كل ما في الوجود يحاور الإنسان، وكل ما في الإنسان يحاور الكون، ولكي يكون هذا الحوار مدركا لفاعليته المنسجمة مع أبعاده الوجودية الحقيقية كان ولا بد من فاعل (الإنسان الكامل المهدي عليه السلام) يوجه هذا الحوار إلى كشف حقائق الإنسان الكبرى، فهوية الإنسان الضائعة في التاريخ وفعل الإنسان فيه تجعل الإنسان العاقل يطرح سؤالا جوهريا: هل مسار الإنسان على مسرح الحياة كله صراع وحروب ودمار؟ أم أن الإنسان سوف يجعل من تجربته الوجودية التاريخية حوارا يكون من خلاله إنسانا واعيا بحقيقة كينونته الفاعلة في الكون.
يقول تعالى في سورة سبأ مخاطبا مجموع الإنسانية:
(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ،قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ،قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ).
كل ما في الوجود يحاور الإنسان، وكل ما في الإنسان يحاور الكون، ولكي يكون هذا الحوار مدركا لفاعليته المنسجمة مع أبعاده الوجودية الحقيقية كان ولا بد من فاعل (الإنسان الكامل المهدي عليه السلام) يوجه هذا الحوار إلى كشف حقائق الإنسان الكبرى، فهوية الإنسان الضائعة في التاريخ وفعل الإنسان فيه تجعل الإنسان العاقل يطرح سؤالا جوهريا: هل مسار الإنسان على مسرح الحياة كله صراع وحروب ودمار؟ أم أن الإنسان سوف يجعل من تجربته الوجودية التاريخية حوارا يكون من خلاله إنسانا واعيا بحقيقة كينونته الفاعلة في الكون.
الإنسان مخلوق حواري:
الحوار يخلق في كينونة الإنسان الوعي بالمعرفة الحقيقة التي خلق لتكون حقيقته المبلغة لأهدافه الكبرى، فكان بذلك أكثر الأشياء جدلا، فكل الأشياء خلقت من أجله وكان هو فيها فاعلا بوعيه، لكن ما معنى أن يكون الإنسان واعيا؟ أن يكون الإنسان واعيا ذلك يعني بكل بساطة تعقل العقل العاقل، أي أن يكون في دوره فاعلا في تعقل الحقيقة الوجودية.
فما معنى تعقل الحقيقة الوجودية؟
كل مخلوق له رجلين ولسان وعينين وهو على هيئة الإنسان هو آدم بالقوة غير أنه ليس آدماً بالفعل، فآدم علم الأسماء كلها غير أن أغلب الآدميين اليوم لو سألتهم واحدا تلو الآخر، ما معنى أنك علمت الأسماء كلها فهل يستطيع الفرد الآدمي تعقل هذه الحقيقة الملازمة لوجوده الاستخلافي الأرضي؟ بدون تعقل هذه الحقيقة تبقى حقيقته مفقودة في وعيه الذاتي لذاته،فيكون في ذلك جاهلا لدوره الوجودي الذي يجعل منه إنسانا حقيقيا يحمل صفات خالقه في فعله.
الحكم العدل والحوارية الكونية:
الإنسانية مرت بحقب تاريخية عايشت فيها كل الصعوبات الطبيعية والاجتماعية فهل خلصت تجربتها على مسرح الأرض على وعي إنساني، يجعل من الفرد الآدمي، الرقي في درجات وجوده السامية؟ أم أنها ما زالت تعاود تجاربها الماضية والمسحوقة في الحقب التاريخية في جهل معرفي لقيمة وجودها على الأرض التي جعلت فيها مستخلفة من طرف الرب الباري والرب الخالق؟
الرب الباري والرازق الفتاح:
إن هوية الإنسان الآدمي المستخلف على وجه الأرض تحدد في وجهتين لإسمين إلهيين وهما الرب الباري والرازق الفتاح، فمن جهة الرب الباري يكون الآدمي في توجه إلى أصوله الإلهية وفي الرازق الفتاح تكون هوية الإنسان في سمو معرفي ورقي وجودي يجعل هذا المخلوق الإلهي يدرك ما عليه إدراكه في سبيل الدخول في العوالم الإلهية التي منحت له منذ البداية وفي كل ذلك يوجد حوار كوني يمنح للإنسان المستخلف على الأرض التناغم مع كل القوى الوجودية الفاعلية في المنظومة الوجودية.
جاء في أحد الأدعية المرتبطة بالإمام المهدي عليه السلام ما معناه: أنه عليه السلام سوف يقيم العدل طولا وعرضا؟ فما هما العرض و الطول المقصودان في هذا الدعاء؟
فإقامة العدل العرضي يعني إقامة العدل الأرضي بين الأجناس بين الديانات بين الحاكمين والمحكومين بين الطبقات الاجتماعية بين جميع الناس فيكون سواسية في محضر الشريعة الإلهية المنسجمة مع طبيعة الفطرة السليمة التي سوف تنسجم مع النظام الكوني وأسماء الله الحسنى في إظهار عدله المقدس سبحانه وتعالى للجميع، فعدل الله القائم بين أزلية الآزال وأبدية الآباد لا بد له من ظهور في مسرح الحياة.
أما إقامة العدل الطولي فذلك يحتاج إلى شرح عميق للعلاقة التي تربطنا طوليا مع الله سبحانه وتعالى رب الأرباب جميعا.
جاء في مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية للإمام الخميني: أنه سبحانه لما عين الأعيان الثابتة الحاملة لأسمائه الحسنى تنازعت فيما بينها فكان خلافها حول الدور المنوط بها في تعيناتها، فالتجأت إليه سبحانه وتعالى أي إلى موجدها وأصلها الإلهي طالبة منه أن يجعل لها حكما عدلا تحتكم إليه حتى تستطيع تأدية دورها الوجودي الإلهي الموجودة من أجله.
فتنازع المدارس الفكرية الظاهرية والباطنية والوجودية والتاريخية اليوم هو نفسه ذلك التنازع الذي كان في التعينات الإلهية الأولى في أسمائه، فكثرة المدارس الوجودية اليوم يجعل الباحث عن الحقيقة الدينية والإنسانية في حيرة من أمره، فالإسماعيلي وجد أن الباطن هو الأصل وأنه هو كل الحقيقة وما الظاهر إلا التابع، والزيدي يجد أن مسألة عدالة الصحابة لا نزاع فيها مع السنة، والسني يرى أن أصول الدين ثلاثة وهي التوحيد، والنبوة، والميعاد، كما أن أصوله الكلامية فيها إختلاف كبير مع كل المناهج فهو يميل إلى الجبر في فعله حتى وإن لم يعتقد به صراحة في فكره، وذلك ناتج عن خلل في الاعتقاد النظري لديه، كما يوجد في نفس الاتجاه اختلافا عميقا بين جميع النحل والملل الموجودة في ديانات العالم فالهندوسي مثلا يرى أن كل شيء هو براهما أي كل شيء حق، والبوذي يرى نفسه متحدا مع كل العالم في النيرفانا فيجد نفسه عابدا لله بذلك الإتحاد عبر رياضات روحية خطيرة، والدرزي يجد أن العقل المدرك هو كل شيء، والزرادشتي يجد أن العالم يتقاسمه إلهان متفقان في كل شيء واحد إله الشر والآخر إله الخير وهما شيء واحد في الأصل. والمسيحي يعتقد أن إلهه ينقسم إلى ثلاثة أقانيم روح القدس، الأب، والابن، واليهود يجدون أن يهوه هو الإله الذي لا يمكنهم أن يفهموا أحسن منه.
إن هذا الصراع الفكري الخطير والمفارق يجعل من الكائن الإنساني، كائنا مليئا بالتناقضات الموضوعية فهل سوف يحسم هذا الصراع الخطير القائم في مملكة الإنسان الباطنية والظاهرية ليخلص إلى هوية إلهية تمكن هذا الكائن الإلهي إلى معرفة أبعاده الوجودية؟ سؤال يصعب الإجابة عليه ما دام الكل يدعي الحقيقة لنفسه ويجدها الوحيدة لبقائه.
إن دور مولانا الإمام المهدي عليه السلام في ظل كل هذه الصراعات الفكرية والتصورية والذهنية هو الحكم بين كل هذه الاتجاهات والعدل فيما بينها فيكون هو بمنزلة إسم الله الأعظم (الحكم العدل) ولنتأمل فنرجع الدائرة الوجودية من حيث بدأت لتطلق كل أسرارها في كل الآفاق وفي كل الأنفس لتظهر الإبداع الإلهي في أحسن تقويم إلهي، مصداقا للحديث القدسي (كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف) فيكون هذا الظهور المتجلي في قلب مولانا المهدي الخاتم للولاية التكوينية، بمثابة تمامية الظهور الإلهي لكل النفوس وفي جميع الآفاق.
الخلاصة
سئل المرتضى عليه السلام بم عرفت ربك؟
فقال: بما عرفني نفسه: قيل: وكيف عرفك نفسه؟ فقال:
لا تشبهه صورة، ولا يحس بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريب في بعده، بعيد في قربه، فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه، أمام كل شيء ولا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل،وخارج من الأشياء لا كشيء خارج، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره.
إن جواب أمير المؤمنين هذا، لهو لب جوهر الحوار القائم في مملكة الإنسان منذ الأزل، لذا فكل هذه التيارات الفكرية والاديولوجية والسياسية والإنسانية ما هي إلا صراع باطني من أجل معرفة رب الأرباب والتحقق به في آخر حوارها مع الوجود والكون والحياة والطبيعة. فظهور الإمام المهدي اليوم في عصر الإعلام والسرعة والتواصل هو من أجل هذا الحوار ومن أجل هذا الإنسان فهو الذي سوف يفتح للفقيه فقهه وللفيلسوف فلسفته وللعارف عرفانه فيوحد كل ذلك في نهج إلهي سليم يجعل توحيد الفقيه الظاهري يتساوق مع توحيد الفيلسوف العقلي يساوق توحيد العارف الكشفي الشهودي.
فهل يا ترى تجد المدارس الفكرية الإنسانية اليوم بعدما خلصت تجربتها الفكرية إلى صراع وحوار كوني بين جميع اتجاهاتها إلى فهم حقيقي للعلاقة التي تربطها مع مصيرها الغائي والأصلي؟
إن رب أمير المؤمنين عليه السلام هو رب الإمام المهدي عليه السلام وهو الفتاح العليم.
يوسف العاملي