أصول الدين عند الشيعة

جميع البشر يتمتّعون بخصائص حياتيّة ، ذاتّية كانت أم بيئية : كالجهاز العصبي والتنفّسي وآلهضمي والدموي والبولي والتناسلي والبصري والسمعي وغيرها من أجهزة وأعضاء أجسامنا ، وكل منها ضروري لاستمرار حياة الإنسان وثمين . ومثلها ضوء الشمس ووجود النباتات والحيوانات والمعادن والفلزّات ، التّي تتواجد في الطبيعة . وكل هذه تعدّ من النعم الإلهية الكبرى التي يمكن الاستفادة منها بواسطة العلم والقدرة اللذين منحا للبشر .

هناك من يعتقد أن لا مبرّر ولا ضرورة في البحث في أمور الدين ، وهم يتساءلون عن الحتميّة الدافعة للتفكير فيه ، ونحن نوضّح خطأ تفكير هؤلاء فيما يلي ، محاولين التركيز على ضرورة البحث في الدين من وجهتين ، هما :
1ـ حكم العقل القاضي بأن يكون الإنسان شاكراً ربّه ، لما أنعم عليه من الخيرات .
2ـ حكم العقل القاضي بالتحسّب ودفع الضرر ، ولو كان احتمالياً .
وها نحن نبحث في هاتين المسألتين :
ضرورة الشكر لله :
جميع البشر يتمتّعون بخصائص حياتيّة ، ذاتّية كانت أم بيئية : كالجهاز العصبي والتنفّسي وآلهضمي والدموي والبولي والتناسلي والبصري والسمعي وغيرها من أجهزة وأعضاء أجسامنا ، وكل منها ضروري لاستمرار حياة الإنسان وثمين . ومثلها ضوء الشمس ووجود النباتات والحيوانات والمعادن والفلزّات ، التّي تتواجد في الطبيعة . وكل هذه تعدّ من النعم الإلهية الكبرى التي يمكن الاستفادة منها بواسطة العلم والقدرة اللذين منحا للبشر .
وفوق كل هذا فإنّ وعي الإنسان واستعداده الموهوب له وخلاّقيّته المبدعة هي من نعم الخالق عزّ وجّل . لذا توجّب على الإنسان معرفة هذا المنعم العظيم فيشكره بحكم مسؤوليّة الشكر ، على أننّا نشكر من يقدّم لنا هدّية بسيطة أو خدمة معيّنة ، بحكم مقابله الإحسان بالإحسان . وبحكم القاعدة الفقهيّة الأخلاقيّة التي ربّانا الإسلام العزيز عليها ( من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) . فعليه فإنّ شكر الخالق يكون من باب أولى .
الحذر من الخطر أو الضرر المحتمل :
لو أُخبر إنسان بقرب وقوع زلزلة مثلاً ، فإنّه سيضطرب ويفكّر في ملجأ يلجأ إليه هو وأفراد عائلته ، ويفكّر فيما يلزم عمله قبل وقوعها ، ومع اتّخاذ التدابير كافة فإنه سوف يبقي قلقاً مضطرباً خائفاً ، لا يهدأ له قرار حتّى يقع المحذور وينتهي كل شيء ، ويخرجوا جميعاً بسلام .
إذن ، فالاحتياط والتحسّب من الخطر المتحمل حصوله إنّما هو ضروري بحكم العقل . ومن الطبيعي أنّ بعض الحوادث تكون بسيطة وقليلة الضرر والأذى ، لذا لا يهتم الإنسان بها ، أما لو كان حدوثها يؤدي بحياة الإنسان أو من بتعلّق به مثلاً ، أو خراب أملاكه ، أو تلف أموآله ، فحينئذ يتوجّب تحسّبه الشديد لذلك الخطر أو الأذى .
وأعظم الأخطار هو هول يوم القيامة الذي توعّد الله عزّ وجلّ عباده الضالّين ، على لسان أنبيائه ورسوله ( عليهم السلام ) ، وتذكيرهم بالحساب والثواب والعقاب والجنّة والنار ، وما يسبق ويرافق ذلك من عقبات وأهوال ومخاوف .
يجب علينا – نحن البشر – أنّ نفكّر في تهديدات الأنبياء والرسل (ع) ووعيدهم ، كما ويجب السعي لمعرفة أمور الدين ، وحلاله وحرامه ، والتدبّر فيها بعمق ورويّة ، كي تُنجينا من مهابط السوء التي قد نقع فيها نتيجة عدم درايتنا ومعرفتنا بذلك . فإنّ عقولنا وفطرتنا التي فطر الله الناس عليها هي التي تدفعنا لمعرفة الواقع ، واكتشاف الحقيقة الكبرى .
من هو مبدع الكون ؟
يقوم الإنسان في سبيل تحقيق حاجاته ورغباته ، والقيام بمختلف أعماله ، في عصرنا الحاضر ، باستخدام أجهزة وآلات متنوّعة ومعقّدة ومتطوّرة ، وأحد هذه الأجهزة هو ( العقل الإلكتروني ) الذي يقوم بحركات وفعّاليّات جبّارة ، فمثلاً في مجال الطلب ، يقوم هذا الجهاز خلال دقائق بتقديم كشف كامل لسوابق المريض – مخزونة في الجهاز – إلى طبيبه المعالج ، لمعرفة نوع المرض . ويستطيع هذا الجهاز المعقّد ملاحظة جزئياّت أيّ حالة مرضيّة ، كانت قد غذّي بها مسبقاً ، ثمّ يحدّد أسلوب العلاج ونوع الدواء المطلوب لهذه الحالة أو تلك .
وهذا العقل الإلكتروني يستخدم في مجالات الحياة المختلفة لتنظيم عمل سائر الأجهزة المعقّدة الأخرى ومراقبة عملها .(1)
هل من العقل أنّ هذا الجهاز العجيب قد صنعته الصدفة ؟‍! أم أنّ دقّته ونظامه وعمله المحيّر يعتبر شاهداً قويّاً على ذكاء صانعه ومعرفته الواسعة ؟ إنّ المسلّم به أنّ أي إنسان يتعرّف إلى مثل هذا الجهاز ، فإنه يتوجّه إلى عظمة ذكاء صانعه ، وقدرته الخلاّقة .
من هنا يبدو لنا دليل عام ومبدأ بديهيّ مسلّم هو : إنّ النظام والتنسيق يجب أن ينبع من عليم قادر ، وإنّ الصدفة لا يمكن أن تكون منشأ لعجائب النظام والتنسيق ، ذلك لأن لكل شيء أثره المناسب والملائم ، فكما أنّ توقّع الإحراق أن يكون من الماء البارد أمر لغو ، فإن الاعتقاد بوجود نظام مرتّب ودقيق قائم على أساس الصدفة ، فهو لغو وهراء أيضاً .
وعلى هذا الأساس ، فإن النظام الدقيق الذي نلاحظه في العقل الإلكتروني إنّما هو من صنع إنسان مخلوق ، خلقه ربّ عظيم عليم قدير ، منحه ذلك الذكاء وتلك القدرة على الإبداع والاختراع . وهو الذي خلق تلك الدفّة والطاقات العظيمة في مختلف أعضاء وأجهزة جسم الإنسان ، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما عليها وما فيها من عوالم وأفلاك وبحار ونجوم وشموس وأقمار ونبات وحيوان ومعادن وفلزّات وما إلى ذلك .
والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله عزّ وجلّ : ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخّر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمّىً يدبّر الأمر يفصّل الآيات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون ) .(2)
وللدين الإسلامّي أصول وفروع تبصّر الإنسان بحقيقة الخالق عزّ وجلّ وتعلّمه أسلوب عبادته التي عيّنها وحدّدها هو تعالى .
أمّا أصول الدين في الإسلام فهي :
أولاً – التوحيد :
يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( اللهمّ حمداً لا ينقطع عدده ولا يفنى مدده ، فلسنا نعلم كنه عظمتك ، إلاّ أنّا نعلم أنك حيّ قيّوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينتهِ إليك نظر ، ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار وأحصيت الأعمال ، وأخذت بالنواصي والأقدام ، وما الذي نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك ، ونصِفُهُ من عظيم سلطانك ، وما تغيّب عنّا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سُتور الغيب بيننا وبينه أعظم ) (3) .
يتصّور بعض الناس خطأ أنه عزّ وجلّ أوجد هذا العالم ثّم تركه في شأنه ، فإنّ حركة الكون وفعّاليّاته واستمرارها واستمرار الوجود ، إنّما يتمّ بقدرته ومشيئته عزّ وجلّ ، فلا شيئ يمكن وجوده ودوامه بدون إذنه وإرادته ، فالموجد والمبقي والناظر والحاكم هو الله عزّ وجلّ .
إنّ الإنسان الذي يعتقد بعظمة الخالق سبحانه وقدرته ، ويفوح الإيمان من قلبه الذي يموج بحبّ الله جلّت قدرته ، لن يجد نفسه على الإطلاق وحيداً مخذولاً يائساً ، بل إنّ نور الله المستعان يشرق في حنايا قلبه وتجاويفه وزواياه كافة .
ومن البديهي ، إنّ مثل هذا الإنسان المؤمن بالله عزّ وجلّ سيعدّ نفسه بكل شوق للحياة الأمثل والأكثر شمولاً لمعاني الفضيلة والكمال .
ومن العقل والصواب أنّ الله تعالى واحد لا شريك له . فقوله تعالى في محكم كتابه العزيز : ( لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا ) .(4)
( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً ) .(5)
( فأينما تُولّوا فثمّ وجه الله ) .(6)
وفي قصة النبي إبراهيم الخليل (ع) محاجّته لقومه الذين كانوا يعبدون الأوثان والأصنام : ( إذ قال لأبيه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) .(7)
ولمّا قام بتحطيم الأصنام وأبقى كبيرها ، وضع الفأس في عنقه . فقال له أصحابه : ( أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ) ؟(8)
أجابهم : ( فاسألوهم إنْ كانوا ينطقون ) .(9)
فيصف القرآن الكريم حالهم الذليل المخزي بقوله تعالى : ( ثمّ نُكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون* قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم* أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) ؟!(10)
والتوحيد بمعناه الواقعي يربّي الإنسان الحر الصحيح الفكر ، المطمئنّ البال ، ولا يدعه يتخبّط في المسالك المعقّدة ، والضلال والظالم والاختلاف والاستعباد .
وهو يمنح الإنسان الحرّية والعزّة والكرامة ، ويأخذ بيد الإنسان نحو العدالة الاجتماعيّة والرقيّ والسؤدد .
ومن هنا تبيّن سرّ ومغزى قول الرسول الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله ) : ( قولوا لا إله إلاّ الله تُفلحوا ) .
ثانياً – العدل :
لمّا عرفنا أنّ الله عزّ وجلّ هو خالق مطلق قدير عزيز كريم ، يفضي على عباده وسائر مخلوقاته بالنعم الوفيرة والألطاف الكثيرة ، وله الوحدانيّة المطلقة ، ولا إله سواه ، فبذا تتحقّق عدالته لسائر البشر ، ولا حاجة له بالظلم –معاذ الله- و( إنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف ) .
والظلم هو حصيلة الجهل والضعف والمنافسة والخوف والحرمان والعجز ، وتعالى الله سبحانه عن هذه علوّاً كبيرا . وإنّ الله عزّ وجلّ هو العالم المطلق والقادر المطلق ، ولا يحتاج إلى أيّ أحد أو أيّ شيئ حتى يخاف فقدانه .
وما هذا التفاوت الذي نلاحظه بين أبناء المجتمع الواحد ، أو المجتمعات المختلفة ، إلاّ لتسيير الأمور وإدارة الأوضاع كي تجري طبيعيّة ، ملبيّة لحاجات البشر : ( أنظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض ) .(11)
(… ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) .(12)
فعلى الإنسان أن يعرف طريق الحقّ القويم الذي يؤدّي إلى تكامله في مختلف نواحي الحياة ، ليعيش كما أراد له الله عزّ وجلّ ، وكما فطره عليه ، عزيزاً كريماً منعّماً خيّراً ، شريفاً في تعامله مع سائر البشر بالصدق والصراحة والاحترام والعدالة والمساواة والإخلاص والتسامح ، وما إلى ذلك من صفات الخير .
قوله عزّ وجلّ : ( يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون ) .(13)
( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) .(14)
( إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ) .(15)
فهل من العقل والحكمة والصواب أن يأمر الله عزّ وجلّ عباده بالعدل مؤكِّداً تكراراً ، وهو مجرّد عنه؟! سبحانه وتعالى عمّا يصفون .
ثالثاُ – النبوّة :
إنّ الأنبياء والرسل ( عليهم السلام ) بشر تميّزوا على سائر البشر بقدراتهم الذاتيّة وصفاتهم الشخصيّة النبيلة ، من تربية طيّبة صالحة وأخلاق سامية وسريرة حسنة وانقياد للحقّ والإنصاف والعدل ، لذا نجد الأمانة والصدق وطيبة القلب وحبّ الخير لكلّ البشر هي من جملة صفاتهم الحميدة . وهم بذلك مؤهّلون لتحمّل مسؤوليّة قيادة البشر نحو الخير والصلاح ، وهدايتهم إلى طريق الحقّ وسبيل الرّشاد ، والصدع لأوامر الله ونواهيه ، ليقيهم من شرور الدنيا و عذاب الآخرة .
لذلك كان لزاماً اختيار الأنبياء والرسل (ع) للقيام بهذه المهمّة الخطيرة ، القيادة الحكيمة التي صمّم الله سبحانه وتعالى مخطّطها ، وحدّد جوانب مسؤوليّاتها .
يقول هشام بن الحكم إن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال للزنديق الذي سأله : من أين أثبت الأنبياء والرسل ؟ : ( إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلاقوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، فيسألوه عن واجباتهم ؛ ثبت أن له سفراء في خلقه ، يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبون بالحكمة ، مبعوثون بها ، غير مشاركين للناس-على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب – في شيئ من أحوآلهم ، مؤدّبون من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان ما أتت به الرسل و الأنبياء ( عليهم السلام ) من الدلائل والبراهين ، لكي لا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدّل على صدق مقالته وجواز عدالته ) . (16)
وقد قرن الله عزّ وجلّ أنبياءه ورسله (ع) بمعاجز تتناسب وعقول أهل زمانهم ، وتفوق ما اشتهر في ذلك الزمان إلى حدّ الإعجاز والإفحام ، كمعجزة الطوفان على يد النبيّ نوح ( عليه السلام ) ، والنجاة من النار عند إحراق النبيّ إبراهيم ( عليه السلام ) ، والتكلّم في المهد وبرء وشفاء الإنسان الأبرص والأكمه ، وإحياء الموتى على يد النبيّ عيسى ( عليه السلام ) ، وعصا النبيّ موسى ( عليه السلام ) ، وانفلاق ماء البحر له ولقومه فيعبرون ، وغرق فرعون وجنوده .
ومعجزة القرآن الكريم هي المعجزة الخالدة ما خلد الدهر ، وهي التي خصّ الله عزّ وجلّ نبيّه الكريم محمّد بن عبد الله ( صلّى الله عليه وآله ) بها . حيث نزلت في عصر بلغ فيه المجتمع العربي ذروة بلاغة الكلام وفنون الخطاب والنظم ، وتميّز ذلك العصر بالأدب الرفيع وبلاغة المنطق ، فجاء الذكر الحكيم بتعابير وصياغات كلاميّة سلسلة بديعة ، وتراكيب جميلة وسامية ، ألجمت أفواه عظماء المتكلّمين والخطباء والشعراء والسجّاعين ، وبلغاء ذوي المنطق والبيان ، وأذهلت أفكارهم ، وحيّرت عقولهم ، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله أو نقصُه .
ولقد تحدّاهم القرآن الكريم بقوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنسان والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) .(17)
ثم يخفّف عنهم ، فيقول جلّ من قائل : ( قل فأتوا بعشر سور مثله) .(18)
ثم يخفّف ويسخر ؛ إذ يقول سبحانه : ( وإن كنتم في ريب ممّا نزلّنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) .(19) هذا وقد كاد بلغاؤهم وفصحاؤهم كيدهم على أن ينقضوه ويبطلوه ، إلاّ أنّهم عجزوا وباتوا في حيرة من أمرهم هذا .
كل ذلك كان بمشيئة الله عزّ وجلّ ، وإرادته وقوّته وعظمته وحكمته وعدالته ، ولقد شاء جلّ وعلا بمقتضى رحمته وحكمته أن يختار الأنبياء والرسل (ع) لهداية البشريّة إلى الصراط المستقيم ، بقيادتهم الرشيدة وهدايتهم الحميدة ، وتحذيرها من سبيل الضلال والانحراف ، وليمكّنوا الإنسان أن يخطو إلى قمم العلاء والكرامة والكمال الإنسانيّ والصفات الحسنة جميعاً ، من خلال سلوك هذا السبيل القويم .
لهذا فإن الله سبحانه وتعالى نزّه أنبياءه ورسله (ع) عن أيّ ذنب أو معصية أو اشتباه أو خطأ أو نسيان . وبكلمة أخرى فإنه جلّ وعلا جعلهم معصومين منزّهين ، لكي يتمكّنوا من قيادة الإنسانية نحو التكامل في جميع المجالات ، ونحو الطاعة المطلقة والتسليم المطلق لأوامر الله جلّت قدرته ونواهيه .
إن الأمر ذاته الذي أوجب بعث الأنبياء والرسل (ع) ، هو عينه أوجب كذلك أن يكون هؤلاء معصومين ومنزّهين من كلّ عيب ، ذلك لأن الهدف من بعثهم هو إيصال البشريّة إلى شاطئ الهداية الإلهيّة والتربية السماويّة ، والعزّة والكرامة والخير والصلاح ، ولكي يكون الأنبياء والرسل (ع) مطاعين ومقبولين وموضع ثقة واطمئنان الناس وإطاعتهم والانقياد لهم؛ لذا توجّب أن يتحلّوا بالعصمة والنزاهة .
كما أنّ علم الأنبياء والرسل (ع) ودرايتهم الكاملين التامّين بقدرة الله جلّ وعلا وعظمته ، وأنهم على بيّنة حقّة بنعيم الآخرة وعذابها ، ورؤية آثار الذنب في ذلك العالم ، كان يشكّل أقوى عامل يحفظهم من ارتكاب المعاصي والأوزار . يقول الحكيم في محكم كتابه الكريم : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار* إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار* وإنّهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) .(20)
رابعاً – الإمامة :
برحيل الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) إلى الملأ الأعلى ، كان واضحاً أن الأمّة الإسلاميّة ثتنابها عواصف هوجاء وأمواج متلاطمة ، سيركبها المنافقون والمرجفون ومن يضمرون للإسلام سوءاً ، ولأهل بيت الرسول (ع) حقداً وضغينة وثأراً ، وعلى رأسهم أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ، لما وترهم في آبائهم أو إخوانهم أو ذويهم ، بقتله رؤوس الشرك في الحروب والغزوات التي دارت بين المسلمين بقيادة الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) من جهة ، وبين القبائل العربية الكافرة والمشركة بزعامة قريش ، وبروح الإلتفاف على الإسلام وأهله ، والوصول إلى السلطة والحكم بأساليب المكر والخداع والقوّة ، مع أن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) قد صرّح في مناسبات عديدة بوجوب إطاعة الإمام عليّ (ع) من بعده ، كما في حديث الدار ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ، وحديث الثقلين في غدير خمّ ، وحديث المنزلة ، هذه الأحاديث الشريفة الشهيرة وغيرها ، التي نقلها الرواة من الخاصة والعامّة ، إضافة إلى أمر الله تعالى في كتابه العزيز من آية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية ( التصدّق بالخاتم ) وغيرها ممّا فسّرها المفسّرون ونقلها المحدّثون من كلا الطرفين .
فكان أكيداً أن يحتاج مثل ذلك المجتمع الذي عاش تلك الظروف والأجواء الحرجة إلى قائد حكيم نزيه كفوء ، يقوم مقام النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، ويمسك بأزمةّ الأمور كي لا يتصدّع أو يتهدّم ذلك الكيان العظيم ، وتذهب جهود النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأتعابه هباءً وسدى ، ثم الحاجة إلى استمرار هذه القيادة الحكيمة .
والشيعة يعتقدون أن رحمة الله الواسعة وحكمته البالغة ورأفته بعباده ، أوجبت أن لا يبقى الناس تائهين مهملين بدون قائد حكيم معصوم عالم ، ممّا يضمن عدم انحرافه مطلقاً في قول ولا عمل ، ويكون نموذجاً صادقاً ومختاراً من قبل الله عزّ وجلّ ، ومثلاً سامياً للتكامل الإنساني ، كي يستطيع قيادة هذه الأمّة وهدايتها إلى مرفأ السلامة والأمان .
إنّ الحكمة الإلهية تفرض أن يختار الله سبحانه وتعالى أشخاصاً مثاليّين قيّمين على دينه ، لحفظ رسالته المقدّسة ، وقدّ تمّ ذلك بالتعيين والتنصيب والتنصيص الإلهي ، كقوله عزّ وجلّ : ( إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) .(21)
وقصّة تصّدق الإمام علي (ع) بخاتمه على السائل في الصلاة هي مصداق هذه الآية المباركة .
وقد سمّيت هذه الآية الشريفة بآية الولاية ؛ لأنّها تدعو المسلمين إلى تولّي وإطاعة الإمام عليّ (ع) بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
( إنّما يريد الله لُيذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا ) .(22)
وحديث أم سلمة (رض) مشهور في هذه القصة لدى الخاصّة والعامّة .
الصحابّي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاريّ (رض) يقول : لمّا نزلت الآية الشريفة : ( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) .(23) قلت يا رسول الله ، قد عرفنا الله ورسوله ، فمن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟ فقال : ( هم خلفائي وأئمّة المسلمين بعدي ، أوّلهم عليّ بن أبي طالب ثمّ الحسن والحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، وثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر ، وستدركه يا جابر . فإذا لقيته فاقرأه عنّي السلام ، ثمّ الصادق جعفر ين محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ عليّ بن موسى ، ثمّ محمّد بن عليّ ، ثمّ عليّ بن محمّد ، ثمّ الحسن بن عليّ ، ثمّ سميّي وكنيّي ،(24) حجّة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده ، ابن الحسن بن عليّ ) .(25)
ولا يزال المسلمون مشمولين بعناية الله ولطفه ولم يخلوا من قائد ، بوجود الإمام الثاني عشر الإمام المهديّ القائم المنتظر (عج) ، وهو حيّ غائب عن أنظار الناس إلى حين يأذن الله له بالظهور وقيادة الأمّة ، وقد توارت به الروايات من الشيعة وأهل السنّة .
خامساً ـ المعاد :
( ما خُلقتم للفناء ، بل خُلقتم للبقاء ، وإنّما تُنقلون من دار إلى دار ) ، الرسول الأكرم محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) .
لقد صرّحت جميع الأديان السماوية بحقيقة ثابتة ، وهي أن الإنسان لا يفنى بعد الموت ، بل ينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر ، حيث يُثاب أو يجازى على أعماله الحسنة أو السيّئة .
وقد ذكّر أنبياء الله ورسله (ع) جميعاً أتباعهم بأن هذا العالم بتشكيلاته ونظامه لم يوجد عبثاً ، وأن كلّ ما يجري على هذه البسيطة من أعمال وممارسات سيعرض على طاولة الحساب ، بعد الانتقال من هذه العالم . ولذا فقد كانوا (ع) يُعدّون أنفسهم وأتباعهم للمستقبل المحتوم ، وقد صرّحت آيات مباركات بالمعاد والحساب والثواب والعقاب والجنّة والنار ، منها : ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار ) .(26)
( جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) .(27)
( ربّنا ما خلقت هذا باطلاّ سبحانك فقنا عذاب النار ) .(28)
(فادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى الكافرين ) .(29)
( هذا ما توعدون ليوم الحساب ) .(30)
يوم يقول المجرمون المصّرون على جرائمهم حين يلاقون يومهم الذي يوعدون ، وحين يرون العذاب : ( ربِّ ارجعونِِ* لعلّي أعمل صالحاّ فيما تركت ) .(31)
فيجيئ الردّ الإلهيّ : ( كلاّ إنّها كلمة هو قائلها ومِنْ ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثون ) .(32)
ــــــــــــ
(1) مجلّة دانشمند (الفارسيّة) ، عدد شهر بهمن (الفارسي) من سنة 1346 هـ .ش .
(2) الرعد : 2 .
(3) نهج البلاغة ، فهارس الصالح ، ص225 .
(4) الأنبياء : 22 .
(5) الإسراء : 42 .
(6) البقرة : 115 .
(7) الأنبياء : 52-54 .
(8) الأنبياء : 62 .
(9) الأنبياء : 63 .
(10) الأنبياء : 65-67 .
(11) الإسراء :21 .
(12) الأنعام : 165 .
(13) المائدة : 8 .
(14) النساء : 58 .
(15) النحل : 90 .
(16) أصول الكافي ، للكليني ، ص168 ، ط . الآخوندي .
(17) الإسراء : 88 .
(18) هود : 13 .
(19) البقرة :23 .
(20) ص : 45-47 .
(21) المائدة : 55 .
(22) الأحزاب : 33 .
(23) النساء :59 .
(24) اسم الرسول الأكرم محمّد ( صلى الله عليه وآله )، وكنيته أبو القاسم .
(25) منتخب الأثر ص101 ، نقلاً عن كتاب كفاية الأثر ، وينقل مؤلّف هذا الكتاب في هذا المجال رواية من كتّاب الشيعة والسنّة ، صرّح النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فيها بأسماء الأئمّة الاثني عشر ( عليهم السلام ) واحداً بعد واحد .
(26) التوبة : 72 .
(27) طه : 76 .
(28) آل عمران : 191 .
(29) النحل : 29 .
(30) ص : 53 .
(31) المؤمنون : 99-100 .
(32) المؤمنون : 100 .

Check Also

غیبة لابدّ منها

غیبة مهدی هذه الامة غیبة لابدّ منها، لانه مهدی هذه الامة، ولان وعد الله سبحانه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *