ان تتعامل مع الإمام كنهج للحياة، للدنيا التي هي مزرعة الآخرة، فإذا تعاملت معه كنهج لما بعد الحياة الدنيا فانك سوف لن تستفيد منه شيئا أبداً، فعظمة النهج في مدى قدرته على التفاعل مع الحياة، وليس مع الموت أو مع ما بعد الحياة الدنيا، فكما ان القرآن الكريم تكمن سر عظمته في انه نهج لحياة سعيدة وكريمة، كذلك فان نهج الإمام يجب ان نتعامل معه كنهج حياة وليس نهج ممات، اوليس هو عدل القرآن؟.
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يسع الإنسان في ذكرى ولادة الإمام علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين عليه السلام في الثالث عشر من شهر رجب الاصب في جوف الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، الا ان يحاول الغوص في بحر علومه ويصطاد بعضاً من جواهره الثمينة، ولا يتحقق ذلك لكل من غاص، فللأمر شروطه، منها:
أولاً: ان تتعامل مع الإمام كنهج للحياة، للدنيا التي هي مزرعة الآخرة، فإذا تعاملت معه كنهج لما بعد الحياة الدنيا فانك سوف لن تستفيد منه شيئا أبداً، فعظمة النهج في مدى قدرته على التفاعل مع الحياة، وليس مع الموت أو مع ما بعد الحياة الدنيا، فكما ان القرآن الكريم تكمن سر عظمته في انه نهج لحياة سعيدة وكريمة، كذلك فان نهج الإمام يجب ان نتعامل معه كنهج حياة وليس نهج ممات، اوليس هو عدل القرآن؟.
هذا يتطلب منك ان لا تتعامل مع الإمام بالغيبيات، لان الغيب لا يصلح لان يكون حجة على الإنسان، فلو لجأ المرء إلى تفسير كل ما لا يفهمه من حياة الإمام عليه السلام للغيب لتفسيره وفهمه، فان ذلك يعني ان الإمام سيتحول إلى أسطورة غيبية لا تصلح لان تكون حجة على الخلق أجمعين إلى يوم الدين، فالإمام كان يتعامل مع الحياة كأي بشر، بواقعية، بحلوها ومرها، فكان، مثلا، يصبر على الاذى في سبيل الله، بل انه عليه السلام عرض نفسه على طبيب نصراني ليفحصه ويقف على حالته المرضية عندما تعرض لضربة عدو الله ابن ملجم في محراب الصلاة وبذلك السيف المسموم.
ثانياً: ان لا تتعامل معه على أساس انه تاريخ مضى وانقضى، أبداً، وانما يجب ان تتعامل معه كشاهد حاضر في مواقفه وخطبه وحكمه ورسائله ونصائحه، في سلمه وفي حربه، كرجل في السلطة وخارجها، كمؤمن يتعبد الله بطريقة الاحرار لأنه أهل للعبادة، وهكذا.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان عليك ان لا تحصره في زاوية من التاريخ، تستقطع منه ما يثير فضولك وتتجاهل ما يحكمك، تستقرئ ما ينفعك وتتجاوز عما يفرض عليك التزاماً ولو من نوع ما.
ثالثاً: ان تتعامل معه كمنهج شامل فلا تسجنه بقضايا تاريخية أو بمذهب محدد أو حتى بدين بعينه.
انه منهج للحياة أولاً ولمستقبل أفضل وأحسن ثانياً، وهو منهج شامل يمكن ان يتعلم منه الإنسان إذا ما انفتح عليه بلا تعصب أو تمذهب أو تحزب أو طوباوية أو حتى مثالية.
لو لم يكن الإمام منهج للحياة لما تأثر به غير المسلمين، ولو لم يكن نهجاً إنسانياً لتجاهله الآخرون، بل لما ظل خالدا بأفكاره وآرائه ومواقفه ودروسه كل هذا الزمن المديد، لتأتي الأمم المتحدة، وبعد (14) قرنا لتوصي الدول التي تريد ان تحقق التنمية البشرية وعلى مختلف الأصعدة، بتبني عهده عليه السلام إلى مالك الاشتر لما ولاه مصر، أو لا يعني ذلك ان نهجه في بناء الدولة والذي كان قد حدده قبل (1400) عاما يصلح اليوم، وفي القرن الواحد والعشرين، ليكون نهجا لبنائها كذلك؟.
يأخذ علي البعض أحيانا، عندما استشهد بقول للإمام أو خطبة أو رأي، بان الاستشهاد هذا دليل على تشيعي مثلا، أو تعصبي، أو حتى على تخلفي، في مسعى من البعض لتحجيم الإمام وتقزيم هويته وحصر عنوانه، وكل ذلك خطأ في خطأ بل جريمة لا تغتفر، فان وضع الإمام في صندوق، مهما كان عنوانه، ووصد أبوابه، ليس خسارة للإمام أبداً، فالإمام لا يخسر شيئا في هذه الحالة، وانما الخسارة ستكون لنا عظيمة لأننا نخسر بذلك نبعا عظيما وثرا ومتدفقا من الفكر والثقافة وقيم الحضارة ومعاني السمو الأخلاقي، ولذلك فان من يتعامل مع الإمام على انه تاريخ انقضى أو انه يتعامل معه كغيب لا يجوز تفسير حياته بوعينا ومقاييسنا أو ان يتعامل معه على انه (إمام الشيعة) مثلا أو حتى (خليفة المسلمين) فانه واهم وهو الخاسر الأكبر من كل ذلك.
ان الإمام ليس لزمان محدد، وهو ليس لطائفة دون أخرى، أو لدين دون آخر أو لقومية دون أخرى، انه للإنسان، في كل زمان ومكان، فلماذا لا يحق لأمثالي الاستشهاد بنظرياته وآرائه بحجة تقادم الزمن عليه؟ أو بسبب هويته، مثلا؟ لماذا يحق للآخرين ان يستشهدوا بأفلاطون ونظرياته وبأرسطو وأقواله وبمونتسكيو وكتاباته وبماركس وأقواله وبكائن من كان ولا يحق لي ان استشهد بما قاله الإمام؟ لماذا يحق للأمريكان مثلا ان يفتخروا بدستورهم الذي مر عليه أكثر من قرنين من الزمن من دون ان يقول احد بأنه قديم النزعة أو مستهلك في آرائه، ولا يحق لي ان افتخر بالإمام الذي لم يظهر لحد الآن كاتب أو باحث أو مفكر أو منظر في كل العالم ليشير إلى خطأ واحد في قول من أقواله أو نهج من مناهجه أو نظرية من نظرياته؟ بل ان كل من كتب أو نظر أو بحث في القضايا التي تخص الإنسان وعالمه وحياته، من سياسة واجتماع واقتصاد وتربية وحقوق وإدارة ودولة وحرب وسلم ونظام وسلطة ومعارضة وغير ذلك، لابد له ان يستلهم من الإمام شيئا ان لم يكن أشياء، ولمن أراد المزيد بهذا الصدد يمكنه قراءة كتاب الأديب اللبناني الكبير الأستاذ جورج جرداق والموسوم (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) والذي قارن بين الإمام عليه السلام وأرسطو كنموذج للفكر الإنساني، وبينه وبين الثورة الفرنسية كحركة تغييرية معاصرة وبينه وبين شرعة حقوق الإنسان الدولية كنص حقوقي عالمي حديث، فوجد ان الإمام بزهم جميعا وتفوق عليهم بلا نقاش.
ان الإمام لا يفهمه الا المتعلمون، ولا يعي نهجه الا الذين هم على سبيل نجاة، اما الجاهلون أو المتعصبون أو المتخندقون خلف مذاهبهم ودياناتهم واثنياتهم ومناطقهم وخلف الجغرافيا، فانهم لا يمكنهم ان يتعلموا من الإمام شيئا أبداً.
ان من يقرأ الإمام بعقلية منفتحة بلا تعصب أو تخندق وبأي شكل كان، وحده الذي يمكن ان يستنتج مقولة عظيمة بمقاييسنا قليلة بمقاييس العلم والعلماء بحقه، كتلك التي قالها احد ابرز مفكري أوربا المعاصرة واقصد به جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف الفرنسي الأهم في عصر العقل من التاريخ الأوربي والتي ساعدت فلسفته في تشكيل الأحداث السياسية التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية حيث أثرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة، والذي قال: «ما وجدت في التاريخ من يستحق كلمة أستاذ بتمام مفهومها الا رجل واحد وهو علي بن أبي طالب».
ان من الجريمة بمكان ان ننتزع الإمام من فضائه الإنساني، فنتعامل معه كرمز ديني أو مذهبي أو قومي أو ما أشبه، فقراءة تراث الإمام وما تركه للأجيال يؤكد حقيقة في غاية الأهمية وهي ان الإمام استهدف بنهجه الإنسان كانسان خلقه الله تعالى وكرَّمه فهيأ له كل شئ خلق من اجل إسعاده ومن اجل حريته وكرامته، فهو لم يستهدف بعدله المسلمين فقط كما انه لم يسع لتحقيق حرية أو كرامة الشيعي دون غيره، أبداً، انه استهدف الإنسان في كل ما قال وفعل، ولذلك تراه يشرع الشهادة للمرء إذا ما تعرضت امرأة غير مسلمة إلى الظلم على يد ظالم، فيقول: «وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالاْخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جديرا».
ان من علامات بؤس (المسلمين) سجنهم للإمام في زنزانات عقولهم الضيقة، الدينية منها والمذهبية والعنصرية وغيرها، إذا بهذا الإمام العظيم في كل شئ يتحول عند البعض منهم إلى سبب من أسباب (حرب الطوائف) أو عامل من عوامل الاثارات الطائفية، فيخسرون واحدة من أعظم معاجز رسول الله صلى الله عليه واله على حد قول الإمام الراحل المرجع الفقيه السيد محمد الشيرازي قدس سره والذي يعتبر الإمام عليه السلام إحدى أعظم معاجز الرسول الكريم بعد القران الكريم.
انظروا كيف حولت الإنسانية الكثير من الفلاسفة والعلماء والمفكرين إلى رموز إنسانية بغض النظر عن هويتهم ومسقط رأسهم، فيما يعتقل المسلمون الإمام في سجون ضيقة، وهو الأجدر من بين الجميع لان يكون رمزا إنسانياً بامتياز وبلا منازع؟ وكل ذلك بسبب الجهل والعصبية والطائفية المقيتة.
لقد سمعت احدهم يقول بأنه صرف (20) عاما من وقته ليتثبت من رواية ولادة الإمام في جوف الكعبة، ولكنه لم يصرف (20) دقيقة من حياته البائسة ليقرأ الإمام علماً ومعرفة ومواقف ومنهج.
كم هم بؤساء المسلمون؟ وكم هم متخلفون؟ وانا اقسم لو ان الإمام كان عند غير المسلمين لأسسوا باسمه مليون جامعة ومعهد ومركز بحثي لدراسة نهجه وفكره وتراثه.
يكفي دليل على تخلف المسلمين ان عندهم الإمام ومع ذلك يعيشون في تيه له أول وليس له آخر، ويكفي دليل على بؤسهم ان عندهم الإمام ومع هذا فان الخلافات والجهل والأمية تلبسهم من قمة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم.
ولا غرابة في ذلك، اوليس الأبناء على أسرار آبائهم؟ أولم يسال احدهم الإمام: كم شعرة في راسك يا أمير المؤمنين؟ عندما خاطبهم الإمام بقوله: سلوني قبل ان تفقدوني؟.
ولان الإمام للإنسان بغض النظر عن كل شئ، لذلك وعاه كثيرون من غير المسلمين، بل ان الكثير من (المسلمين) جفوه وعادوه في حياته والى اليوم فيما انصفه كثيرون من غيرهم، الم يقاتله الطاغية معاوية بن أبي سفيان ابن آكلة الأكباد هند بنت عتبة قاتلة حمزة سيد الشهداء وآكلة كبده؟ أو لم يسن سبه ولعنه على المنابر لأكثر من (80) عاما؟ الم يقتل كل من تشيع له صبرا؟ كما حصل ذلك للصحابي الجليل والعظيم حجر بن عدي وابنه وصحبه الشهداء الكرام الميامين رضوان الله تعالى عليهم؟ واليوم، الم يثأر التكفيريون والإرهابيون لابن آكلة الأكباد فينبشوا قبر من قتله معاوية لعنه الله واخزاه، ومن والى علياً عليه السلام؟.
ان هذه الجريمة أكدت بما لا يدع مجالا للشك من ان الصراع بين قيم الحق والعدالة والمساواة التي جسدها الإمام علي عليه السلام وقيم الباطل والظلم والحيف والقتل والذبح والتدمير والغش والخداع والتضليل والغدر والمكر التي مثلها الطاغية معاوية، لا زال مستمرا وسيظل مستمرا إلى يوم يبعثون، لأنه صراع أزلي لا ينتهي بمقتل احد أو اغتيال آخر أبداً، فمنذ ان قتل قابيل هابيل ظلما وعدوانا وحسدا، بدا الصراع بين النور والظلمة، بين الحق والباطل، ولقد شاء الله تعالى ان يجسد رجال صالحون جبهة الحق في كل فترة زمنية من التاريخ، فيما يجسد أشرار جبهة الباطل في كل فترة زمنية كذلك، ويخطئ من يظن ان بإمكانه ان يقف على الحياد ليتفرج على هذا الصراع وجبهاته ورجالاته وأدواته، أبداً، ففي صراع الحق والباطل لا بد من موقف واضح وثابت، ولا يجوز أبداً ان تختار سيدنا القاتل وسيدنا المقتول في نفس الوقت لتترحم وتترضى عليهما، ان ذلك استخفاف بالعقل الذي هو أعظم ما خلق الله عز وجل، وهو استهانة بكرامة الإنسان وحريته التي تمنحه القدرة على الاختيار بين الصح والخطأ.
ان عالمنا العربي والإسلامي يغلي اليوم في مرجل الصراع بين الحق والباطل، وفيه ما فيه من القتل والتدمير وتفجير السيارات المفخخة والعبوات اللاصقة والأحزمة الناسفة، فكيف يجيز عاقل لنفسه ان يقف على الحياد في هذا الصراع؟ ان من يفعل ذلك سيكتوي بنيرانه شاء أم أبى، وان عاجلا أم آجلا، و (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)؟.