الدكتور جويده غانم
لم يكن بالإمكان أن تظل الإنسانية الحقة مشوهة في صميمها القدسي، أو في صميمها التاريخي، أو في صميمها الثقافي، ولكن حتمية التنازلات التي توجهها تلك الصراعات العنفوية، وارتباطها الدائم باعدوان والتدمير والخوف والتستر ضمن شعارات موهومة كان الغرض منها هو بناء وتصميم خارطة ثقافوية ومركزية جيوبوليتيكية يتحدد بموجبها إلغاء الآخر أو إخضاعه لفلسفات وسياسات هذا المركز الذي سعی دوما في تملك جميع العوامل وذلك بخرق قوانين وتعطيل الإرادات وتكوين صور نمطية وتعكس ما يراد تحقيقه،
الدكتور جويده غانم
مقدمه
لم يكن بالإمكان أن تظل الإنسانية الحقة مشوهة في صميمها القدسي، أو في صميمها التاريخي، أو في صميمها الثقافي، ولكن حتمية التنازلات التي توجهها تلك الصراعات العنفوية، وارتباطها الدائم باعدوان والتدمير والخوف والتستر ضمن شعارات موهومة كان الغرض منها هو بناء وتصميم خارطة ثقافوية ومركزية جيوبوليتيكية يتحدد بموجبها إلغاء الآخر أو إخضاعه لفلسفات وسياسات هذا المركز الذي سعی دوما في تملك جميع العوامل وذلك بخرق قوانين وتعطيل الإرادات وتكوين صور نمطية وتعكس ما يراد تحقيقه، في مبدأ التحقق الذي يكيفه عبر مصلحته البراغماتية مستندا إلی دواعي التاريخ وهرمنيوطيقاه الخاصة المشحونة بأساطير غيبية دافعة إلی تحقيق الحلم بامتلاك كل العالم، وطبعا كل العالم مهما تعددت أعراقه وألوانه.
ليس الغرض من كل هذا هو تجميع المسكونية في وحدة من السلام والأمان والسعادة والتعايش وإنما الغرض التجميع هو سحقها وإلغائها من خارطة الإنسانية عبر منافذ مختلفة من وسائل الإعلام إلی كتابات المنظرين والمفكرين، إلی حقول الثقافة وتطبيقات رجال الساسة، وتكتيكات جنرالات الجيش والقادة.
هنا يحتوي يحضر التاريخ المضاد تاريخ المقاومة والمنازلة، تاريخ خلاص شعوب العالم القديم التي حققت مبدأ التمركز في عهدها الأول، الغرض من هذا الاستحضار والاسترجاع هو إعادة التجربة بكل حذافيرها ولكن بشرط مراعاة عوامل العصر وتطوراته قصد وجدان الخلاص في رؤيته الكونية التامة والثاقبة التي تجنح إلی وضع محددات تحسم الجدل في منح كل الإنسانية إمكانات التقدم والديمقراطية والحرية، ومن هذا المنطلق يطرح التساؤل: ما طبيعة المحددات الخلاصية في الرؤية الكونية الخاصة للثقافة المهدوية؟
إنسانية الصراع حول مبدأ التحكم
إن الإنسانية اليوم قد ظلت سواء السبيل وقيمتها أن تصحح مسارات توجهها عبر مختلف النظريات التي استجلبتها من ماضيها القدسي كي تعتزم في هذه اللحظات الآنية إصطباغ نموذج جديد في المواجهة والتصدي لكل الأصنام السلطاوية المصدرة عبر سياسات وفلسفات قاتلة لاغية لوجودها، هذا الصراع يجعل مفهوم الإنسانية ينشطر إلی شطرين:
إنسانية انتهازية إرهابية لاغية لوجود الآخرين وبالتالي فهي انتهازية وحشية غضة وفضة. إنسانية إنسانية تبحث عن الصمود وتأكيد الذات والبحث في هذا العالم عن مكانتها ومحور كينونته.
وإذا أردنا البحث عن مستقبل جمع شتات العالم علينا أن نبحث عن ذلك المعنی السام للوجود والزمان والإنسان وأن نرتفع بالحياة إلی أعلی درجات سموها، لأن إرادة القوة والثبات والتحول ستجمع فيما بعد ويستحضر خطابا خاصا يكمن في استقطاب بمسارات تاريخية ونفسية مرتبطة أشد الارتباط بمبدأ التحقق الذي يحمل فكرا واعيا يراد منه أن يتمخض بنتائج أكثر واقعية يدرجها ضمن مشروع خاص، حيث يحول ماضيه القدسي إلی إنيات حاضرة، ومستقبلا ينطوي ضمن دلالات تقابلية بين الآنا والغير، اللذان يدخلان في علاقة تضايف لإعادة لحظات جدلية تتركب علی مقاومة الذات لتجارب وصراعات مختلفة بحيث تستفيد منه فيما بعد لتصدير فلسفة خاصة جديدة في المواجهة والمقاومة.
إن الاعتبارات السابقة هي في حد ذاتها واقع أمر يؤكد لنا دائما أن مغادرة الحاضر أو الرجوع إلی الماضي يستدعي أن نأخذه في حد ذاته لأن العمل الماضوي يتحدد بضوء الأسئلة التي توجه إليه من الماضي نفسه كما أن هاته الأسئلة، ستنتظم في طريقة خاصة، تسترشد بها أنفسنا عبر فهمنا لهذا المستقبل وبالتالي يجب الإجابة عن السؤال الذي يكسف عن مستوی التجربة الإنسانية الذي لا يمكنها سوی تأييد وتأكيد الجملة التي تصفها باعتبارها سؤالا يقتضي منها الاستدعاء والطلبية، كما أنه يكشف عن شيء يعطی لنفسه التمتع بحركية الإعطاء والتقديمية في الحدوث الذي يبرهن أن هذه البشرية قادرة علی إحداث وحدة مجتمعية تنضوي ضمن محددات خاصة لنوعية الخلاص الذي ستتبناه فيما بعد، ويمهد بدوره إلی فلسفة تنجيم لمستقبل مشرق يتعين بالاستقلالية عن التبعية كما يتعين بمعايير العلم والتكنولوجيا، لأن القوة معرفة، والمعرفة قوة وسلطة وهاته المعرفة القوة، والسلطة، ستخضع السياسة المستقبلية إلی لغة سيادة خاصة، هي لغة السياسة الحديثة التي تلتزم بجملتها علی أساليب في التوجيه والإقرار بمطالب الإصلاح والقضاء علی الإرهاب المفتعل مهما كان نوعه وشكله.
في ضوء هذا الأمر، فإن عالمية الأفكار الخاصة والتي تريد الأطراف تحقيقها لإعادة مجدها الإنساني والتاريخي والمركزي ينبني علی تفتيت خطط القوی العظمی، لكي تصبح دول الأطراف عظمی في الآن ذاته وهذا لا يتأثر إلا بالاستفادة من تجارب ودروس التاريخي أولا هذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية اليوم في فرض سيطرتها علی العالم وذلك وفقا لنظريات خاصة نظر كل من ألفريد ماهان، وهالفررد ماكيندر، ونيكولاس سبيكمان، ولكن ذكاءها اليوم جعلها تتخطی الخطأ التي وقعت فيه كل من بريطانيا باعتمادها علی نظرية مهان التي تتعلق بدور القوی البحرية في السيطرة كما تجاوزت الخطأ الذي وقعت فيه النازية الهتليرية حينما اعتمدت علی نظرية ماكيندر عن قلب العالم ومحوره، ولكن الطابع الانتقائي في الفلسفة الأمريكية جعلها تأخذ بطابع الانتفاء في السياسة والسيطرة أيضا، فأخذت من نظرية ماهان ونظرية ماكيندر ونظرية سبيكان وهذا ما نلاحظه في محاولتها المتكررة لبسط نفوذها كاملا علی الخليج الفارسي بعد ما استحوذ مشرعها البحري علی كامل الخليج الفارسي ومضايقه، متبعة نهج الاستراتيجية المتحركة، بحيث تتحرك في كل مرة بصفة مختلفة، واستفادت من نظرية سبيكمان في إعطائها أهمية قسوة لمنطقة الرملاند التي تشتمل علی مناطق شبه الجزيرة وإيران والعراق، وأفغانستان والهند وجنوب شرق آسيا والصين وكوريا، وشرقي سيبيريا وحجتها في ذلك أن هاته المناطق كانت أكبر دول العالم، وقوی العالم في فترات زمنية ماضية كان لها النجاح أن تطوق العالم بإديولوجيتها وسيطرتها حيث وصلت إلی تولوز علی الحدود الفرنسية غربا، التي كانت تحت لواء الفتوحات الإسلامية، والفتوحات العثمانية التي وصلت إلی شرق ووسط أوروبا، هذا ما دفع بسبيكمان إلی ضرورة منع هذه التجارب من التكرار داخل المناطق المذكورة أنفا كي لا تقوم أي قوة وأي سيطرة في مراكز العالم القديم ومن هاته الملاحظة ندخل في الموضوع من بابه الواسع علی أن إشارة التخطيط للمستقبل يجب أن تفهم علی أساس دقة التحكم في مصير شعب من الشعوب وهذا لا يتأتی لدول الأطراف إلا إذا استدعت تاريخ الماضي، لأنه هو الذي يمكنها من إدراك كنه الحاضر وتوجهاته المستقبلية كما لا يتحقق هذا الأمر إلا إذا أخضع إلی مقاييس خاصة تتحدد وفقا لمبادئ لفنون القيادة والتوجيه التي يستجليها علم النفس الاجتماعي لينقل مدارات توجه التاريخ والزمن ومختلف التشكيلات الثقافية من القوة إلی الفعل.
هرمينيوطيقا التاريخ والإنسان في مدار الفعل الكوني
ينبني هذا العنوان علی نظريتين حددتها تلك المقاربات النفسية والثقافية والإنسانية لا نجد صداها إلا في تحليل عمقها من زوال الزوايا البينية وهي:
النظرية الوظيفية: (Functional Theory) التي تهتم بدراسة خصائص الجماعة وأهم المواقف التي تحتويها فلسفة القيادة من حيث تحريك الأهداف ودفع الجماعات نحو تحقيقها.
النظرية التفاعلية: (Interational Theory) وهي التي تعتمد علی مبدأ التكامل في متغيرات القيادة كأن تراعي تنفيذ برامجها من خلال شخصية القائد والأتباع والجماعة من حيث بناء العلاقات الفردية وتنويعهات واختلافها، ومراعاة لكل المواقف، وما يجدر من تغيرات مجتمعية ومحلية وعالمية ومدی التأثر والتأثير التي تقدمه هاته النظرية لتنفيذ برامجها وخطط الجماعة.
هذا ما يتوجب إعادة قراءة في الذاكرة الجامعية لتاريخ الأمم عبر توظيف كل قنوات الاتصال ومنافذ الثقافة لدی جميع شرائح المجتمع بكل طوائفه الدينية والإثنية، ومن ثم سنكون نحن استدفاع لمنهج ديمقراطي خالص يوقف مصلحة الفرد عند الحد الذي يتفق مع الصالح العام للمجتمع.
لأن الأمر يجرنا إلی الحديث عن اجتناب الخلافات في المجتمع الذي يتعدد فيه الدين واللغة والعنصر البشري إذا ما أريد تحقيق الخلاص بمعناه الاستراتيجي المستقبلي وهذا ما يحفز الدولة الباحثة عن السيادة والمركزية في التقليل من حجم الصراعات الناتجة عن تصادم الأفكار والأطروحات، وأن تأخذ هذا الصراع علی أساس التعدد والاختلاف باعتباره سنة كونية داخل أي مجتمع، لا علی أساس تصادم صراع دموي مسلح انتقاء عنصري (لأن استبعاد الآخر عقائديا ليس مجرد موقف معرفي نظري إنما هو موقف له وظيفته السلطوية، وهي الحفاظ علی وحدانية المرجعية باحتكار المشروعية، النموذج العقائدي يقر للغير بأي مصداقية أو مشروعية لأن من شأن هذا الإقرار زعزعة سلطته العقائدية أو التشكيك بيقينية معتقده وأحقيته الأمر الذي يفقد مبرر دعواه ودفاعه).
وإذا ما طلعنا حركة الإصلاح في أوروبا فإننا نجد الإخفاق الكبير في عدم امتزاج الأجناس فيما بينها وكذلك إذا ما إستقرأنا الحوادث التاريخية تذكرنا بالأعمال الشنيعة للولايات المتحدة في جنوب إفريقيا، وما فعله الجيش الصربي في البوسنة والهرسك ومناطق الجبل الأسود ودول البلقان الإسلامية، وما أحرزته لبنان في الثمانينات من تصدع في بنية مجتمعها لو لم يقضی التدارك لهذا الأمر، ونفس الأمر يستحق الحديث عنه في هذه الورقة عما يجري في إيران اليوم من محاولة تفكيك قهرية لكل أنظمتها وأجهزتها التشريعية والتنفيذية ليس الغرض من هذا هو إعادة مفهوم الديمقراطية لهذا البلد، وإنما هو تفكيك جميع بنياتها واستغلال اختلاف طبقاتها السياسية والدينية لتفتيت شمل هذه الدولة قصد السيطرة علی منطقة حساسة في الخليج الفارس، هذا الأمر سيقود حتما إلی إعاقة وشلل في جميع مؤسسات الدولة كما يعيق الائتلاف الفردي التعددي والامتزاج الديني الطائفي.
إن استفحال هذا التناقض داخل الدولة يجعل البنية الرئيسية لجميع تنظيماتها الإستراتيجية إلی الانهيار، وفلسفة القيادة تقتضي تحقيق الديمقراطية لجميع طبقات المجتمع وكيفية التحكم في زمام الأمور الداخلية لدولة ما، كفيل بتحقيق المركزية والخروج من قوقعة الطرف، ومن ثم بناء شعار الدولة الديمقراطية واستكماله في حضارة وثقافة، لأن طريق التعصب سيؤول إلی انشقاق ما، وتداركا لهذا الأمر، علی الدولة أن توجه إدراكاتها إلی النظر والتمعن لتلك الأديان الحية التي تنبه وتعلم بنيها علی أن ينظروا إلی من يخالفهم لا بعين الاحتقار والمهانة مثلما يشهد واقعنا اليوم في كثير من أرجاء عالمنا الإسلامي بل ينظروا عليه بعين الاحتضار والارتقاء والرفق والمحبة كأعضاء عائلة واحدة، خالقهم واحد وقد تساووا في المصير والمآل.
وتظهر قيمة هذا القول في كون أن الكثير من النظريات الأمبريالية وما بعد الكولونيالية، تتوقف عليها باعتبارها نظريات فلسفية خاصة أولا، وعلی كونه تأثر في التظم الاجتماعية ثانيا، وعلی أساس أنها تمزق الوحدة الوطنية والإقليمية ثالثا، فالبحث لا يتعلق بالجانب النظري فقط وإنما بنتائج مترتبة آنيا ومستقبليا سيكون لها الأثر الأفضل في كثير من شؤون الحياة والعمران المدني والسياسي والاقتصادي، إن المجتمع الفاعل والقيادة الفاعلة هي التي تجنح إلی تحقيق القدوة والقومة الثقافية التي ترتبط في مثل هاته الحالات بفعالية المنتظم السياسي وبنجاح اتخاذ القرار الذي يؤدي إلی تعبئة في الموارد الإنسانية والمادية ومختلف الخطب الإديولوجية، لأن أمر التعبئة يتطلب تعاونا جماهريا واسعا تتحدث فاعليته عبر منافذ وشبكات المقاصد الديمقراطية.
لازلنا لحد الآن نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة ونسينا الواجبات باعتبار الواجب يصدر عن مبدأ القانون، كما أنه يستلزم الانتقال إلی الوعي الخالص في التحقق العملي الذي يكتسي طابعا حسيا يتحول بعد ذلك إلی دافع محقق محكوم بالإنية الماضوية التي تسترجع بدورها تجربة الخلاص من إطارها العقدي إلی قطاعها الاستراتيجي الإقليمي المركزي.
لأن الشعور التاريخي هو النور الذي يوضح تاريخية الإنسان، ويتبدی في كل حياة يراد فيها إدراكه نحو العلو، أي إدراك جيد وحقيقي من خلال المواقف التي أوجد فيها محاولة الخروج عن كل الأنماط المفروضة عليه، إن العلو في ذاته هو ابتغاء تأويليا نحو تحقيق إمكانات وفرصا جديدة تقتضي الوحدة بين التاريخي الماضوي، وبين الغنية الحاضرة والمستقبلية، والغرض من كل هذا هو، تحقيق الصمود والمواجهة مهما كان شكلهما، لأن البحث عن المركزية والرغبة في عودتها ن لا يتأتی إلا بفقه خطاب العودة التاريخي الثقافي والإنساني.
وعلی هذا المنوال فإن الاستعانة بالتاريخ سيضفي علی الواقع صفة التجريد الذهني أكثر فأكثر، والمتأمل في التجارب التاريخية المختلفة يجد هذه الخاصية الشعورية المختلفة حاضرة بكل حذافرها، لكنها تحتاج إلی من يصقلها في الإطار النظري والعملي لتسترشد به الذات في مآزقها.
لقد أحرق طارق ابن زياد السفن وقال لجنوده العدو أمامكم والبحر خلفكم فأين المفر! أي ليس هناك خيار ولا مفر من التقدم نحو ضرب العدو بأسلحته وسياسته، في عالم تعددت فيه الأطماع وتوسعت فيه المكاسب، ولذا يجب علی طارق الحديث التعرف والعودة إلی طارق التاريخ، لأن طارق الحديث ما زال مغتربا لم يستطع أن يمزق الزيف الذي تأطر داخل كينونته واحتبس فيه.
ولعلنا نلاحظ عدم القدرة لخلق أنفسنا من جديد، والحديث يجرنا إلی أن الحقوق تأخذ ولا تعطی لأن الحق ليس هبة أو هدية ولا غنائم تأخذ وتغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، إنه الواجب الخاضع لعدل للوضع الاجتماعي المنبني علی ارتباط قويم في السلوك النفسي والثقافي.
ومن هنا نتساءل ما الأنماط يمكن الكشف عنها في الزواية التاريخية حتی نحقق اللحظة الكنظية إذا أمكن للعقل أن يعقل فلابد أن يفعل؟
هل نكتفي بمقولات المواجهة والتصدي أن نستدعي ترشيدات خاصة نابعة من التكوين الاجتماعي والسياسي المرتبط بالإنسان الحديث والمعاصر المستلب في بقعة جغرافية خاصة، مفضلا عدم الخروج عن قطعان الماعز، لفشله في خلقه لقيم خاصة تفتقد للعناصر العلمية التي تؤهله إلی تجاوز الإرهاصات السلبية؟
إنه يفتقد إلی المخيال المستقبلي الذي يؤهله إلی نظم أمور في إطار زمنية خاصة لا تتعلق بالأوهام بقدر ما تتعلق بمشروع تعبوي خاص، يراع اندراجه في أن يضع حدا لبأسه وبأس العالم، والسعي نحو سعادة كل البشر، وفي هذا الصدد نستذكر نظرية إدغار موران الموسوية بنظرية المركب المللتحم التي كادت أن تغير أن مجری الأبحاث الاجتماعية والفلسفية، حيث ساهمت في ظهور نزعة عقلانية جديدة ارتبطت بتقدم العلوم والمعارف علی مستوی النظريات الفيزيائية والرياضية وانطبع هذا الجديد الفيزيائي والرياضي علی الجديد الاجتماعي والإنساني، والهدف هو دراسة البنية الاجتماعية ليس في تطورها الذهني الفردي الطبقي، وإنما في دراسة دهنه الإدراكي، هذا الأمر يستطيع أن يوجد مفهوم المركب الملتحم الذي سيكون خارطة إدراكية جديدة في التنبؤ والاستمرارية.
وهذه العلاقة تتردد علينا في مجال الأفكار المطبوعة والموضوعة التي ستبين مدی مستوی التقدم والتأخر في الاستعاب والمقاومة وكذلك الانجاز، فالأفكار المطبوعة: قد أثارت عواصف في تاريخ الإنسانية منذ أربعة عشر قرنا، فقلبت المجتمع الجاهلي رأسا علی عقب.
في المجال المادي: ارتسام آثار جديدة ← نتائج اجتماعية جديدة ← موارد قديمة.
في المجال الثقافي: مقاييس كثيرة ← طرق تفكير جديد ← أنظمة جديدة ← مجتمع جدید.
في المجال النفسي والأخلاقي: خلق مراكز جديدة ← سموا ورفعة واستقطاب (مشورة الرسول صلی الله عليه وسلم لسلمان الفارسي حول قضية حفر الخندق).
أما الأفكار الموضوعة: فهي التي بترت جذورها عن الثقافة الأم، الثقافة الأصل حيث لم تتمكن في التعبير عن أي شيء فمصيرها الاضمحلال والموت والفناء في سلبياتها التي أردفتها إلی سكونية جامدة لا تعرف الحركة ولا التغيير.
هذا ما تشهده اليوم أغلب بلدان العالم الإسلامي من اضمحلال وتنفس بالتكفير المنطقي لحل مشكلاتها ومحاربة أعدائها ولو رجعنا إلی التاريخ القديم لوجدنا إسهاماتهم في جميع الفروع المعرفية من فيزياء ورياضيات وفن وجمال وهندسة كان نتيجة الانصهار التام داخل المنظومة الحضارية الخاصة نتيجة لتفوق الأفكار المطبوعة، علی الأفكار الموضوعة.
إن السؤال الذي ينتاب الإنسانية اليوم، وينتاب المجتمع الإسلامي بالخصوص هو كيفية تبادل الأدوار وإعادة إدراكها من جديد قصد قراءة التجارب الماضية وإعادة تأسيس المنهج المستقبلي للاستشراف عی ضوءه وهذا لا يتأتی إلا بمجهودات تتأسس علی عوامل فقه التحضر والشهود الحضاريين، فثمة الخلاص المعنوي والمادي والكوني.
إن واقع الخلاص يشير إلی تدارك وجهة رئيسية كونية خاصة علی مستوی التاريخ علی مستوی الإدراك الإنساني، وهذه الوجهة تتعلق بمرتكزات علم الاستشراف الذي يعلو علی التاريخ وبواسطته يمكن أن نعيد النظر إلی جميع مركبات الثقافة البشرية في جميع تجلياتها، غير أن هاته النقطة غير موجودة لدی الإنسان الثالثي، لكونه ينظر لنفسه ككائن تاريخي متناهي، من زاوية واحدة فقط، ويفهم من زاوية موضوعه الخاص بالزمان والمكان المتواجد فيه فقط، وليس بمقدوره أن يقف فوق نسبية ومطلقية التاريخ ويظفر بمعرفة خاصة عالمية، متقومة علی أسس علمية في المنهج والرؤية، وهذا هو منطلق الخلاص الحقيقي لا الزائف.
هذه القضية تدعنا دوما إلی تكرار السؤال وتعميق طرحه بما يلي:
لماذا هذا التصور الناقص علی مستوی التجربة الذاتية الخصوصية لفلسفة الدور التاريخي؟
ولماذا هذا الإقرار الهزيل في إصدار الأحكام، ونحن ما زلنا علی عتبة بداية الخلاص الكوني؟
الإجابة هو أن المنظومة الغربية تسعی دائما إلی تفعيل ذاكراتها الإستشرافية القديمة والسعي إلی نشر نقاط بث خارج دائراتها المسكونية والمعرفية، ومن ثم تعكس ذلك الصوت أو الصدی في ذهنيات الإنسان فتولد فيه صدی محفوفا بالخوف والفشل يمنعه من إحياء لغة الحماست في حالة ما أريد إيقاظه وفقا للغة السيادة المطلقة علی اللغة الدينية والفنية والأخلاقية، هذا ما دفعه أيضا لتطوير أدواته اللغوية للتشويش علی صحوة الحماس الثوري الذي رافق الدعوة الخمينية قصد تبريد الخمينية في جميع كياناتها.
وخبرة الغرب في هذا المجال مدفوعة إلی تحقيق كونية خاصة به نابغة عن مفهوم جديد لنظام عالمي جديد، الغرض منه هو المزيد من التفكك والانفصام في وحدوية مناطق العالم المنخفض، والتخلص من هاته البنيات هو البحث والتنقيب عن طرق خاصة في الفهم والتأويل يستدعي في ذلك منطق الفلسفية العملية الذي يقوم علی ميزة الاختيار الاحتمالي واختبار أفضله وأقربه إلی مبدأ التحقق وهذا ما أكده إدغار موران علی أن نحلم ونوسع المخيال شريطة أن لا يبتلعنا الحلم وينسينا الهدف الأسمی باعتبار أن التاريخ يتعلق بدراسة الممكن واللا ممكن.
إن الحديث عن هذا الحلم هو الحديث عن التاريخية والعقلانية والادماج بينهما، باعتبارهما سلوكان فكريان لا ينفصلان البتة، لأن العقلانية هي جعل العقل حاضرا في التاريخ الذي ينظمه ويرتبه، وينسقه ويوجهه نحو دائرة الوعي واستكمال التجربة، كما يعمل علی تحريكه في أصعدة النظر والتطبيق الفعلي، كما أن التاريخانية حاضرة في العقل، وتلهمه الدروس والعبر وتجعله من حين لآخر يراجع تصوراته ويفحص مبادئه، ويطور طرق إبداعه وإنتاجه.
وبالعودة إلی الحقل التراثي فإن الاستنجاد به في مثل هذه الظروف واجب، وذلك عبر تطويعه وإحياءه ضمن طوباوية خاصة، لا تعيقنا علی الحركة بل تدفعنا إلی تحقيق المشروع النهضوي الذي لا حظناه في مخيال الكثير من المفكرين والمجددين، وهنا تمكن الرؤية الحداثية للخلاص الذيت يستجمع مختلف الأواصر التي تربط أبناء الوطن الواحد.
الثقافة الخلاصية في الخطاب الوطني
ولأن خطاب التاريخ هو خطاب وطني، والخطاب الوطني هو خطاب إنساني، والخطاب الإنساني هو خطاب خلاصي، فإن هذا الأخير يهدف إلی بناء وحدة الهوية وحمايتها، كما أنه جواب موجه إلی كل الاستفزازات التي تهدف إلی تذويب الشخصية الوطنية ومحو ملامحها، ولذلك فإن مقومات الخلاص التي هي مقومات الثقافة الوطنية ذاتها، تتحرك بمكانيزمات خاصة للدفاع عن عمق تاريخا والتدليل بحضورها الحسي بالرغم من محاولات طمسها وتشويهها.
كذلك تتمثل الثقافة الخلاصية عبر صور جديدة تساهم في تفكيك بنية الوعي اتجاه أنظمة الوصل والفصل المتعلقة بالثقافة السائدة علی مستوی الجهوية الإقليمية الخاضعة لضغط أجنبي، الذي تجدر عبر منافذ كولونيالية إلغاء مفهوم الدولة الحديثة، الدولة الديمقراطية التي تساهم في حماية شعبها باعتباره قضيتها والإنصاف في بث القوانين الذي هو عقلها وإرادتها، والوئام المدني الذي هو صدقها وعافيتها والاضطرابات المدنية التي هي دائها واشتعال الحرب الأهلية موتها وانتحارها.
إن هذا الأمر يفرضه العقد السديد لكن الغريزة العنفوانية تحيزه لطرف ما بحكم أن منطق القوة هو الذي يتسلط، غير أن لهذه القوة محددات ومرجعيات خاصة طبعا للتوجه العقائدي والفلسفي كما أن المعرفة الخالصة والعلم الخالص، وما دخل ضمنه من تقنية ودين وفلسفة ومجمل المحاور الثقافية هو أساس قيام الدولة وتشكلها كما أنها وسائل تعتمد عليها أي أمة في تحقيق خلاصها باعتبارها اساسا للهوية، كما أنها المكون الرئيسي الذي تتخذه من الدستور تشريعاته وأحكامه لأنها ذلك الروح والجوهر الذي يتفاعل مع المحددات الثقافية لتي لا تستطيع بدورها أن تختار جانبا واحدا في تشكيل كينونتها ومن ثم مواجهة الكينونات الأخری، عبر التمايز والاختلاف.
لا غرو في أن تكوين الدولة الحديثة – أي الدولة الديمقراطية – تبحث عن معنی عملي وعلمي يدفعنا إلی استعادة ماض خاص، نسخر له كل المجهودات لبحثه أو دمجه، لإصدار موقف يجعل التاريخ والتراث والإنسان يخاطبنا في كل لحظة وعبر محطات العقل الحر (الذي لا يجزع إذا رأی من الآراء ما يخالف المألوف فله المطلق الحق في أن يخلق من الأفكار الجديدة ما يستطيع، أما العقل المستعبد فهو الذي يری صوابا كل ما له ماض طويل، وكل ما يبدوا اعتقاده سهلا، وكل ما هو نافع، وأخيرا كل ما ضحی من أجله فلا يود أن يتصور أن كل هذه التضحية ذهبت عبثا.
ويستطيع القارئ لهاته المفاهيم والمنذجات أن يستقرأ الماهية الحقيقية للإنسان المقاوم، الإنسان القائد، الملهم والكاريزمي، الذي يواجه الآخر ويكون بذاته رأس الدولة الحديثة، وممثلها الشرعي، فينتقد كل تأخر ذهني للإدراك التاريخي الإقليمي التابع له، فضلا عن ذلك يستدعي تمثلا واضحا بالتاريخ الغربي بكل انتاصاراته وانهزاماته، ليغوص في البنيات المذكورة ويعيد توجيه آليات القراءة، فينتج خطابا جديدا يقوم علی المشرحة النقدية التي تخرجنا من ذلك الفكر الغير القادر علی تحويل ردات الفعل إلی أفعال معرفية خلاقة تساهم في إنتاج مقولات ونظريات تعيد بناءه من حيث الموقع، ومن حيث المطلب، ومن حيث الموقع، ومن حيث آلية الخطاب وصدقيتها.
وإذا لا حظنا أهوال الحرب وفظائعها في ظل الأنظمة الشمولية التي لم يستطع لا العلم ولا الإيديولوجيا ولا القانون الإنساني التصدي له وإيقافها، لذا نستخلص أن الاعتماد علی الحقيقة والتقدم أو الثورة ليس كافيا لتحقيق مطلب الكونية والسيادة العالمية، ولقد تساءل فرونسوا ليوتار إلی أي حد ستظل الحكايات المشروعة الكبری معدومة المصداقية في ظل الظروف السابقة والآنية؟ ولكنه يجيب بنفسه قائلا: إن الحكايات السابقة لم يعد لها أي مصداقية، وما اقصده بالميتا حكاية، أو الحكاية الكبری، هي تلك السرديات التي تضفي الشرعية علی حدث ما، وانزوائها لا يمنع مليارات القصص الصغيرة والأقل صغرا في الاستمرار في لب نسيج الحياة اليومية.
وهاته الحكايات والسرديات لها الدور الكبير في تثبيت الأجهزة الاستعمارية للغرب المتحالف، وخلق صور نمطية غير حقيقية التي يصدرها عبر مختلف الأجهزة.
إن الغرب يريد أن يجعل كل العالم، تقصيا علی رجال القاعدة، ونظام الطالبان علی حد زعمه، والذي بإمكانه أن يلعب كل هاته الأدوار والأوراق هو الاستشراق السياسي القديم، (الذي لا يزال يملك قابلية فذة علی إعادة إنتاج نفسه وأدواته ووظائفه في صورة ما بعد الاستشراق، الشرس العدواني المضلل، الذي لا يكاد أن يتوقف عن نشر الصور الزائفة عن العرب والمسلمين.
والمتأمل في التجارب التاريخية من الزاوية النقدية يلاحظ مدی تطور هذا التنظير ومدی مساهمته في خلق مخيال جشع إستطاني، يستند إلی مخيال عقدي توراتي، تلمودي، أساسه الاستحواذ علی العالم وجعله تحت مخالبه، ومضلته القانونية والسياسية، وفي ضوء هذا المستند يكون الخلاص الكوني لدی التجربة الغربية.
وإذا كانت هذه النضرة الاستيطانية تهدف لتحقيق خلاص خاصة بها، فأين خلاصنا نحن بالرغم ما نتعرض له من آلام واضطهاد وتصدع في جميع المستويات؟
تلك هي أسئلة الأزمنة القديمة والحديثة، لا نجيب عنها في كليتها الآن ولكن سنتركها لمفعوليات الأحداث والوقائع، وتطور في الخطابات والمواقف، حين ذلك سيكون لنا الدور، وسيعود لنا التاريخ، وستكون لنا الريادة والقيادة في طرد الكولونياليات البيضاء والسوداء من جغرافياتنا الفكرية والإقليمية.
خاتمة
وعلی ضوء ما سبق فإن التوجه إلی بلورة كونية خاصة والترشيد لها، ينطلق عبر قنوات مختلفة للعقلانية وأطرها، التي يجب أن تتوفر في المجتمع المدني والذي يوزع بدوره هاته الأدوار في ثقافة خلاصية تحمل مقومات النهوض والصمود، المنبني علی حسن التصرف اتجاه ما يطرأ من متغيرات علی الساحة الدولية والإقليمية، وعلی الساحة الثقافية، والمذهبية الدينية، لأن فلسفة الخلاص باعتبارها فلسفة استشرافية مستقبلية، فإنها تقتضي تحيزا خاصا يمليه ذلك الماضي القدسي والحاضر الآني، والمستقبل المشرق بجميع إمكاناته وعطاءاته، في ضوء التحدي التي ترفعه وتتبناه فلسفة المواجهة، هذا ما يجعلنا نقر بما يلي:
– التوجه بكل إنتفتاحية لفهم ذواتنا وذوات الآخرين، وفهم خطاب الغرب المعاصر، من خلال فهم خطابه القديم قصد تكسير اللغات التحكمية من طرف نظريات ما بعد العولمة وما بعد الحداثة.
– حسم الجدل حول مسألة التمثيل الديمقراطي داخل المجتمع لأن الدولة لا تستطيع أن تواجه الآخرين إلا إذا وعت حقيقة اليدمقراطية في جميع الميادين ووزعت أدوارها علی جميع البنيات الاجتماعية، ومن ثم اجتناب الموهومات السياسية، التي ستجرها إلی حرب أهلية داخل قطرها.
– يجب أن نفرق عن ماذا نتكلم وكيف نتكلم، وعلی أي أساس نتكلم لنطالب بمشروعية النضال والتحدي، المنطلق من ثقافة واسعة، ثقافة الماضي والتاريخ المجيد، وثقافة التاريخ الحاضر وفقا لمنطلقات إيديولوجية تحافظ علی سلامة الإقليم.
– استرجاع الماضي وكيفية في معالجة الأزمات بعين حاضرة، وعين مستقبلية واعدة.
– احترام الخصوصيات وإيجاد فلسفة خاصة لمواجهة النزاعات الداخلية والخارجية وضرورة فرض ما يأمن هذا الاحترام وفقا لتعدد المعايير المرتبطة بثقافة الإدراك والاحتياط للخارج، وثقافة المسامحة والتعددية في الداخل، ومن ثم تتحدد شروط وكيفيات وسمات الدولة والمجتمع المدني الذي يؤسس لفلسفة خلاصية كونية عالمية يميزها الدين والثقافة والمصير المشترك اتجاه الكونيات الأخری.