عاشوراء مِرآة للتاريخ

من خلال هذا اليوم ، و ساعاته القليلة الحاشِدة بالأحداث الكبيرة ، يقرأ الناس التاريخ البشري كلّه . و من خلال هذا اليوم ، نقرأ سُنَن الله في التاريخ ، و نفهم كيف تسقط أُمّة ، و يستدرجها الله تعالى ، و يُعذّبها و يُهلكها ، و كيف يستبدلها بأُمّة أُخرى ، و كيف تسمو أُمّة في التاريخ و تسقط أُخرى ، و كيف يُجري الله قانون الابتلاء على أُمّة فيُضيِّق عليها لتَنمو و تبلغ رُشدها ، و كيف يستدرج أُمّة أُخرى  ليُحلّ عليها العذاب والنِقمة…

من خلال هذا اليوم ، و ساعاته القليلة الحاشِدة بالأحداث الكبيرة ، يقرأ الناس التاريخ البشري كلّه . و من خلال هذا اليوم ، نقرأ سُنَن الله في التاريخ ، و نفهم كيف تسقط أُمّة ، و يستدرجها الله تعالى ، و يُعذّبها و يُهلكها ، و كيف يستبدلها بأُمّة أُخرى ، و كيف تسمو أُمّة في التاريخ و تسقط أُخرى ، و كيف يُجري الله قانون الابتلاء على أُمّة فيُضيِّق عليها لتَنمو و تبلغ رُشدها ، و كيف يستدرج أُمّة أُخرى  ليُحلّ عليها العذاب والنِقمة ، و كيف يكون استبدال هذا بذاك . (عاشوراء) مرآة صافية للتاريخ ، تعكس التاريخ بصورة صادقة و أمينة . و من خلال قراءة هذا اليوم يستطيع أن يقرأ الناس حركة التاريخ كلّها ، منذ خلقَ الله تعالى الإنسانَ على وجه الأرض إلى اليوم .

ذلك أنّ التاريخ هو مجموعة ( السُنَن الإلهيّة ) في حركة الإنسان و صعوده و سقوطه ، ولا يجري في التاريخ شيء بصورة اعتباطيّة و عَفَويّة ، و إنّما يجري كلّ شيء بمُوجب سُنَن و قوانين دقيقة و بالغة في الدقَّة ، كما يجري التغيير في الفيزياء والكيمياء والميكانيك ؛ تَبَعاً لمجموعةٍ من القوانين والسُنن الخاصّة بهذه الحقول .1 و الّذي يفهم هذا القوانين والسُنَن بشكلٍ دقيق ، يفهم التاريخ و حركته و ما يجري في هذه الحركة من هبوط و صعود ، و من هَلاك و استبدال للأُمم .

والصراع بين الحقّ والباطل ، و بين جندالله وجند الشيطان ، هو المرآة الّتي تعكس هذه السُنَن والقوانين بصورة دقيقة و كاشِفة . ذلك أنّ ( الصراع بين الحقّ والباطل ، وحزب الله وحزب الشيطان ) هو العامل الأكبر تأثيراً في حركة التاريخ ، بخِلاف النظريّة الماركسيّة ، الّتي تعتبر ( الصراع الطَبَقِي ) هو العامل المُحرِّك للتاريخ (2) والتاريخ يتلخّص في مُعظَم جوانبه في هذا الصراع ، الّذي يقود طَرَفاً منه الأنبياء والمرسَلون ، و يقود الطرف الآخَر أئمّة الكُفر .

والصراع الطَبَقِي حقيقة قائمة في ساحة التاريخ لا ننفيها ، ولكنّه لا يُعتَبَر العمود الفقري للتاريخ ، و إنّما يحتلّ جانباً من جوانب حركة التاريخ ، و مهما كانت قِيمة هذه المساحة الّتي يحتلّها الصراع الطبقي في تاريخ الإنسان ، فلن يُعتبر العمود الفقري للتاريخ . ولسنا الآن بصَدَد إثبات هذه الحقيقة القرآنيّة .

فالتاريخ ـ إذن ـ يتلخّص في مُعظَم جوانبه في هذا الصراع التاريخي ، الّذي يقود طَرَفاً منه الأنبياء والمرسَلون والمؤمنون ، و يقود الطرفَ الآخر الطاغوت و أولياءُه . وفي هذا الصراع التاريخي تبرز أهمّ خصائص حركة التاريخ ، و تتكشَّف للإنسان جوانب واسعة من التاريخ ، لا يكاد يراها إلاّ في هذا الجوِّ من الصراع بين أولياء الله و أولياء الشيطان .

ذلك أنّ الصراع يستخرج بصورة قويّة خصائص كلّ أُمّة وكلّ فِئة من الناس ، و يُبرِزها على حقيقتها ، و يفرز الناس إلى فئتين مُتمايزتين فقد تنزع الأُمّة المؤمنة في حالات اليُسر والرَفاه إلى الدِعَة والتَرفِ ، و إيثار العافية في حياتها ، و تنسى ذكر الله ( عزّ وجلّ ) . فإذا حلّ بها الابتلاء نزعتْ إلى الله نزوعاً قويّاً و قطعتْ ما بينها و بين هذه الدُنيا من أسباب ، و ذلك قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُون َ) (3).

والعكس أيضاً صحيح ، فقد يتمكّن المنافقون والمُتخلّفون و أولياء الشيطان من إخفاء حقيقتهم ، و ما تستبطن نفوسهم من حُبّ الدُنيا والانقياد للأهواء ، والولاء للطاغوت والخوف والضعف في ساعات اليُسر والأمن ، فإذا جَدّ الجِدّ و وقعتْ المواجهة والصِدام ، طفحَ على حياتهم ما كانوا يستبطنونه من خوفٍ و نفاق .

يقول تعالى : ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً )

فيَكشف الصراعُ الخصائص الحقيقيّة لكلّ أُمّة من الناس ، و يفرز الناس إلى مِحورين مُتميِّزين ، و يعكس التناقضات القائمة في حياة الناس ، و يعكس السُنَن الإلهيّة الّتي تجري في حياة الناس و حركتهم ، و صعودهم و هبوطهم و سقوطهم ، و استبدالهم بأُممٍ أُخرى ؛ فإنّ هذه السُنَن جميعاً ـ أو في مُعظمها ـ تجري في جوِّ الصراع بين الحقِّ و الباطل ، بقوّة و وضوح أكثر من أيّة حالة أُخرى .

ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة الأحزاب ، لنَجد كيف تهتزُّ النفوس الضعيفة في القتال ، و كيف يجري فيها الزلزال ، و كيف تَزيغ الأبصار و تنقلّب القلوب المؤمنة ، الّتي لم يستقرّ فيها الإيمان إلى الظنِّ بالله ، و كيف يكشف القتال المنافقين و يُلقي عليهم الضوء ، بعد أن كانوا يُخفون أنفسهم في صفوف المسلمين ، و مع ذلك كيف تتدخّل المشيئة الإلهيّة لإسناد و دعم القِلّة المؤمنة الثابتة ، في هذه الساعات العَسِرة والحَرِجة.

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طّائِفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً ) (4).
تَرى كيف يكشف القتالُ والصراع المنافقين ؟!

و كيف يدخل النفوس في ساعة القتال الظنّ والرَيب ، و كيف يهتزّ المؤمنون ـ الضعاف ـ من الأعماق ؟! و كيف يتحوّل دَور المنافقين في ساعة واحدة إلى التهريج والتَثْبيط ؟! وفي مقابل هؤلاء ، الصادقون من المؤمنين الّذين تطمئنّ نفوسهم إلى الله ، و يثبتون للأعاصير والعواطف ، ولا يدخل نفوسهم شكّ أو رَيب ، مهما اكفَهَرَّتْ الأجواء ، و مهما ضاقتْ الأحوال .

( وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ … ) (5).
وتتدخّل المشيئة الإلهيّة ، ويُؤيَّد المؤمنون بجنودٍ لم يَروها :

( … اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا … ) (6).
و يَردّ الله الّذين كفروا بغيظهم ، و يقذف في قلوبهم الخوف ، و يُورث المؤمنين أرضهم و ديارهم :
( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الْرّعْبَ فِرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) (7).
كلّ ذلك يتمّ في أجواء الصراع والمواجهة والقتال .

تهتزّ النفوس و يصيبها الزلزال ، و يكشف النفاق عن نفسه ، و يجدُ المنافقون فرصةً للتهريج والتَثْبيط ، و تثبت النفوس المؤمنة و تطمئنّ إلى وعد الله ، و يُنزل الله تأييده و نصره على المؤمنين ، و يقذف في قلوب الّذين كفروا الرُعب والخوف ، و يُهلكهم بأيدي المؤمنين ، و يُورث المؤمنين أرضهم و ديارهم .
كلّ هذه التحوّلات والانقلابات ، والسُنَن والقوانين ، والصعود والسقوط والثبات والانهيار ، يحدث في ساحات المواجهة والقتال ، وكلّ هذه الحركة القويّة التاريخيّة ، والسُنن والقوانين الإلهيّة ، والفَرْز والتفريق والكشف ، يتمّ في جوِّ الصراع . إذن ، الصراع الحضاري بين الحقّ والباطل ، يكاد أن يكون نموذجاً ممثّلاً لمساحة التاريخ ، وللسُنَن الإلهيّة الجارية في هذه المساحة بشكلٍ كامل أو غالب . و ما يجده الإنسان في امتداد التاريخ الطويل و عرضه العريض ، يجده بصورة مُختَزلة و مُصغَّرة في الصراعات الحضاريّة الحقيقية ، الّتي يقف جند الله في مواجهة جند الشيطان .

… تماماً كما أنّ قَدَحاً من ماء المحيط يستطيع أن يعكس لنا بصورةٍ مُصغَّرة و مُختزلة مُعظم الخصائص الموجودة في مياه المحيطات الكبيرة ، من التبخير والتجميد والتموّج والتحرّك ، و ما يرسَب فيه من الأجسام و ما يعوم فيه ، و قانون المَدّ والجَزْرِ ، والعناصر الّتي تُشكّل الماء ، و ما إلى ذلك من الخصائص الكيماويّة والفيزياويّة لمياه المحيطات ، والمطالعة الدقيقة لقدحٍ من الماء تُغنِي عن مُطالَعة المحيطات الواسعة في مُعظَم الخصائص الكيماويّة والفيزياويّة لمياه البحار .

و ما يصحّ عن قانون الاخْتِزال والتمثيل في الفيزياء والكيمياء ، يصحّ في التاريخ والمُجتمَع . فإنّ شريحة مُمثِّلة من المكان و الزمان ، يُمكن أن تعكس معظم الخصائص والسُنن القائمة في التاريخ والمجتمع . و إنّما نقول شريحة زمانيّة و مكانيّة مُمثِّلة ؛ لأنّ من الشرائح الزمانيّة والمكانيّة والاجتماعيّة ما لا يحمل هذه الصفة التمثيليّة . فليس كلّ الشرائح الفيزياويّة الكيماويّة والاجتماعيّة تحمل هذه القوَّة التمثيليّة ، الّتي تستطيع أن تعكس بها الخصائِص الموجودة في كلّ المساحة الّتي اقتطفنا منها هذه الشريحة ، و هذه هي الشرائح غير المُمثِّلة .

أمّا الشريحة المُمثِّلة عن الزمان والمكان والتاريخ والمجتمَع ، فإنّها تحمل هذه القوّة التمثيليّة ، و هي بالذات ما نقصده في هذا الموضع . ولا شكّ أنّ الصراع الحضاري بين جندالله والطاغوت ، من أفضل الشرائح ( الزَمَكانيَّة ) ، الّتي تختزِل و تُمثِّل حركة التاريخ ، وتعكس هذه الحركة بقوانينها وسُنَنِها الإلهيّة .

و ( عاشوراء ) نموذج نادر من الصراع الحضاري ، الّذي تتجسّد فيها سُنَن التاريخ بشكل قوي و مُركّز ، و عَيِّنَة مُمثِّلة لمَساحة التاريخ ، بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنى ، و مِرآة صافية لحركة التاريخ ، يجد فيها الإنسان الصراع القديم بين جُند الله و جند الشيطان ، و أسباب و مُوجِبات هذا الصراع ، وقِيَم كلّ من طَرَفَي المواجهة ، و أساليبهم في هذا الصراع ، و حَتْميَّة هذا الصراع ، و مُعاناة طَرَفَي الصراع في هذه المعركة التاريخيّة ، و ما يستتبع هذا الصراع من سقوط وثبات ، و ولادة وهلاك ، و استبدال و استِدراج ، و تساقط العناصر الضعيفة و صعود و تسامي العناصر القويّة المؤمنة ، و نَصْر الله للفئة القليلة المؤمنة و هلاك جُند الشيطان …

كلّ ذلك ينعكس في مرآة عاشوراء ، في هذه الساعات القليلة الحافِلة بالأحداث الكبيرة من يوم عاشوراء ، والجمهور من المؤمنين يقرؤون كلّ ذلك ، و غير ذلك من قوانين و سُنَن التاريخ والمجتمع والصراع في مرآة عاشوراء . بل ماذا أقول ؟! إنّ جمهور المؤمنين يرون أنفسهم في مرآة عاشوراء ، فإنّ الإنسان المؤمن ليس نسيج وحده ، وليس نبتة طُفيليّة مُجتَثَّة من فوق الأرض ما لها من قرار ، و إنّما هو حصيلة هذا الصراع التاريخي بين الحقّ والباطل .

وكلّ هذا الصراع و ما استتبعه من معاناة وآلام ، و نصر وتأييد و ثبات و صبر ، قد ساهم بصورة مَرئيّة أو غير مَرئيّة في ثباته و تكوين شخصيَّته ، و عاشوراء امتداد لكلّ هذا الصراع ، و تكريس لهذه المعركة التاريخيّة ، و مرآة لهذا التاريخ الحافِل بالصراع والمعاناة . والمؤمنون يرَون أنفسهم في مرآة عاشوراء رؤية صافية صادقة و واضحة ؛ ولذلك يجذبهم عاشوراء ، و يشعرون بأنّهم مَدينون لعاشوراء ، و أنّ عاشوراء تُمثّلهم وتُساهم مساهمة فعّالة في تكوينهم ، و تُشكّل المرآة الصافية الّتي تعكس وجودهم وكيانهم .

و هذا هو ما نعنيه عندما نقول : إنّ عاشوراء نافذة على التاريخ ، يستطيع الجمهور بوعيه الفِطري البسيط أن يطلّ على التاريخ من خلال هذه الساعات القليلة من يوم عاشوراء . أرأيت كيف تُمثّل صفحة الخارطة الجغرافيّة ، و تعكِس إقليماً واسعاً من مساحة الأرض ؟! كذلك عاشوراء تُمثِّل مساحة واسعة من التاريخ . و نحن لكي نستوعب عَيِّنَة ما ، استيعاباً كاملاً بصورة علميّة ، نقوم عادةً بواحد من اثنين ، حسب اختلاف العيّنة

أمّا أن نُكبِّر العَيّنة تحت المجهر ، حتّى يُمكن اكتشاف وفهم الجزئيّات الدقيقة منها الّتي لا تخضع للعين المُجرَّدة ، أو نصغِّر المساحة مع الاحتفاظ بكلّ مُقوّماتها و أركانها و نختزلها ، حتّى يُمكن استيعاب المساحة الواسعة بنظرة واحدة ، وفي دائرة صغيرة . و ( عاشوراء ) من النوع الثاني ( اختزال شديد لحركة التاريخ وما في هذه الحركة من السُنَن والقوانين ) ، و هذا الاختزال يتّصف بالتمثيل الدقيق لمساحة التاريخ الكبيرة و سُنَنها و قوانينها .

ذلك أنّ ( عاشوراء ) من بين نماذج الصراع بين أولياء الله و أولياء الطاغوت ، نموذج نادر من الصراع الحقيقي الحاسم في التاريخ . ففي هذه المعركة التاريخيّة الحاسمة يتقرَّر مصير الإسلام ، و بالتالي مصير رسالات الله تعالى ، الّذي كاد أن يسقط في أيدي السلاطين الرسميِّين الّذين كانوا يحكمون باسم الإسلام .

و هذه المعركة وحدها استطاعتْ أن تضع حدّاً للسلطة الزمنيّة الحاكمة ، و تفصل بين ( الإسلام ) و ما كان في قصور الخلفاء و أجهزتهم ، من لَهوٍ وسقوط في لذّات الحياة الدنيا ، و من ظلم و اضطهاد و اعتداء و تجاوز لحدود الله تعالى و أحكامـه . في ( عاشوراء ) ، يتقابل صفوة مؤمنة خالصة ، و على رأسهم ابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) والصفوة الصافية من أهل بيته و أصحابه ، مع رؤوس الإجرام والنفاق .

وفي هذا التقابل والمواجهة لا أدري ماذا يحسّ الإنسان من بَوْنٍ شاسِع و فاصل كبير بين نَمطين من الناس ، و بين هذا السقوط إلى الحضيض والصعود إلى القمَّة ، بين النور والظُلمة . يشعر الإنسان بوجود نَمطين مختلفين تماماً من الناس ، و بالفاصل الكبير الشاسع الّذي يفصل في الأهداف والقِيَم ، والأخلاق والتربية والقُرب والبُعد من الله ، ثمّ يجد هذين النَمطين من الإنسان في مواجهة حقيقيّة حاسِمة في ساحة الطفّ .

يدعو أحدهما إلى الله تعالى ، و إلى إقامة الصلاة و إلى العودة إلى الإسلام ، و إلى الأخذ بأسباب العبوديّة .
و يدعو الآخر إلى الطاغوت والانقياد له .
يطلب أحدهما وجه الله و مرضاته في هذه الحركة والصراع و يقول :

إنْ كانَ دِينُ مُحمّد لم يَسْتَقمْ     إلاّ بقَتْلِي يا سيِوفُ خُذيني

و يقول :

و الله إنْ قَطَعْتُم يَميْني     إنّي أُحامي أبداً عن دِيني

و يطلب الآخر سَقْط المتاع في الحياة الدنيا و يقول :

املأ رِكابي فِضّة أو ذهباً    إنّي قتلتُ السيّد المُهذّبا

يُجسِّد أحدهما في سلوكه وقتاله أسمى القِيَم و أنبلها ، حتّى في القتال ، و يُجسِّد الطرف الآخر أحطّ ألوان السلوك في ابتغاء الدنيا وفي الإجرام . إنّ التقابل العجيب بين هاتين الفئتين اللّتين تُقاتِلان في كربلاء و بين أهدافهما ، يعتبر واحداً من أغرب نماذج الصراع بين الحقّ والباطل في التاريخ . لقد كان أحد الطرفين حقّاً امتداداً لإبراهيم و موسى و عيسى و رسول الله (ص) ، و يحمل معه ميراث هؤلاء الصدّيقين وهمومهم وطموحاتهم ، و يُعدّ الآخَر حقّاً امتداداً لقابيل و فرعون و نمرود ، والقتَلة والمُجرمين في التاريخ و على نتائج هذا الصراع يتوقّف مصير هذا الخطّ أو ذاك .

لقد كان أحد الخطّين يستجمع كلّ قِيم وعطاء و تضحيات الأنبياء ، والخطّ الآخر يستجمع كلّ ألوان الانحطاط والسقوط الّذي يشهده الناس في التاريخ لهذا الخطّ . لقد كان مشهد ( عاشوراء ) مشهداً غريباً في نوعه ، ولم يكن يلتبس الأمر في تمييز الحقّ والباطل وتشخيصهما على أحد بين هذين المُعسكرين ، فقد بانَ الحقّ و بانَ الباطل و امتاز أمرهما ، ولم يبق موضع للالتباس لأحد . فمَن دخل مع هؤلاء ، دخل على بيِّنة و بصيرة ، و ما بعدها بيّنة و بصيرة ، و مَن انساق من وراء أُولئك ، كان ممَّن أضلّه الله على عِلم . فقد كان يوم عاشوراء يوماً من أيّام الفرقان في التاريخ حقّاً ، افترق فيه الحقّ و الباطل ، ولم يعد لأحد فيها موضع للشكّ واللَبس .

الشيخ مهدي الاصفي

—————–
(1)بالطريقة الّتي شرحناها في فصل ( المذهب التاريخي في الإسلام ) ، و بيّنّا موضع إرادة الإنسان و اختياره في هذه الحركة ، في النظريّة الإسلاميّة . من كتاب ( في رِحاب القرآن ) .
(2)و الفرْق الآخَر : إنّ النظريّة الماركسيّة تُؤمن بالعامل الواحد في حركة التاريخ ، بينما النظريّة الإسلاميّة لا تُؤمن بنظريّة توحيد العامل في حركة التاريخ .
(3)الأعراف : 94 .
(4)الأحزاب : 9 ـ 13 .
5)الأحزاب : 22 ـ 24 .
(6)الأحزاب : 9 .
(7)الأحزاب : 25 ـ 27 .

شاهد أيضاً

الإمام المهدي خليفة الله في أرضه(عجّـل الله فرجه)

انّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كثيرة. وأردت أن أستطرق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *