبيّن الأمر، فوجدته كما وصفوا، وكان ذلك في أوّل ليلة من الليالي البيض، فقلت: إرموهم، فرموا فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلاّ في صاحبه الذي رماه فقتله، فاستوحشت لذلك وجزعت وأخذتني الحمّى والقشعريرة ورحلت عن القبر لوقتي، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكّل لما لم أبلغ في القبر جميع ما تقدّم إلي به.
وانتشر ظلم المتوكّل وذاع خبر هدمه قبر سبط الرسول(صلّى الله عليه وآله) بين الناس فتألّم المسلمون لذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان، وهجاه الشعراء.
ولقد وضع المتوكل يده على أوقاف الحائر وصادر أموال خزينة الحسين(عليه السلام) ووزّعها على جنوده قائلاً: (إن القبر ليس بحاجة إلى الأموال والخزائن)، ورُوِيَ أنه لمّا أُجري الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوماً وانمحى أثر القبر، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ من التراب قبضة قبضة ويشمّها حتّى وقع على قبر الحسين(عليه السلام) وبكى، وقال: بأبي أنت وأمي ما كان أطيبك وأطيب تربتك ميّتاً، ثم بكى وأنشأ يقول:
أرادوا ليُخفوا قبره عن مُحِبِّه فطيبُ تراب القبر دل على القبر
علماً أن مثل ما جرى على قبر الإمام الحسين(عليه السلام) جرى على قبر سيدنا ومولانا أبي الفضل العباس(عليه السلام).
سنة 269 هـ تعرّضت عتبات كربلاء المقدسة للعبث والسرقة من قبل ضبّة الاسدي، حيث قال أرباب السِّير أن ضبّة كان أميراً لمدينة عين التمر، أغار على كربلاء ونهبها وحمل أهلها أسارى الى قلعة عين التمر، فهجم عضد الدولة بجيشه على عين التمر وحاصر قلعتها مدة من الزمن، فلم يشعر ضبّة إلاّ والعسكر محاصرٌ قلعته فلم يفكّر إلا بالفرار والنجاة، فألقى بنفسه وجواده من أعلى سور القلعة، فحطم جواده ونجا بنفسه وولّى هارباً، فاستولى عضد الدولة على القلعة المذكورة وأخذ أصحاب ضبّة أسارى الى كربلاء، وأرجع أهالي كربلاء الموجودين في أسر ضبّة الى مدينتهم(15).
القرن التاسع الهجري:
سنة 858هـ تم تخريب المرقد من قبل علي بن فلاح من أُمراء دولة المشعشعين في الاهواز والحويزة ويلقبه صاحب الضوء اللامع، (الخارجي(الشعشاع)) ويدعوه غيره بالمولى علي، وولي الأمر، في أواخر أيام أبيه، حيث حمل الناس على الاعتقاد بأن روح الإمام علي(عليه السلام) قد حلّت فيه!!! ثم ادّعى الألوهية، وفي ذلك العام المذكور دخل الروضة الحسينية المقدسة بفرسه وأمر بكسر الصندوق الموضوع على القبر وجعل الروضة مطبخاً لطهي طعام جنوده!!! وأعمل في أهلها السيف ونهب أموالها كما سلب كل ما كان في الروضتين المطهرتين من التحف الثمينة النادرة، وكان قبلها عمل في النجف الأشرف ما عمله في كربلاء المقدسة، وبعد أن استولى عليهما ولّى هارباً الى البصرة بعد علومه بقدوم جيشٍ عرمرمٍ لمقاتلته بقيادة (بير بوداق)، ثم خرج هارباً من البصرة الى إيران وفيها أصابه سهمٌ من بعض الأتراك ومات سنة 861هـ.
المصدر : شبکة الکفیل العالمیة