بقلم: محمد الشوكي
مما یلفت الإنتباه في السنوات الأخيرة الماضية ازدياد الإهتمام بقضية الإمام المهدي (عج) علی المستوی الشعبي والنخبوي، فنجد اهتماماً شعبياً كبيراً بمسألة الإمام المهدي (عج) يوازيه اهتمام ملحوظ من قبل المؤسسات العلمية والإعلامية.
الحمد لله الذي شد الناس بحبليه، وعصمهم من الضلال بثقليه، والصلاة والسلام علی خيرة أنبياءه ومرسليه، المصطفی محمد، وعلی أهل بيته الطيبين الأخيار، لا سيما نور الله الذي لا يخبو، وسيفه الذي لا ينبو، الإمام الحجة القائم المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف).
مما یلفت الإنتباه في السنوات الأخيرة الماضية ازدياد الإهتمام بقضية الإمام المهدي (عج) علی المستوی الشعبي والنخبوي، فنجد اهتماماً شعبياً كبيراً بمسألة الإمام المهدي (عج) يوازيه اهتمام ملحوظ من قبل المؤسسات العلمية والإعلامية.
وهذا الإهتمام ليس ناشئاً من فراغ وإنما له مناشئ متعددة، من أهمها الأوضاع العالمية الحرجة والمتعثرة علی أكثر من مستوی، والأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية المتعددة التي تعصف بعالمنا المعاصر، والتي لم يصل العالم حتی الآن إلی حلول ناجعة لها، وليس في الأفق من أمل تنشدّ إليه قلوب الناس، مما أغرق الكثير من النفوس ببحر من اليأس والإحباط، وجعلها تتجه إلی الحل الإلهي الذي أقصته من مفكرتها لعقود طويلة. هذا بالإضافة إلی المتغيرات الكثيرة التي طرأت علی الساحة العالمية.
ولعل من أبرز تلك المتغيرات الدولية سقوط النظرية الشيوعية بسقوط الإتحاد السوفيتي من جهة، والهزات العنيفة التي تعرضت لها الرأسمالية الغربية خصوصاً في جانبها الإقتصادي الذي يمثل أحد أعمدتها المهمة من جهة ثانية، مما زعزع قناعات الكثير من الناس بالنظريات الأرضية وقدرتها علی إسعاد الإنسان، وجعلها تتطلع إلی حلول أخری أهمها هو الحل الديني.
وبما أن الإسلام يعتبر من أهم المنافسين في الساحة العالمية، ولدية رؤية خاصة بالمستقبل، وبما أن قضية الإمام المهدي (عج) تعتبر قضية مفصلية في رؤية الإسلام للمستقبل، فسوف يكون الإهتمام بها أمراً منطقياً يتسق مع طبيعة الأمور.
هذا بالإضافة إلی التحولات السياسية الإقليمية التي حدثت في المرحلة الأخيرة، ويمكن أن نلحظ منها بروز المذهب الشيعي قوياً في الساحة الإقليمية لعوامل عديدة لا مجال للخوض فيها، وزوال عصور الكبت والقمع الذي تعرض له أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، مما أتاح لهم – في ظل المتنفس الذي اكتسبوه، وفي ظل التطور الهائل في وسائل الإتصال – فرصة كبيرة ليفصحوا عن عقائدهم وسائر شؤونهم ومتبنياتهم الفكرية والثقافية، والتي يحتل فيها الإمام المهدي (عج) مركزية خاصة.
ولكن ورغم هذا الإهتمام المتزايد بالمسألة المهدوية والذي يعتبر مؤشراً إيجابياً مهماً في مقاسات عديدة، إلا إنني أستطيع القول أن ما بذل من جهود في المستوی المعرفي والثقافي والتربوي والتعبوي الذي يرتبط بهذا الجانب تعتبر جهوداً متواضعة جداً، ولا زال الكثير من النقاط المهمة في القضية المهدوية مبهمة وغامضة ولم تدرس بشكل جيد. ولو أردت أن أسرد تلك النقاط ومواضع الغموض فيها، وعدم تغطيتها عبر دراسات علمية جادة لطال بنا الأمر.
ومن بين تلك النقاط المركزية في القضية المهدوية مسألة الدور البشري والظرف الموضوعي في قضية الإمام المهدي (عج). فهل قضية الإمام المهدي (عج) قضية غيبية مطلقة لا دخل للبشر فيها، أو أنها خاضعة للظروف الواقعية والشروط الموضوعية؟.
ولا يخفی أن كلاً من الفرضين تترتب عليه آثار مهمة وخطيرة، وتبدو الإجابة عليهما مركزية في القضية المهدوية.
أهمية موضوع البحث
إن الموضوع الذي نريد أن نعالجه خطير وحساس جداً، والنتائج التي يتمخض عنها تترك آثاراً كبيرة علی كيفية التعامل مع قضية الإمام المهدي (عج).
فلو كانت النتيجة التي نتوصل إليها هي غيبية القضية المهدوية المطلقة، وأن الإمام المهدي (عج) في غيبته وظهوره وإقامة دولته العادلة غيب من غيب الله لا دور للناس ولا للظروف الموضوعية فيه، فإن ذلك سوف يعفينا من أي مسؤولية تجاهه، ويدعونا إلی الركون والسكون وعدم السعي للتمهيد له، لأن فعلنا وعدمه سيكون سواء، حيث لا دخل لنا في أي شيء من شؤون قضيته. ولا نستطيع أن نعجل أو نؤجل ظهوره. وسيحوّل هذا الفهم مسألة الإنتظار إلی حالة سلبية غير فاعلة في الأمة، تماماً كمن ينتظر شخصاً غاب عنه ولا يعلم بخبره، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً للعثور عليه وإعادته إلی وطنه، فإنه سوف يتركه وينشغل بإموره، وإذا ما ذكره فإنما يذكره في خواطره.
أما لو توصلنا إلی النتيجة الثانية، وآمنا بأن قضية الإمام المهدي (عج) مرتبطة بالظروف الخارجية، وأن للناس دوراً في غيبته وظهوره وتحقيق مشروعه، وأن بإمكاننا أن نعجل من ظهوره، وأن نهيئ الظروف الموضوعية له، فإن ذلك سوف يرتب علی عواتقنا مسؤوليات كثيرة، ويدعونا للعمل من أجل تقريب ظهوره، والتمهيد لثورته التغييرية الكبری، ويجعل انتظارنا له انتظاراً إيجابياً فاعلاً، مليئاً بالحركة والعنفوان، ومبتعداً عن الركون والسكون والسلبية.
فإذاً نری أن النتائج تختلف اختلافاً جذرياً حاداً باختلاف قناعاتنا بكلا النظريتين، وأن كلا الفرضيتين تنتج سلوكاً مغايراً للأخری. وذلك طبيعي، لأن السلوك البشري العام يتلون بلون القناعات الفكرية للأفراد والمجتمعات. ومن هنا تجد أن فكرة واحدة قد تكون باعثة علی الحركة والفاعلية، وقد تكون باعثة علی السكون والخمول، تبعاً للزاوية التي ينظر منها إليها، وطبقاً لطبيعة فهمها ودركها.
وهذا قانون عام غير مختص بقضية الإمام المهدي (عج)، فالدين مثلاً تارة ينظر إليه بعض الأشخاص أنه شأن عبادي طقوسي فردي لا علاقة له بالأمور العامة، فحينئذ لا يسعی لتحكيمه في واقع الناس بكل تفاصيله وجزئياته، ولا يتفاعل مع الدعوة إلی إقامة نظام يقوم علی أساس الدين.
وتارة أخری ينظر إليه شخص آخر علی أنه شامل لأمور المعاش والمعاد، وأنه دستور حياة يصوغ الحياة البشرية ويقنّنها ويضع لها أحكامها، فحينئذ يسعی إلی تحكيمه في أرض الواقع، ويتفاعل مع كل دعوة تهدف إلی إقامة مشروع ديني يحكم حياة الناس. فإذاً رؤية الإنسان لها دور كبير في اتجاه حركته في الحياة بصورة عامة، وكذلك فيما يرتبط بقضية الإمام المهدي (عج).
من هنا فإننا سوف نعالج كلا النظريتين، لنری أيهما قابلة للإثبات طبقاًت للنصوص الشريفة.
الإفتراض الأول: غيبية القضية المهدوية
ربما نلحظ في كلمات الكثيرين أن قضية الإمام المهدي (عج) قضية غيبية سواء في جانب الغيبة أو في جانب الظهور. فإذا كان كذلك فإن معطيات هذه القناعة سوف تنعكس علی واقع الفكر والسلوك. فعلی المستوی الفكري لا يلزمنا أن نبحث عن غيبته وأسبابها وفلسفتها، ولا عن ظهوره وشرائطه وظروفه. وعلی المستوی العملي سوف لن نكون مكلفين بإيجاد أي من ظروف الظهور أو شرائطه.
وربما يستند هذا الفهم إلی بعض النصوص الدينية التي تعرضت لغيبية القضية المهدوية، كالنصوص التي طبّقت عنوان الإيمان بالغيب علی الإمام المهدي (عج)، كقول الصادق (عليه السلام)، في تفسير قوله تعالی: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: «المتقون شيعة علي (ع)، والغيب هو الحجة الغائب».
وعنه أيضاً في خبر آخر في تفسير الغيب في الآية الكريمة قال: «من أقر بقيام القائم عليه السلام أنه حق». وغيرها من الأخبار التي فسرت الآية به (ع) أو جعلته من جملة مصاديقها.
وكذلك في مثل قول الصادق (ع) لعبد الله بن الفضل الهاشمي: «إن هذا الأمر من أمر الله تعالی، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتی علمنا أنه عز وجل حكيم صدّقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف». أو كقول الإمام الحسن العسكري (ع) لأحمد بن إسحاق: «يا أحمد بن إسحاق: هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين».
فربما يستند البعض إلی هذه النصوص ليجعل القضية المهدوية في دائرة الغيب المطلق ويفصلها عن الواقع وشروطه الموضوعية.
ولكن ذلك غير تام، لأن غاية ما يستفاد من هذه النصوص الشريفة أن لقضية الإمام المهدي (عج) بُعداً أو أبعاداً غيبية، كالإقرار بالقائم وهو غائب عنا فإنه إيمان بالغيب كما يستفاد من الرواية الثانية، أو أن الحجة ذاته من الغيب لأنه غائب عن الحواس كما يستفاد من الرواية الأولی، أو أن العلة الحقيقية لغيبته من الغيب، لأنها لا تظهر بشكلها الكامل إلا بعد ظهوره كما يستفاد من الرواية الثالثة وسياقها. ونحن لا ننكر أن قضية الإمام المهدي (عج) تتضمن أبعاداً غيبية كثيرة.
ثم أنه ليس كل قضية غيبية لابد أن تكون منفصلة عن الواقع وعن شروطه الموضوعية، ولا تنافي بين الإثنين، فكثير من الأمور الغيبية مناطة بالشرائط الخارجية، كقضية الرزق والبلاء والأجل وما شاكلها من أمور أخری. فإن الأجل مثلاً مسألة غيبية، ولكن الروايات الشريفة أناطتها بالشرط الخارجي، فنری مثلاً أن صلة الرحم تطيل العمر وتنسئ الأجل، بينما قطيعتها تقصر العمر. وهكذا الرزق المستقبلي يعتبر غيباً من الغيب، ولكن هناك شروط خارجية لزيادة الرزق ونقصانه، وهكذا.
الإفتراض الثاني: ارتباطها الشرائط الموضوعية
وهو افتراض أن قضية الإمام المهدي (عج) علی رغم أبعادها الغيبية الكثيرة إلا أنها غير منفصلة عن الواقع الخارجي وشروطه الموضوعية. وهذا ما يظهر من كلمات بعض العلماء كالشهيد الصدر (رحمه الله) وغيره. يقول قدس الله نفسه الزكية في الجواب علی سؤال: لماذا لم يظهر الإمام المهدي (عج) طيلة هذه المدة ما نصه: «والجواب: أن كل عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتی لها أن تحقق هدفها إلا عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء علی الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية، لأن الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف. ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتی أنزلت آخر رسالاتها علی يد النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)، لأن الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها علی الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشكل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية.
وقد جرت سنة الله تعالی التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني علی التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلا بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن».
الرأي المختار
إننا نميل إلی الإفتراض الثاني، ونعتقد أن قضية الإمام المهدي (عج) علی رغم أبعادها الغيبية الكثيرة غير منفصلة عن الواقع البشري ولا نائية عن الظروف الموضوعية، فإنها كأي مشروع تغييري في المجتمع يرتبط بمجموعة من العوامل الفكرية والإجتماعية والسياسية والبشرية. فهي ليست قضية ماورائية (ميتافيزيقية) بحتة، وإنما هي مرحلة تطورية في مسار التاريخ الإنساني لها مداليل ومنجزات ثقافية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية وأخلاقية متنوعة، وتمثل تحولاً إنسانياً ودينياً واجتماعياً عظيماً في التاريخ البشري. وكذلك هي خاضعة للسنن الإجتماعية الإلهية ومتأثرة بها، وهذا ما سنشير إليه في النقطة التالية.