إنَّ حقيقة التحريف وتحريف الحقيقة أمر واقع في المجتمع البشري وعلى جميع المستويات ومختلف الأنواع، وما يهمّنا هو: تلاعب الأدعياء وتحريفهم للنصوص المهدوية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ، محاولة منهم للتسلّق على أكتاف البسطاء من الناس ونيل حظّ من متاع هذه الدنيا الدنية.
ولا غرابة في ذلك فقد تعرَّض النصّ الديني والعقائدي عموماً إلى الكثير من تزوير الحقائق وطمس المعالم وبأشكال مختلفة، فتارةً عن طريق الزيادة والنقصان في النصّ لكي تضيع دلالته ويفقد برهانه، وأخرى عن طريق وضع الحديث المعارض، وثالثة عن طريق تحريف المعنى الجدّي والمراد من قبل أهل البيت عليهم السلام .
وهذه كلّها محاولات بائسة يائسة لا يمكن أنْ تطفئ نور الحقيقة الناصعة الصادحة بأحقّية منهج أهل البيت عليهم السلام ، ولا نكابر ونقول: إنَّها لم تؤثّر، بلى فقد أثَّرت وحرَّفت المسيرة عن الجادّة التي رسمها الله سبحانه لخلقه وعباده، وذلك بتظافر ماكنة الإعلام الحاكم مع ألسنة وعّاظ السلاطين وتثاوبهم، تسبقها الروح الانتقامية والحقد الدفين الذي يعشعش في صدور هؤلاء لكلّ من يتَّسم بالكمال والقرب الإلهي وعلى رأسهم أهل البيت عليهم السلام ، ويكفي لذلك أن نضرب مثلاً واحداً وهو ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي، قال: روي أنَّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتَّى يروي أنَّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ 204 وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (البقرة: 204 و205)، وأنَّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْـرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (البقرة: 207)، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك.
لذا لا بدَّ من قراءة واعية ودراسة واقعية ومعرفة جدّية بالأساليب والطرق التي يستخدمها مدَّعو المهدوية عبر التاريخ لتمرير مآربهم ومخطّطاتهم للحذر منها والوقاية منها وعلاجها إنْ وجدت، ولا نريد تسليط الضوء على مجمل الأساليب من استخدامهم للشعوذة والرياضات الروحية بل والسحر أيضاً، فلعلَّنا نوفَّق لذلك في موضوع آخر، وإنَّما المهمّ هنا هو بيان تلاعبهم بالنصّ المهدوي لكي يكون المؤمن على بصيرة من أمره في معرفة مدارس الانحراف قديماً وحديثاً حيث يزيد ذلك من تحصينه عقائدياً وسلوكياً.
ونذكر لذلك عدَّة نماذج من التحريف لأدعياء المهدوية قديماً ونترك الحديث عن التحريف والتلاعب حديثاً لحلقة أخرى نخصّ بها تلاعب أحمد إسماعيل كاطع وجماعته بالنصوص، ومن هذه النماذج:
1 _ (اللعن والبراءة) بمعنى الإبعاد عن النار، لمَّا بلغ مسامع الشيخ الحسين بن روح ما آل إليه أمر الشلمغاني وانحرافه وادّعاؤه النيابة عن الإمام عليه السلام وغيرها من المناكير كتب إلى بني بسطام _وكانوا يجلّونه ويحترمونه_ بلعنه والبراءة منه وممَّن تابعه على قوله، وأقام على توليته، فلمَّا وصل إليهم أظهره عليه، فبكى بكاءً عظيماً، ثمّ قال: إنَّ لهذا القول باطناً عظيماً وهو أنَّ اللعنة الإبعاد، فمعنى قوله: لعنه الله أي باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي، فمرَّغ خدّيه على التراب، وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر.
ومن خلال هذا النصّ التاريخي يعلم مدى السطحية في التفكير عند بعض المجتمعات، والسذاجة في التعامل مع هكذا نصوص، ولعمري أيّ نصّ جليّ يمكن التلفّظ به أو كتابته أصرح من: (اللعن والبراءة بالنصّ)، ومع ذلك ابتعد هؤلاء عن لغة التحاور المتعارفة عند أهل اللغة من الأخذ بالظاهر فضلاً عن حجّية النصّ، فقلب حقائق اللغة إلى مشفّرات ولغة باطنية تفتح الباب واسعاً جدّاً أمام أيّ تلاعب وتغلق الباب أمام أيّة لغة تخاطب، ولذلك فقد صرَّح الشيخ الحسين بن روح رحمه الله بعمق الشبهة التي ساقها الشلمغاني وأقنع بها جماعته بقوله تعقيباً على دعوة الشلمغاني: (فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد، قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم، ليجعله طريقاً إلى أنْ يقول لهم بأنَّ الله تعالى اتَّحد به وحلَّ فيه، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام).
ووصول الشلمغاني إلى ادّعاء الاتّحاد كان نتيجة لغلق باب التحاور العرفي عند العقلاء، وهذا الأسلوب يستخدمه كلّ صاحب دعوى على مرّ التاريخ، وهنا نلاحظ أيضاً أنَّ الشلمغاني حاول التركيز على معنى واحد، وصبَّ كلّ جهده في التلاعب به، والسكوت عن النصّ الثاني وهو البراءة وإغفاله وكأنَّه لم يرو في الخطاب، وهذا هو أيضاً ديدن المتلاعبين، يحرّفون ما يقدرون عليه، أمَّا غيره فيجعلوه كأنَّه لم يكن، ويتركوه وكأنَّه لم يكتب.
2 _ تحريف لفظ (القائم) الوارد في الروايات إلى أنَّه (إبليس)، حيث قالوا _ومنهم الشلمغاني_: والقائم الذي ذكروا أصحاب الظاهر أنَّه من ولد الحادي عشر فإنَّه يقوم، معناه إبليس لأنَّه قال: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 30 إِلَّا إِبْلِيسَ) (الحجر: 30 و31) فلم يسجد، ثمّ قال: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16)، فدلَّ على أنَّه كان قائماً في وقت ما اُمر بالسجود، ثمّ قعد بعد ذلك، وقوله: (يقوم القائم) إنَّما هو ذلك القائم الذي اُمر بالسجود فأبى وهو إبليس لعنه الله.
وهذا نموذج آخر من التحريف الفظيع في مجال التخاطب البشري، فترك عشرات النصوص الجليّة في أنَّ القائم هو الإمام المهدي الثاني عشر من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والتشبّث بسراب _لا نستطيع أنْ نقول عنه إنَّ فيه إشارة فضلاً عن الظهور _ لمجرَّد وجود مفردة (قعد)، محاولة بائسة لإسقاط هذا المفهوم وهو القائميّة على هذه المفردة أو استدلال هذا المفهوم منها.
فبهذا الأسلوب وبهذه الطريقة من التحريف والتلاعب في عقول البعض يتمّ التشويش على العقائد بل وعلى المسلَّمات العقلية واللغوية، والتطاول عليها بحجّة الباطنية والغنوصية، وهو أخطر أسلوب عرفته البشرية لقلب الحقائق.