خصوصية الإمام المهدي عليه السلام في العملية القضائية

ولكي يكتسب الحكم القضائي صحته وسلامته لابد أن يكون دقيقاً في حيثياته، وعادلاً في تحقيقاته، ذلك لأن المهمة الأساسية للعمل القضائي هو الفصل في الخصومات وحسم النزاعات التي تحصل بين العباد بشكل عادل عبر رفع الحيف عن المظلوم وإعطاء كل ذي حق حقه، ولا يتحقق ذلك في العملية القضائية إلا من خلال البينات والأدلة المتحصلة في مجلس القضاء والتي من خلالها تنكشف حقيقة الواقعة موضوعة التخاصم بين أطراف الدعوى.

المراد بالعملية القضائية: هي ذلك القياس المنطقي الذي مقدمته الكبرى هي النص التشريعي، ومقدمته الصغرى الواقعة مثار الخصومة، ونتيجته هو الحكم الذي يصدره القضاء(1) أو القاضي بتعبير أدق.

ولكي يكتسب الحكم القضائي صحته وسلامته لابد أن يكون دقيقاً في حيثياته، وعادلاً في تحقيقاته، ذلك لأن المهمة الأساسية للعمل القضائي هو الفصل في الخصومات وحسم النزاعات التي تحصل بين العباد بشكل عادل عبر رفع الحيف عن المظلوم وإعطاء كل ذي حق حقه، ولا يتحقق ذلك في العملية القضائية إلا من خلال البينات والأدلة المتحصلة في مجلس القضاء والتي من خلالها تنكشف حقيقة الواقعة موضوعة التخاصم بين أطراف الدعوى.

وعند مراجعة مؤلفات أعلام الأمة وتتبع مرويات بيت العصمة الطاهرة الخاصة بالسيرة القضائية للإمام المهدي المنتظر عليه السلام لما بعد الظهور نجدها تتجسد في خصوصية متفردة عبر النقاط التالية:

أولاً _ ورد عن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وبالسند الصحيح قوله: (أبشركم بالمهدي يبعث في اُمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(2)

فهذا الحديث الشريف يدل على ان الإمام المنتظر بعد الظهور وإنشاء دولته المباركة التي تأخذ _ عبر الأيام _ بالتوسع لتشمل كافة بقاع المعمورة، فيأخذ القضاء فيها بعداً عالمياً في إشاعة العدل، بعدما تجذّرت عند الأمم عوامل الظلم والجور، واستشرت دكتاتورية وجبروت القابضين على السلطة من الإستكباريين وأذنابهم.

والسؤال الذي يثار هنا هو: كيف يتسنى للإمام عجل الله فرجه تحقيق العدالة القضائية في بعدها العالمي ومركز عاصمته وولايته الميمونة (ظهر الكوفة)؟ والإجابة على ذلك: إنه حينما يبعث القضاة _ وهم النخبة الذين اختارهم لكفاءاتهم التي عرفها بالأمر الاعجازي _ إلى كافة المدن والأمصار فإنهم لا ينحرفون عن الحق إذ يقضون بقضاء الحق كون الإمام عليه السلام (لم يبق بين يديه أحد إلا عرفه صالح أو طالح) وذلك إبان فترة حكمه العادل كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام.(3)

أما في حالة ما إذا استعصت على أحد قضاته مسألة ما أو احتاج منهم إلى رفع إشكالية ما عن قضية مستحدثة مثلاً كي يعطي فيها قراره الحاسم فإن حلها يتلمسه من خلال ما يقرأه في كفه. حيث هناك رواية مفادها ان الإمام لا يرسل قضاته إلى الأماكن الأخرى الا بعد إرشادهم في قراءة ما تعترضهم في مجالس القضاء من مستعصيات القضايا ومستحدثات المسائل من خلال ما يترآى في كفهم.(4) وهذا بحد ذاته اعجاز اتسم به القضاء في دولة الإمام المهدي الذي لم يسبق إليه سابق، وما لم نجده حتى في قضاء أقضى الأمة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إذ كثيراً ما كان ينقض أحكام شريح بن الحارث ويصحح أخطاءه لدرجة حدت به بعدم السماح في تنفيذ الأحكام التي يصدرها شريح في قضايا جرائم الحدود إلا بعد عرضها عليه بغية مصادقتها أو نقضها.(5)

لا بل انه نفاه إلى بانيقيا (الحيرة حالياً) مدة سنتين ليقضي بين اليهود في منازعاتهم(6) فتأمل!

ثانياً ـ تذكر بعض الروايات ان مرجع تسمية الإمام المنتظر بالقائم يعود إلى قيامه بالحق.(7) والقيام بالحق يعني إنشاء كيان دولته الجليلة على أسس الإسلام الحقيقي الذي من شأنه إشاعة الخير والرحمة بين العباد وصيانة الحقوق المشروعة من أي اعتداء، ويدخل في مندرجات ذلك إعطاء كل ذي حق حقه ومكافحة الاجرام والقضاء عليه لا تحجيمه فحسب، وذلك عبر الانتقام من الظلمة والقتلة ما دامت الجريمة في واقعها تشكل اعتداءً على الضرورات الخمس المتمثلة في المنظور الإسلامي: حق الحياة وسلامة الجسم، وحق حماية الأموال المشروعة وحق المعتقد وحماية الدين والذود عنه وحق حماية العقل وأخيراً حق حماية النسل والعرض.

رابعاً ـ الملاحظ من الأحاديث المروية عن بيت العصمة ان القائم عليه السلام إذا خرج فإن الباريء تعالى يلهمه فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استنبطوه ويعرف الصالح من الطالح بالتوسم(8) وقد قال سبحانه (إِنَّ فِي ذلِكَ لآَياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ).(9)

ويذكر انه في عمليته القضائية يحكم بين الناس بحكم داود دون الحاجة إلى بيّنة(10) أي يكون قضاؤه مستنداً على العلم (اللدنّي) لا الأدلة والبيّنات وهو ترسيخ للعدل الحقيقي وهذا يعني ان قرار حكمه في القضية مثار التنازع بين المتخاصمين لا يقوم على الحقيقة القضائية التي تنصب على الأدلة التي يقدمها الخصوم في مجلس القضاء إنما تعتمد على الإلهام الرباني والتوسم الذي من خلاله تكتشف حقيقة الواقعة مثار النزاع فعلاً.

وهناك فرق بين الحقيقتين: فالحقيقة القضائية سندها الأدلة والبيّنات التي قد يدل ظاهرها على خلاف باطنها في حين ان الحقيقة الواقعية هي الواقع الفعلي الحاصل في الحادث مثار النزاع.

ولابد من التنويه هنا بأن هناك رواية تقول: ان نبي الله داود عليه السلام دعا ربه ان يعلمه الحقيقة الواقعية كي يقضي بين الناس بما هو عنده من حق فعلي، فأوحى إليه سبحانه بعدم إمكانية احتمال الناس لتلك الحقيقة لأنها خارج قدراتهم الفكرية الا أنه استجاب له فجاء إليه رجل يتظلم من آخر وعندما انجلت له الحقيقة الواقعية أمر بإعدامه فثارت ثائرة بني إسرائيل متسائلين كيف يصح الحكم على المظلوم في حين ان الحقيقة ان المتظلم المذكور أقام شكواه الكيدية للتمويه عن حقيقة فعله إزاء المشكو منه حيث ان الحقيقة الواقعية تشير إلى ان ذلك المشتكي قد قتل المشكو منه وسلب ماله وأراد تضليل القضاء فقدم هو شكواه الكيدية المذكورة وهنا دعا داود عليه السلام ربه في أن يعيد له القضاء بالبيّنة(11) لا العلم (اللدني) الذي لا تقوى البشر على وعيه وإدراك مداليله.

وقد ورد عن الرسول الخاتم وبالسند المعتبر انه قال (إنما أقضي بينكم بالبينات والأَيمان ولعل بعضكم ألحن بحجته عن بعض فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له قطعة من نار)(12) فالرسول كان يعتمد في قضائه على أمرين:

الأول: إثبات الوقائع القائمة على البينات التي له فيها سلطة تقدير مدى كفاءتها في كشف الحقيقة من عدمه في القضية مثار التخاصم.

أما الأمر الثاني فهو حكمه على تقدير ثبوت الوقائع.

وقد أوصى النبي الأمين وصيه علياً حينما بعثه قاضياً إلى اليمن بالقول: (إذا جلس بين يديك خصمان فلا تقض حتى تسمع عن الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)(13) كما روي عنه قوله (إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له فربما أتى خصمه وقد فقئت عيناه).(14)

ومدلول تلك الأحاديث الشريفة تدل على أن الله جل جلاله أجرى أحكام رسوله الأمين على الحقيقة القضائية التي يستوي فيها هو مع غيره ليصح اقتداء قضاة الأمة الإسلامية بقضائه هذا. وإذا كانت الحكمة الإلهية قد قضت بضرورة ان يقضي الرسول ووصيه بالحقيقة القضائية خصوصاً وأن الإسلام لا زال غضاً طرياً وفي بداية عهده فإن الأمر يختلف في عصر دولة الإمام المهدي الذي اقتضت حكمته تعالى أن يشيع العدل الإلهي في كافة أنحاء المعمورة بقوة السيف ـ كما تدلنا الروايات ـ وان مسوغات القضاء في عهده بالحقيقة الواقعية القائمة على الإلهام والعلم اللدني تبرز واضحة إذا ما دققنا روايات ما سيحصل بعد الظهور من الإسلام الجديد حيث يشيع أحكام الإسلام الحقيقي لا الإسلام الشكلي الذي حفته البدع والإنحرافية وهنا تتجلى خصوصية العملية القضائية لعصر الظهور لاعتمادها الحقيقة الواقعية في الحكم والقضاء وتحقيق شمولية العدالة بأبهى تجلّياتها سماوية على الأرض والحمد لله رب العالمين.

القاضي فاضل عباس الملا
الجامعة الإسلامية ـ قسم القانون

الهوامش
(1)  القاضي ضياء شيت خطاب/ فن القضاء ص 17 بغداد 1984.
(2)  راجع مثلاً السيد ابن طاووس/ الملاحم والفتن ص116 النجف 2004 وسبط ابن الجوزي/ تذكرة الخواص ص 264 _ المطبعة الحيدرية 1964 الشبلنجي/ نور الأبصار ص 170 بغداد 1984 وكمال الدين ج 1 ص 72 طبعة 1425 هـ.
(3)  السيد عدنان البكاء/ الإمام المهدي المنتظر ج 1 ص 269 بيروت 1999.
(4)  أبو زينب النعماني/ غيبة النعماني ص 319.
(5)  فاضل عباس الملا/ الإمام علي ومنهجه في القضاء ص 116 نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية _ بيروت 1999.
(6)  المجلسي/ البحار ـ المجلد الثامن ص 729 الطبعة الحجرية/ 1304هـ.
(7)  الشيخ المفيد/ الإرشاد ص 411 المطبعة الحيدرية 1972 والبكاء ص 270 سبق ذكره.
(8)  السيد البكاء ص 269 سالف الإشارة.
(9)  سورة الحجر/ 75 و76.
(10)  الشيخ المفيد ص 413 وقد سلف ذكره وإعلام الهداية ج 14 ص 221 وما بعدها طبعة عام 2004.
(11)  السيد الجزائري/ قصص الأنبياء ص 380 ط6 والوسائل _ المجلد السادس الطبعة الحجرية عام 1307هـ.
(12)  الوسائل ـ سبق ذكره وبنفس المعنى يمكن الرجوع إلى صحيح البخاري ج 3 ص 223 والقرطبي/ أقضية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ص 24 مصر 1346هـ.
(13)  الصدوق/ من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 7 والماوردي/ الأحكام السلطانية ص 67 مصر 1966.
(14)  ابن الأثير/ المثل السائر ج1 ص 135 مصر 1939.

شاهد أيضاً

الإمام المهدي خليفة الله في أرضه(عجّـل الله فرجه)

انّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كثيرة. وأردت أن أستطرق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.