فى ذكرى وعد بلفور بإقامة وطن یهودى فى فلسطین یستحسن، بدلا من البكاء على الأطلال، محاولة استخراج العِبر وتعلّم الدروس. لم تقدم بریطانیا وعدا للیهود بمنحهم فلسطین على طبق من فضة إكراما لعیونهم. ولكنها فعلت ذلك لأسباب تتعلق بمصالحها الإستراتیجیة أولا فى ضوء متغیرات میزان القوى العالمى فى ذلك الوقت.
فى عام 1916 كادت ألمانیا أن تسجل انتصارا ساحقا على الدول الأوروبیة كافة. فالجیش الروسى بدأ ینسحب من المعركة مخلفا وراءه عشرات الألوف من القتلى. وكان الفرنسیون قد استسلموا نهائیا بعد أن فقدوا فى معركتى «میوز» و«صم» أكثر من 700 ألف قتیل. أما بریطانیا فقد فقدت معظم أسطولها البحرى، وانعزلت عن العالم ولم یبق أمامها سوى أحد أمرین، إما قبول شروط ألمانیا لوقف القتال أو تغییر المعادلة بشكل جذرى عن طریق زجّ الولایات المتحدة الأمریكیة فى الحرب. لم تكن شروط ألمانیا المنتصرة مقبولة فى لندن. ولم یكن زجّ الولایات المتحدة فى الحرب أمرا فى متناول الید البریطانیة. ولم یبق فى بریطانیا من المؤن ما یكفى حاجة الشعب من المواد الغذائیة أكثر من أسابیع قلیلة.
خلال هذه الفترة الحاسمة قدم یهودى إیرانى یدعى جیمس مالكوم عرضا باسم المنظمة الصهیونیة إلى مارك سایكس أحد نواب وزیر الحربیة البریطانى. حمل العرض تواقیع حاییم وایزمن الصهیونى البولونى، وناحوم سوكولوف الصهیونى الروسى، وصموئیل لاندمان الصهیونى البریطانى، بالإضافة إلى توقیع جیمس مالكوم نفسه. وبموجب هذا العرض تعهدت المنظمة الصهیونیة العالمیة بحمل الولایات المتحدة الأمریكیة على الدخول فى الحرب ضد ألمانیا، مقابل الحصول على وعد من بریطانیا بإنشاء وطن قومى یهودى فى فلسطین.
فى مایو من عام 1916 قام وزیر الخارجیة جیمس بلفور بزیارة رسمیة إلى الولایات المتحدة و(كندا)، لیستطلع مدى قدرة اللوبى الصهیونى على حمل الإدارة الأمریكیة على الاشتراك فى الحرب. هناك فوجئ بلفور بقدرة المفاتیح الیهودیة على فتح أبواب البیت الأبیض والكونجرس أمامه. وتعرف لأول مرة على فاعلیة الإعلام الذى تسیطر علیه الحركة الصهیونیة ومدى تأثیره فى عملیة صناعة القرار الأمریكى.
عاد بلفور من زیارته مطمئنا إلى أن المنظمة الصهیونیة قادرة على الالتزام بما تعهدت به. وبناء على ذلك وافق مجلس الدفاع البریطانى على العرض. وفى 16 أبریل 1917، أعلن الرئیس الأمریكى ویلسون دخول أمریكا الحرب بحجة أن ألمانیا أغرقت سفینة شحن أمریكیة فى بحر المانش تدعى «ساسكس».. ولكن بعد انتهاء الحرب تبین أن قصة الباخرة كانت مختلقة.
****
قلب اشتراك أمریكا بالحرب الوضع فى أوروبا رأسا على عقب.. فانهزمت ألمانیا بعد انتصار.. وأصدر بلفور وعده المشئوم.
والسؤال الآن هو: كیف أقنعت المنظمة الصهیونیة الرئیس الأمریكى بدخول حرب لا علاقة لبلاده بأى شأن من شئونها؟.. الجواب ببساطة هو التالى: فى عام 1912 خاضت الولایات المتحدة الأمریكیة انتخابات رئاسة الجمهوریة. وكان وودرو ولسون مرشح الحزب الجمهورى ضعیفا جدا، لدرجة انه كان فاقدا كل أمل بالنجاح، وكان الحزب الدیمقراطى مسیطرا على الوضع سیطرة تامة. هنا تدخلت المنظمة الصهیونیة، وتعهدت لولسون بتأمین فوزه إذا ما تعهد هو بدوره بتأیید مطالبها، وتمت الصفقة. وبموجبها استطاع الصناعى الصهیونى برنارد باروك أن یشق الحزب الدیمقراطى إلى حزبین، شعار أحدهما الوعل أو الثور، وشعار الثانى الحمار.. وبذلك فقد الدیمقراطیون بانقسامهم سیطرتهم على الموقف، وفاز ولسون بتفوق.
وفى عام 1948، جدد التاریخ نفسه. إذ بعد سبع دقائق فقط من إعلان الیهود إقامة دولة فى فلسطین سارع ترومان إلى الاعتراف بها، وقبض ثمن ذلك أصوات الیهود ونفوذهم فى الانتخابات التى جرت فى العام نفسه.
أما على الضفة الأخرى من المحیط الأطلسى، فى بریطانیا، فقد كان بلفور من المؤمنین بأن التاریخ لیس سوى أداة لتنفیذ الهدف الإلهى. وأن الإنسان مكلف بالعمل على تنفیذ هذا الهدف وأن أول ما یتطلبه منه ذلك، الإیمان بالهدف الإلهى، ثم بأن على الإنسان المؤمن أن یعمل على تحقیقه أیا كانت الصعوبات.
****
آمن بلفور كما أوضح فى كتابه العقیدة والإنسانیة «Theism and Humanity» أن الله أغدق على الیهود وعدا بالعودة إلى أرض المیعاد، وأن هذه العودة هى شرط مسبق للعودة الثانیة للمسیح. وأن هذه العودة الثانیة تحمل معها خلاص الإنسانیة من الشرور والمحن.
اكتسب بلفور هذه الثقافة من عائلته، وخصوصا من والدته التى تركت فى شخصیته الدینیة بصمات واضحة من إیمانها بالعقیدة البروتستنتیة المرتبطة أساسا بالعهد القدیم وما فیه من نبوءات توراتیة.
ولذلك فإن بلفور عندما صاغ الوعد بمنح الیهود وطنا فى فلسطین، كان یعتقد أنه بذلك یحقق إرادة الله، وأنه یوفر الشروط المسبقة للعودة الثانیة للمسیح.. وبالتالى، فإنه من خلال مساعدة الیهود على العودة فإنه یؤدى وظیفة العامل على تحقیق هدف إلهى مقدس.
مع ذلك، ما كان لبلفور أن یجعل من الوعد أساسا مركزیا فى السیاسة البریطانیة لو لم یشاركه فى ذلك شخص آخر هو لوید جورج رئیس الحكومة فى ذلك الوقت.
فقد ذكر لوید جورج فى كتابین له هما «حقیقة معاهدات السلام» و«ذكریات الحرب» أن حاییم وایزمان الكیمائى الذى قدم خدماته العلمیة لبریطانیا فى الحرب العالمیة الأولى هو الذى فتح له عینیه على الصهیونیة، حتى أصبح أكثر صهیونیة من وایزمان نفسه.
وهكذا عندما تشكلت الحكومة البریطانیة من لوید جورج رئیسا ومن آرثر بلفور وزیرا للخارجیة، بدا وكأن كل شىء بات مؤهلا لتمریر بیان الوعد.
****
فى عام 1952 نشرت وزارة الخارجیة البریطانیة وثائق سرّیة عن فترة 1939 ــ 1919، بما فیها تلك التى تتعلق بتوطین الیهود فى فلسطین. ویتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، فى الصفحة السابعة نقلا عن مذكرة وضعها آرثر بلفور، ما یأتى:
«لیس فى نیّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطین الحالیین، مع أن اللجنة الأمریكیة تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهیونیة. وسواء أكانت الصهیونیة على حق أم على باطل، جیدة أم سیئة، فإنها متأصلة الجذور فى التقالید القدیمة العهد والحاجات الحالیة وآمال المستقبل، وهى ذات أهمیة تفوق بكثیر رغبات ومیول السبعمائة ألف عربى الذین یسكنون الآن هذه الأرض القدیمة».
أما بالنسبة للاستیطان الیهودى فى فلسطین فقد أوصى فى الجزء الأخیر من هذه المذكرة بما یلى:
«إذا كان للصهیونیة أن تؤثر على المشكلة الیهودیة فى العالم فینبغى أن تكون فلسطین متاحة لأكبر عدد من المهاجرین الیهود.. ولذا فإن من المرغوب فیه أن تكون لها السیادة على القوة المائیة التى تخصّها بشكل طبیعى سواء أكان ذلك عن طریق توسیع حدودها شمالا (أى باتجاه لبنان) أم عن طریق عقد معاهدة مع سوریة الواقعة تحت الانتداب (الفرنسى) والتى لا تعتبر المیاه المتدفقة من «الهامون» جنوبا ذات قیمة بالنسبة لها. وللسبب ذاته یجب أن تمتد فلسطین لتشمل الأراضى الواقعة شرقى نهر الأردن».
****
لم یكن العامل الدینى السبب الوحید وراء إصدار الوعد. كانت هناك مصالح ذات بعد استراتیجى. وقد توافق العمل على خدمة هذه المصالح ورعایتها مع الإیمان الدینى بالصهیونیة المسیحیة مما أدى إلى الالتزام بالوعد وبتنفیذه.
ففى الأساس كانت بریطانیا قلقة من جراء هجرة یهود روسیا وأوروبا الشرقیة الذین كانوا یتعرضون للاضطهاد. وفى عام 1902 تشكلت «اللجنة الملكیة لهجرة الغرباء». استدعى هرتزل إلى لندن للإدلاء بشهادته أمام اللجنة. فقدم مطالعة قال فیها:
«لا شىء یحلّ المشكلة التى دعیت اللجنة لبحثها وتقدیم الرأى بشأنها سوى تحویل تیار الهجرة الذى سیستمر بقوة متزایدة من أوروبا الشرقیة. إن یهود أوروبا الشرقیة لا یستطیعون أن یبقوا حیث هم، فأین یذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا ــ أى فى بریطانیا ــ غیر مرغوب فیه، فلابد من إیجاد مكان آخر یهاجرون إلیه دون أن تثیر هجرتهم المشكلات التى تواجههم هنا. لن تبرز هذه المشكلات إذا وجد وطن لهم یتم الاعتراف به قانونیا وطنا یهودیا».
اقترح تشرمبرلین ــ وكان رئیسا للحكومة ــ منطقة العریش لتكون وطنا للیهود. ولكن لجنة الخبراء الصهیونیین رفضت الاقتراح لأن العریش تفتقر إلى المیاه، ثم لأن توطین الیهود فیها یثیر مشكلات لبریطانیا مع مصر. ثم اقترحت الحكومة البریطانیة برئاسة اللورد آرثر بلفور هذه المرة، تقدیم یوغندا لتكون الوطن الموعود. ولكن المؤتمر الصهیونى السادس لم یقبل الاقتراح لافتقار یوغندا إلى عنصر الجاذبیة اللازم لاستقطاب الیهود لحثّهم على الهجرة إلیها.
فى ذلك الوقت كان همّ الحكومة البریطانیة وقف تدفق الیهود إلیها من أوروبا الشرقیة. ولذلك فقد قدمت مشروع قانون إلى مجلس العموم لوقف الهجرة فى عام 1904 ثم اضطرت إلى سحبه تحت ضغط المعارضة. وأعادت تقدیمه ثانیة فى عام 1905 وأصبح قانونا فى العام التالى.
هنا كان لابدّ بعد تشریع وقف الهجرة من تأمین ملجأ بدیل، فكان البدیل هو فلسطین.
كان بإمكان بریطانیا التدخل لمنع تهجیر الیهود من أوروبا الشرقیة، إلا أنها وجدت أن لها مصلحة فى توظیف هذه العملیة فى برنامج توسعها فى الشرق الأوسط، فحوّلت قوافل المهاجرین إلى فلسطین بعد أن منحتهم الوعد بالوطن وبعد أن وفرت لهم الحمایة والمساعدة اللازمتین.
وهكذا صدر الوعد فى الثانى من نوفمبر 1917 لیعطى من لا یملك إلى من لا یستحق.
محمد السماک