الشيخ جعفر السبحاني
انّ الاختبار والامتحان الإلهي يمثّل سنّة عامة لا تختص بفرد دون فرد أو جماعة دون أُخرى، بل يخضع لها الجميع حسب إمكاناتهم وقابلياتهم، فكلّ يتعرض لذلك الامتحان الإلهي ويدخل في بوتقة ذلك الاختبار،
ولقد صرّح القرآن الكريم بشمولية الاختبار وعمومية الامتحان الإلهي بقوله سبحانه:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُوَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَريبٌ ) .
من الواضح أنّ الاختبار إنّما يجري لغرض تحصيل العلم وكشف الحقائق المجهولة، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار انّ اللّه عالم بسرّ الإنسان وعلانيته، ومطّلع على ماضيه ومستقبله، فحينئذ يطرح التساؤل التالي: ما الحاجة إذاً إلى هذا الامتحان وذلك الاختبار وما هي فلسفت
الجواب: انّ الاختبار والامتحان الإلهي يمثّل سنّة عامة لا تختص بفرد دون فرد أو جماعة دون أُخرى، بل يخضع لها الجميع حسب إمكاناتهم وقابلياتهم، فكلّ يتعرض لذلك الامتحان الإلهي ويدخل في بوتقة ذلك الاختبار، ولقد صرّح القرآن الكريم بشمولية الاختبار وعمومية الامتحان الإلهي بقوله سبحانه:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُوَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَريبٌ ) .( [1])
وبالطبع أنّ جملة (مَتى نَصْرُ اللّه ) ليست من قبيل الاستفهام الاعتراضي، بل هي نوع دعاء وطلب للمدد والعون الإلهي.
ولكن المسألة المهمة هنا هي معرفة الهدف من الامتحان والاختبار وفلسفة ذلك.لا شكّ أنّ للابتلاء الإلهي أهدافاً وغايات متعدّدة، فمن هذه الأهداف تفجير القدرات والطاقات الإنسانية الكامنة، وكذلك من خلال هذا الطريق يتسنّى للأفراد الاقتراب من الكمال المطلوب، فإذا لم يتعرّض الإنسان للاختبار والامتحان والابتلاء تبقى كمالاته وقدراته كالكنز الدفين في أعماق التربة لا يعلم منها شيء.
إنّ بيان وتوضيح هذه الفكرة ـ التي مفادها أنّ الامتحان والاختبار بالنسبة إلى المجتمعات البشرية يعدّ عامل تكامل وسلّماً للرقي والسمو الإنساني ـ يحتاج إلى ذكر عدّة نقاط، هي:
1. تنمية الطاقات والاستعدادات الكامنة
إنّ الإنسان وبسبب عدم البلوغ العلمي والنضج الفكري يضطر لرفع أي إبهام يواجهه وأي معضلة تعتريه، إلى أن يطرق ويلج باب الاختبار، وبالطبع أنّ مثل هذا التصوّر يستحيل على اللّه سبحانه وتعالى العالم بما كان وسيكون، ولا يعتريه النقص أو الجهل بحال من الأحوال، ولكن ذلك لا يمنع من أن تكون للاختبار والامتحان الإلهي غاية وهدف يمكن أن نطلق عليها اسم تفجير الطاقات وتفعيل القوى والاستعدادات الكامنة وإخراجها إلى حيّز الفعلية أو تربية وتنمية تلك الاستعدادات، وذلك لأنّ الطاقات البشرية حالها حال جميع الأُمور الأُخرى لا يمكن أن تنتقل من مرحلة القوة إلى الفعل من دون الاستعانة بوسائل وأسباب خاصة، والوسيلة التي تستطيع أن تظهر كلّ تلك اللياقات إلى
حيّز الفعلية هي عملية الاختبار والامتحان.
فالكلّ منّا يعلم أنّ الفلزات إنّما تظهر استعداداتها ولياقاتها وقدرتها على الدوام والاستمرار حينما توضع في أفران الاختبار وتسلط عليها نيران الامتحان.
إنّ إحدى وسائل الامتحان والاختبار الإلهي هي تلك المصاعب التي تواجه الإنسان والتقتير في الرزق وفي مستلزمات الحياة الضرورية، ولذلك نرى الإنسان يتساءل منذ اللحظات الأُولى لوعيه للحياة ولبدء عمله وحركته على وجه البسيطة ما الهدف من كلّ هذه المصاعب وهذا التقتير في الرزق، وبتعبير القرآن الكريم لماذا هذه (البأساء والضرّاء ) ؟
ولكن بمجرد أن يمعن الإنسان التفكير وينظر بدقة إلى المثال الذي سقناه سابقاً(المعادن في كير الحداد) يدرك جيداً أنّ تلك المصاعب التي يتعرض لها وتواجهه في الحياة هي التي تبني شخصيته وتفجّر طاقاته الكامنة وتحدّد له استقامته وثباته في مسيره، كمثل الشجرة التي تنمو في قلب الصحراء وفوق الرمال القاحلة وأمام الرياح الملتهبة فإنّه وبلا أدنى شكّ أنّ مثل هذه الشجرة ستقاوم كلّ تقلّبات الأحوال وتصمد أمام تقلّبات الظروف مهما اشتدت وصعبت أي أنّها تمتلك حينئذ صفة خاصة هي صفة المقاومة والثبات، وهذا بخلاف الشجرة التي تنمو في ظلّ ظروف ناعمة وفي جوّ طبيعي وأرض نديّة وتربة طيّبة فأنّها وبلا شكّ لا تمتلك القدرة على مواجهة تقلّبات الحياة من الجفاف أو الحرارة أو العواصف، أو ما شاكل ذلك، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ألا وإنّ الشجرة البرية( [2]) أصلب عوداً، والرواتع الخضرة ( [3]) أرق جلوداً،
والنابتات العذية( [4]) أقوى وقوداً وأبطأ خموداً». ( [5])
إنّ الإنسان الذي يخضع للاختبار ويبتلى بأشدّ المصائب، يتعلم كيف يشق طريق الحياة ويطوي جادتها بنحو تسهل لديه مصاعب الحياة وتهون عليه شدائدها وتصبح أمراً طبيعياً حيث إنّه يعمل فكره وعقله ويستفيد من طاقاته ويفجر كمالاته المودعة فيه ويفعّلها لتخليص نفسه ونجاتها.
وبالطبع لا يمكن أن ندّعي أنّ الامتحان والاختبار مثمر ومفيد لجميع الأفراد، وأنّ الجميع يخرجون من بوتقة الاختبار ويجتازون مراحله بنجاح وموفقية، بل الذي ندّعيه هو أنّه في حالة توفر الأرضية المناسبة يكون الامتحان سبباً لارتقاء الإنسان في سلّم الكمال وبروز الخصائص النفسية الكامنة في أعماقه، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف في قوله تعالى:
(…وَلِيَبْتَلِي اللّهُ ما في صُدُورِكُم و لِيُمَحِّصَ ما في قُلوبكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .( [6])
إنّ قوله تعالى: (وَ اللّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُور ) يشير إلى أنّ هدف اللّه تعالى من الاختبار ليس هو تشخيص الواقعيات، بل الهدف والغاية هو التربية وتفجير وإظهار الطاقات والكفاءات الكامنة في مركز وجود الإنسان، ولقد أطلق العرب في لغتهم لفظة «التمحيص» على ذلك المعنى، ومن يراجع كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وحكمه يجده قد أشار إلى ضرورة ولابدّية الاختبار وفلسفته، وانّه لا ينبغي أن يطلب الإنسان من ربّه عدم الامتحان والابتلاء، بل
الذي ينبغي هو أن يطلب منه تعالى أن لا يبتليه بأمر يعجز عن القيام به أو يفشل فيه، ثمّ يوضح لنا (عليه السلام) الهدف من الاختبار وهو إظهار وإبراز الصفات والخصال الحسنة أو السيئة التي تمنح الإنسان شخصيته حيث يقول (عليه السلام) : «لا يقولن أحدكم: «اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة»، لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فانّ اللّه سبحانه وتعالى يقول: (وَاعْلَمُوا إِنّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة ) ، ومعنى ذلك إنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب، لأنّ بعضهم يُحب الذكور ويكره الإناث، وبعضهم يحب تثمير المال، ويكره انثلام الحال».( [7])
ولك أن تقول: إنّ الابتلاء الإلهي دوره كدور صاحب البستان، فإنّ الفلاح عندما يضع البذرة ـ ذات الاستعداد والقدرة ـ تحت التراب، فإنّ تلك البذرة ومن خلال الاستفادة من الإمكانات والمواهب الطبيعية تأخذ طريقها إلى النمو والرشد وانّها في طيّها لهذا الطريق الشائك تقابل كمّاً هائلاً من المشاكل والصعوبات التي تعترض طريقها من الأعاصير الشديدة والبرودة القاتلة والحرارة المحرقة، ولذلك ينبغي عليها أن تقاوم كلّ تلك الصعوبات وتجتاز كلّ تلك العقبات، لكي تبرز استعداداتها وتفجر قدراتها الكامنة فيها فتتحول إلى غصن جميل وثمرة يانعة شهية ولذيذة. فإذا لم تتعرض تلك البذرة إلى كلّ تلك الشدائد ولم تمر في بوتقة الاختبار فمن المستحيل أن تبرز كمالها وتظهر استعداداتها الكامنة فيها.
2. الابتلاء معيار الثواب والعقاب
لا شكّ أنّ مجرّد وجود الصفات والخصال الحسنة أو السيئة في النفس الإنسانية لا يُعد معياراً للثواب أو العقاب، فإنّه ما لم تظهر تلك الصفات يستحيل معاقبة الإنسان بِصِرْف وجود تلك الصفة فيه أو إثابته كذلك، وانّ تلك الصفات الكامنة لا يمكن أن تظهر ما لم تخضع لبوتقة الاختبار والابتلاء والتمحيص، وهذا هدف آخر من الأهداف المتوخّاة من الابتلاء، ولقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى تلك الحقيقة بقوله: «وإن كان سبحانَهُ أعلمُ بِهِم مِنْ أنفسهم و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقّ الثّواب و العقاب».( [8])
3. تمييز الصالحين من الطالحين
إنّ الهدف الثالث من أهداف الابتلاء والاختبارالإلهي هو تمييز الصالح من الطالح، وذلك لأنّه في المجتمع الإسلامي الكلّ يدّعي لنفسه السبق ويرى نفسه في عداد الثوار وزمرة المجاهدين والمؤمنين، ويدافع عن نفسه ويرى لها تلك الحسنة وهذه الصفة الحميدة، في الوقت الذي يوجد فيهم المنافقون والمؤمنون والصالحون والطالحون بل فيهم من يكيد للإسلام ويتربّص به الدوائر. ومنهم من يدافع عنه بكلّ ما أُوتي من قوة، فإنّ من الطبيعي في مثل تلك الأجواء والظروف تكون الطريقة المثلى والأُسلوب الأفضل للتمييز بين الأصناف الصالحة والطالحة والمؤمن والمنافق هو أن يتعرض الجميع للابتلاء والامتحان الإلهي. وإلاّ يكون الجميع في مرتبة واحدة وصف واحد ولا يمكن
تمييز بعضهم عن البعض الآخر إذا عاش الجميع في رخاء، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك المعنى بقوله:
(ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبيثَ مِنَ الطَّـيِّبِ … ) .( [9])
وفي آية أُخرى يقول سبحانه:
(ليَميزَ اللّهُ الخَبيثَ مِنَ الطَّـيِّبِ وَيَجْعَل الخَبيثَ بعضَهُ عَلى بَعْض فَيرْكُمَهُ جَميعاً فيَجْعَلُهُ في جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ ) ( [10]) . ( [11])
________________________________
[1] . البقرة: 214.
[2] . التي تنبت في البرّ الذي لا ماء فيه.
[3] . الأشجار والأعشاب الغضة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.
[4] . الزرع الذي لا يسقيه إلاّ ماء المطر.
[5] . نهج البلاغة، ص 418، قسم الرسائل برقم 45 من كتاب له إلى عثمان بن حنيف تحقيق صبحي الصالح.
[6] . آل عمران: 154.
[7] . نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 93.
[8] . المصدر نفسه.
[9] . آل عمران: 179.
[10] . الأنفال: 37.
[11] . منشور جاويد:1/261ـ 269.