الحديث عن المهدوية بوصفها مشروعا حضاريا مستقبلياً لا يدل ـ كما يتصور البعض ـ على وجود قطيعة تبترها عن واقعها التاريخي لترتفع بها إلى حالة ما بعد التاريخ، لأنه ليس هنالك من مبرر مقبول لتلك الفرضية حتى وإن سلمنا بعصمة صاحب المشروع وكونه مؤيدا بمدد إلهي وأنه سوف يقوم بأعمال لا ينهض بأعبائها أي قائد عظيم عرفناه؛ إذ لابد أن نضع في حسباننا أن تلك الأعمال مهما كانت عظيمة ما هي إلا نتاج إنساني تاريخي، وإن كانت من طراز خاص لا عهد لنا به.
ولو كان لخصوصية التأييد من السماء تأثير في تبرير عزل الظاهرة المهدوية عن جملة التجربة الإنسانية الحضارية لجاز أن نعزل الظاهرة الدينية ككل عن المجال التاريخي ولما صح أن نتعامل مع التراث الديني إلا بوصفه معطى غيبي لا تطاله يد البحث والدراسة والنقد والتحليل، ولا يوجد من يدّعي ذلك، فالمنجزات التي قام بها النبيN على صعيد التغيير الحضاري لا يمكن أن تنكر، ولم يدعِ أحد أن حضارة الإسلام بسبب استمدادها من السماء قد أضحت خارج مجال التاريخ بحيث يسوغ لنا أن نلحظ نوعا من (القطيعة) بينها وبين ما هو تاريخي بالفعل.
وبعبارة أخرى: فإن المهدوية التي نتحدث عنها لا يمكن أن تنفصل عن سلسلة التجارب الإنسانية الأخرى التي تم تسجيلها باعتبارها من جملة أنشطة بني البشر في الميادين الحياتية المختلفة، نعم، هي تعلو عليها لا أنها تقطع معها، لأن (القطيعة التاريخية) المفترضة تستلزم العبور من التاريخ إلى ما وراءه، والقفز من الواقع إلى المثال والطوبى. في حين أن المهدوية ليست سوى حدث عظيم وإنجاز حضاري متفوق سينبثق على إثر حالة حضارية متأزمة ما عادت تلائم متطلبات إنسان العصر المتاخم لعصر الظهور، أعم من أن تكون تلك المتطلبات معنوية أو مادية.
ولعل الذي عزز فرضية (القطيعة التاريخية بين المهدوية ومجمل التجربة التاريخية السابقة عليها) عند جماعة من المثقفين في جيلنا المعاصر علاوة على ما تقدم هو شيوع ثقافة (هجر التراث) التي روّج لها دعاة الحداثة ـ والى حدٍ مّا دعاة ما بعد الحداثة ـ المتمثلة بالعزوف عن كل ما لا يمت إلى العلم الحديث بصلة، حيث تمت مصادرة كافة أصعدة الثقافة السابقة على مرحلة الحداثة بمجرد تصنيفها في خانة (التراث)، ولأجل تقوية الانفصال المزعوم بين المرحلتين اخترعوا اصطلاح (القطيعة) وتم اصطناع وسائل وأدوات منهجية ومفهومية هائلة لإتمام مهمة الفصل التام بين ظاهرتي الحداثة والتراث. ومن هنا ساغ أن نتحدث عن أصناف متعددة من القطيعة: كالقطيعة الابستيمولوجية والقطيعة الفلسفية والسياسية والاقتصادية… وهلم جرا.
وبطبيعة الحال فإن المثقف الذي يعيش في خضم هذا الجو الذي تسود فيه ظاهرة الانتقاص من التراث وتزييف منجزاته لا يتسنى له أن يلتفت إلى أن الترويج والتسويق المفرط لمفردات ظاهرة الحداثة في الثقافة العالمية كانت تهدف فيما تهدف إليه إقصاء التجربة الدينية وعدّها مجرد حالة تراثية، وبالتالي التعامل معها انطلاقاً من مبدأ التزييف والانتقاص أسوة بمثيلاتها من سائر الحالات التراثية الأخرى. وهكذا فإن ثقافة الحداثة كانت أكبر من مجرد ثقافة، إنها في الواقع: ايديولوجية موظفة من قبل مؤسسات ثقافية خاصة، للتشكيك في قيمة المعرفة الدينية القائمة على الوحي ومن ثم تعبئة النخب الثقافية في البلدان الإسلامية لضرب الدين في الصميم.
ومن أجل هذه الغاية تم تداول الأدوات المفهومية والمنهجية على نطاق واسع في الأوساط النخبوية كسلاح أيديولوجي غير معلن، وبوشر بالعمل على يد وساق للنيل من المعالم الحضارية للدين الإسلامي بحجج واهية ترتد جميعها إلى عدّ الدين من جملة التراث المقطوع عنه. فإن الدين طبقا لما يروج له دعاة الحداثة يندرج في خانة الغيب أو ما وراء الطبيعة وهي أمور لم يعد لها أية واقعية في عرف الحداثيين باعتبار أن كل ما لا يمكن التحقق منه بالتجربة أو لا يثبت بأسلوب الاستدلال الوضعي فإنه لا محالة يقبع في زاوية الخيال والطوبى.
ولهذه الغاية فقد انبرى جملة من المفكرين ممن تشرّب بالفكر الحداثي المؤدلج هذا ـ وفيهم إسلاميون ـ إلى إعمال مناهج المعرفة الحداثوية في عامة التراث الإسلامي فكرا وعقيدة ورؤية، وانصرف بعضهم إلى تطبيق أدوات التحليل والتفكيك والنقد بشكل سافر لا مثيل له، وانسحب الأمر ليطال النصوص المقدسة كالقرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا نحتاج إلى شاهد أوضح من مشروع المفكر الفرنسي الجزائري الأصل محمد أركون الذي طرحه في جملة من كتبه، وكذا ما قام به المفكر المغربي محمد عابد الجابري في سلسلته (نقد العقل العربي).
وإذا تخطينا مرحلة الحداثة لنعبر إلى مرحلة ما بعد الحداثة فإننا نشهد بروز جملة من المفاهيم والأفكار التي يزعم أصحابها أنها التتويج التاريخي للمرحلة السابقة، وتشترك هذه المفاهيم جميعها في قيد أضيف أو أقحم على الاصطلاحات المتداولة في الحقبة الحداثوية وهو قيد (النهاية) فأصبحنا نتعامل مع مفاهيم مثل: نهاية التاريخ، ونهاية العقل، ونهاية الأدب، ونهاية الفن، ونهاية الدين…
ولو تأملنا في معنى (النهاية) المضافة فإننا نجد أنها ليست سوى تعبير آخر عن (القطيعة) ولكنها قطيعة مع كل مقومات المرحلة السابقة، وفي ضوء هذا الفهم فإن ما يسمى بـ (ما بعد الحداثة) ما هو إلا نمط جديد من الحداثة لأنه ينطلق هو الآخر من مبدأ (القطيعة)، وقد يقال: إذا كانت ما بعد الحداثة تقطع مع الحداثة فلابد أنها لا تقطع مع التراث، وعليه فإن القطيعة الما بعد حداثوية ما هي إلا وصل بالتراث وعودة إليه! إلا أن هذا الاستنتاج خاطئ لأن القطيعة ليست مجرد مفصل يقع خارج الحداثة يقوم بفصلها عن التراث كما يتصور هذا المستشكل، فتكون القطيعة أشبه بأداة السلب بحيث إذا أضيفت إليها قطيعة أخرى كانت بمثابة سلب السلب وهو إيجاب فقطيعة القطيعة هي وصل كما يزعم، كلا فإن (القطيعة) مبدأ حداثوي ارتكازي لا يقع خارجها وإنما هو من ذاتياتها إذ لا يمكن أن تتحدد ماهية الحداثة إلا به، فمن المنطقي أن تصبح ما بعد الحداثة المرتكزة على مبدأ (القطيعة) ثقافة حداثوية بامتياز، وإن لم يتفطن لهذا الأمر أغلب من كتبوا عنها، فرجع الفعل الما بعد حداثوي في التحليل النهائي إلى حداثة تشتغل طبقا لآليات النفي بعد حداثة قد اشتغلت طبقاً لآليات الإثبات.
صحيح أن الحداثة وما بعدها تمثلان مرحلتين منفصلتين إلا أن التعمق في فهم آليات اشتغال كل منهما يؤكد على وحدة المسار بل وحدة الأهداف كذلك. ومن هنا فإن (النهايات) المزعومة في منطق ما بعد الحداثة لا يراد بها نفي وإنكار ما أضيفت إليه وإنما يقصد بها الإشارة إلى بلوغ مرحلة من النضج في الوعي بحيث لا ينبغي التقيد بعدها بأية حدود مفترضة ومن جملتها المبادئ والأسس والقواعد التي تفرضها الأنظمة المعرفية التقليدية بكافة أشكالها. ومنه يتضح علة اللجوء إلى هذه النهايات في الدلالة على هذه المرحلة.
ولكن ما هو المسوغ الحقيقي لمثل هذا الطرح؟ هل يصدر هو الآخر عن ايديولوجية خاصة؟ ومن أجل تبيّن ذلك لنأخذ ـ على سبيل المثال ـ أطروحة المفكر الأمريكي الياباني الأصل فرنسيس فوكاياما حول (نهاية التاريخ) والتي تعد من أبرز المحاولات التي تم تصنيفها كعمل ما بعد حداثوي واضح المعالم، ويقوم هذا المشروع على فكرة مفادها أن الديمقراطية هي النموذج الأسمى للفكر السياسي الإنساني وليس ثمة نظام غير الديمقراطية يمكنه أن يتفق مع الطبيعة البشرية، ومن هنا فقد بشّر فوكوياما بسيادة الديمقراطية أرجاء المعمورة وتراجع كافة الأنظمة الأخرى بما فيها النظام الإسلامي، وهو يؤكد على أن الأصولية الإسلامية هي أحدث تحدٍ فكري سياسي للنظام الليبرالي، لكنه تنبأ للأصولية الإسلامية بالفشل الذريع حيث اعتبر أن استلهامها من التراث الإسلامي القديم ما هو إلا عودة إلى الوراء، وهذا يدل على عدم انسجامها مع الجديد وبالتالي فشلها. وعنده أن فشل الأصولية الإسلامية بعد انهيار الشيوعية يعتبر مؤشراً واضحاً على نهاية التاريخ وهكذا فإن الديمقراطية الليبرالية سوف تكون هي التجربة الأخيرة على الصعيد الثقافي والسياسي والحضاري؛ وهي لذلك علامة جليّة على نهاية التاريخ.
ويبدو أن هذه النتيجة التي توصل إليها هذا المفكر ما هي إلا حلقة تالية لمشروع (صراع الحضارات) الذي كتبه مواطنه صاموئيل هانتغتون، حيث أكد على أن نشوب الصراع في العصر الراهن يكون إثر دخول حضارات أخرى غير الحضارة الغربية كالحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية لتكون عناصر فاعلة في لعبة الصراع الحضاري الذي يتخيله، وهو يحذر خصوصاً من تنامي الخطر الإسلامي مشيراً إلى أن جوهر الصراع ديني في الأصل، فالدين هو الخطر المحدق الذي يهدد الحضارة الغربية.
وهكذا فإن الطابع الايديولوجي يبرز مرة أخرى من خلال هذه السيناريوهات الما بعد الحداثوية التي تعلن نهاية التاريخ ونهاية الثقافة ونهاية الفكر، وتبطن أغراضا ايديولوجية لخدمة فئة من القوى الساعية ـ بكل ما أوتيت من أساليب المخاتلة والخداع الثقافي ـ إلى الهيمنة على مقدرات العالم الاقتصادية والسياسية والعلمية؛ ليس بواسطة الحروب التقليدية، بل من خلال توظيف أساليب ومناهج ورؤى ثقافية يتم نشرها وترويجها عبر وسائل الاتصال الحديثة في شتّى بقاع الأرض. وما الحرب الباردة التي قامت في ثمانينيات القرن الماضي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق إلا مظهراً من مظاهر هذا التوظيف.
ويمكن لنا أن نتلمس بوضوح أبعاد تلك الهيمنة من خلال ظاهرة (العولمة) التي تعد بحق من أجلى مصاديق الحداثة وما بعدها ولاسيما على صعيدي الاقتصاد والاتصال، حيث تحول العالم بفعل التطور الكبير في مضمار اقتصاد السوق وفي ميدان تكنولوجية الاتصال وتبادل المعلومات إلى ما يشبه القرية الصغيرة، وهذا التحول في حد ذاته أمر جيد ومرغوب فيه، ولكن أليست مقدرات ومفاتيح هذا التحول الكبير توجد بأيدي مجموعة من الشركات العابرة القارات والتي تعود ملكيتها إلى دول رأسمالية كأمريكا وبعض بلدان أوربا الغربية؟ ألا تمارس هذه الشركات اليوم ذات الأساليب التي كان يمارسها الاستعمار القديم القائم على نهب ثروات الشعوب والهيمنة عليها سياسيا واقتصاديا!؟ الاستعمار الجديد يحتكر التكنولوجيا ولا يسمح بوصولها إلى بلدان (الجنوب) بل هو مستعد لشن الحروب المدمرة لمنع استثمار التكنولوجية صناعياً، ناهيك عن استغلاله للأيدي العاملة في تلك البلدان استغلالا مجحفاً، وناهيك أيضاً عن تمرير الأفكار الهدامة والتشجيع على الحرية المبتذلة والرخيصة عبر قنواته الإعلامية الفضائية ومنها الانترنت. أليست هذه هي إنجازات العولمة التي بدأ يطبّل ويزمّر لها المثقفون في بلداننا وهم غافلون عن مخاطرها على الإسلام وحضارته الإنسانية الفذة؟ حتى أنني قرأت في الآونة الأخيرة من يتحدث بكل فخر واعتزاز عن (بركات العولمة) ما أثار دهشتي واستغرابي، كونه يعد من الباحثين المرموقين في مجال الدراسات المهدوية المعاصرة.
كيف يمكن أن نتحدث عن (بركات العولمة) ونحن ندرك بأنها تدعو إلى انفصام العرى الاجتماعية وانتفاء الخصوصيات الحضارية والقضاء على التقاليد والمبادئ الخلقية لصالح الحرية المنفلتة غير المنضبطة؟ ألا نحدس عن وعي بأن جوهر ما تدعو إليه العولمة ليس هو إلا فرض شكل جديد من الحضارة تستعلي على كافة الحضارات واصفة إياها بالتخلف والرجعية والتراثية؟! ثم ألا يشم من ذلك رائحة مشروع هانتغتون المغرض (صراع الحضارات) من جهة ما تمارسه هذه الحضارة الجديدة من وسائل الضغط والهيمنة والإقصاء والتحقير لمنجزات الحضارات السابقة؟ هل معنى الصراع في نظر البعض هو مجرد العراك والصدام المعروف؟ أليس جوهر وحقيقة الصراع هو الغلبة وفرض الهيمنة على الآخر بأي أسلوب كان وإن لم يكن عراكاً وصداماً؟ وهلا أدركنا أن ما يسعى فوكوياما إلى أن يقنعنا به عبر أطروحته (نهاية التاريخ) هو ختام التاريخ على يد هذه الحضارة العولمية الأخطبوطية التي باركها بعضنا من دون وعي؟ ومعنى ذلك ليس فقط إقصاء لسائر الحضارات السابقة على الحضارة الحالية بل واستبعاد قاطع لإمكانية نشوء أية حضارة أخرى
تليها.
وبالتالي فإن ترويج تلك المفاهيم والاصطلاحات في الثقافة المعاصرة لا يراد به في
الواقع سوى تهيئة الذهنية البشرية عامة والإسلامية على وجه الخصوص لرفض فكرة المشروع الحضاري للإمام المهديQ واعتبار المهدوية مجرد خيال طوباوي وأسطورة فجّة نسجتها مخيلة المستضعفين والمقهورين وخاصة الشيعة.
ومن هنا ندرك بأن القول بوجود (قطيعة تاريخية) تفصل المهدوية عن التاريخ خاطئ جداً وإن هو إلا محاولة واهية لإخراج المهدوية عن حدود ما هو واقع وتفسيرها في إطار ما هو أسطوري وخرافي، ولكننا نقول: إن المهدوية هي حضارة متكاملة ترتقي فيها البشرية إلى المستوى الذي يرتفع فيه الظلم ويسود العدل والسلام والطمأنينة، وهذا يدلل بصورة لا لبس فيها على رقي حضاري شامل وفي كافة الجوانب المادية والمعنوية للبشر، وذلك هو الهدف الأسمى للديانات والشرائع السماوية، والمهدوية بهذا المعنى جوهر التاريخ وغايته لا نهايته، إذ هي الحضارة الفائقة التي لا يعتريها خلل، وهي المصداق الأمثل للوعد الإلهي: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).
بقلم حسن هادی سلمان