تعد البصرة من المدن الأساسية في عصر الظهور، ولتسليط الضوء على هذا الأمر لابد من مناقشة أمرين مهمين أولهما الأوضاع السياسية والعسكرية أثناء الظهور، وثانيهما تغير حياتها الاقتصادية والاجتماعية بعد الظهور، وسوف نتناولها على الشكل الآتي:
أ ـ الأحداث:
قبل الولوج في صلب الأحداث لابد من الاشارة لأمر هام وهو لزوم التفريق بين الروايات الخاصة بمستقبل العالم التي ليس لها علاقة بعصر الظهور ولا بالعصر الذي بعده، وبين الروايات الخاصة بالظهور أو عصر الظهور، فالخاصة بمستقبل العالم هي جزء من علوم الغيب علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته عليهم السلام، فالبعض من هذه الروايات قد حدث في الدولة الأموية والدولة العباسية والعثمانية وفي عصرنا الحديث، فعندما ترد رواية عن أحد الأئمة عليهم السلام بأنه سيحدث جوع شديد في مدينة ما أو حدث في مدينة أخرى فإن هذا جزء من الغيبيات وقد لا يكون له علاقة بعصر الظهور. وهناك روايات كثيرة بهذا الموضوع تتحدث عن أحداث في المدن الإسلامية لا علاقة لها بظهور الإمام.
اننا نرى ان بعض المؤرخين حاول إبعاد أهل البصرة عن خط أهل البيت عليهم السلام علماً ان أهل البيت عليهم السلام كانوا في قلوب أهالي كل المدن العربية والإسلامية لكونهم الملجأ في المهمات، وقد رأينا كيف تداككت الناس على الإمام علي عليه السلام للبيعة بعد مقتل الخليفة الثالث وكيف ان الأمصار الإسلامية في البصرة والمدينة ودمشق وغيرها انتفضت على طاغية العصر يزيد بعد استشهاد الحسين عليه السلام ومقتله في كربلاء وأهل بيته عليهم السلام.
ولقد وجدنا ان للبصرة دوراً مشرقاً وإيجابياً بوقوفهم مع أهل بيت النبي عليه السلام فضلاً عن وقوفهم المشرف مع الإمام المهدي عليه السلام عند ظهوره ومحاربتهم للسفياني ومطاردته على حدود العراق كما نصت عليه الروايات وهو ما سنبينه في الصفحات الآتية.
بعد استقرائنا للروايات الواردة في المصادر الأولية وجدنا ان هناك ثلاثة مصطلحات أساسية لأحداث تدور فيها الملاحم في البصرة وهي:
1 ـ الغرق. 2 ـ الخسف. 3 ـ الخراب.
ولكل مصطلح زمان يحدث فيه يبعد عن زمن الحدث الآخر، ولكن ذكرتها الروايات كجزء من الملاحم المستقبلية في البصرة.
ولكي لا يلتبس الأمر على القارئ سنعرضها وعلى الوجه الآتي:
في شرح النهج لميثم البحراني قال: لما فرغ الإمام علي عليه السلام من حرب أهل الجمل أمر منادياً ينادي في أهل البصرة أن الصلاة جامعة لثلاثة أيام (من غد ان شاء الله) ولا عذر لمن تخلف الا من حجة أو عذر فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً، فلما كان اليوم الذي اجتمعوا فيه خرج عليه السلام فصلى بالناس الغداة في المسجد الجامع فلما قضى صلاته قام فأسند ظهره إلى حائط القبلة عن يمين المصلى فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله واستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ثم قال: (يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة أئتفكت بأهلها ثلاثاً وعلى الله تمام الرابعة يا جند المرأة وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم وعقر فانهزمتم… كأني أنظر إلى قريتكم هذه وقد طبقها الماء حتى لا يرى منها الا شرف المسجد، كأنه جؤجؤ الطير في لجة بحر… الخ الخطبة).
ويقول الإمام في خطبته: يا منذر إن للبصرة ثلاثة أسماء في زبر الأول لا يعلمها إلا العلماء منها الخريبة ومنها تدمر ومنها المؤتفكة إلى أن قال: يا أهل البصرة ان الله لم يجعل لأحدٍ من أمصار المسلمين خطة شرف ولا كرم الا وقد جعل فيكم أفضل من ذلك فزادكم من فضله بمنه ما ليس لهم، أنتم أقوم الناس قبلة، قبلتكم على المقام حيث يقوم الإمام بمكة، وقارؤكم أقرأ الناس، وزاهدكم أزهد الناس، وعابدكم أعبد الناس، وتاجركم أتجر الناس، وأصدقهم في تجارته ومتصدقكم أكرم الناس صدقة، وغنيكم أشد الناس بذلاً وتواضعاً، وشريفكم أكرم الناس خلقاً، وأنتم أكثر الناس جواراً وأقلهم تكلفاً لما لا يعنيه وأحرصهم على الصلاة في جماعة ثمركم أكثر الثمار وأموالكم أكثر الأموال وصغاركم أكيس الأولاد ونساؤكم أمنع النساء وأحسنهن تبعلاً، سخر لكم الماء يغدو عليكم ويروح صلاحاً لمعاشكم والبحر سبباً لكثرة أموالكم فلو صبرتم واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقيلاً وظلاً ظليلاً… إلى أن قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي يوماً وليس معه غيري إن جبرئيل الروح الأمين حملني على منكبه الأيمن حتى أراني الأرض ومن عليها حتى أعطاني أقاليدها، وعلمني ماضيها، وما قد كان على ظهرها وما يكون إلى يوم القيامة ولم يكبر ذلك علي كما يكبر على ابن آدم علمه الأسماء كلها ولم تعلمها الملائكة المقربين، واني رأيت على شاطئ البحر قرية (بلدة) تسمى البصرة فإذا هي أبعد الأرض من السماء وأقربها من الماء وانها لأسرع الأرض خراباً وأخشنها تراباً واشدها عذاباً ولقد خسف بها في القرون الخالية مراراً وليأتين عليها زمان وان لكم يا أهل البصرة وما حولكم من القرى من الماء ليوماً عظيماً بلاؤه وإني لأعلم موضع منفجره من قريتكم هذه…(1).
الملاحظ على هذه الخطبة ان بعضها غير مترابط بسبب النقل ويرى العلامة المجلسي ان سبب ذلك لأنها مجموعة من أماكن متفرقة ولكن جميعها تخص خطبة الإمام في البصرة.(2)
ولتحليل هذه الخطبة لابد من معرفة عناصرها الأساسية، فقد لاحظنا فيها عنصرين أولهما، وصف للوضع الجغرافي المستقبلي للمدينة وثانيهما مدح لأهلها. وقد شمل الوصف حالتهم يوم الجمل وأحداثاً أخرى مستقبلية أغلبها تضر بالمدينة وأهلها.
فوصف حالتهم يوم الجمل قائلاً: يا جند المرأة وأتباع البهيمة، وهذه دلالة واضحة على أن الإمام عليه السلام يريد في خطبته تلك توبيخ الذين شاركوا ضده في معركة الجمل لأنهم تبعوا الجمل في كل تحركاته حتى انهزموا بعد عقره لذلك صرح الإمام بأنهم أتباع بهيمة.(3)
اما قوله عليه السلام كأني أنظر إلى قريتكم وقد طبّقها الماء حتى لا يرى منها الا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر.
وهذا التصريح واضح انه من باب الإخبار في المستقبل، بأنها ستتعرض إلى الغرق، ولا يعتبر هذا ذماً بأية حال من الأحوال وذلك لأن الفيضان أو الغرق قد يصيب مدناً كثيرة على وجه الأرض، وقد أصاب الكثير من المدن في وقتنا الحاضر نتيجة ضغوطات جوية وتحركات أرضية وانه لا يعدو عن الإخبار بالحدث المستقبلي والذي يدخل ضمن الغيبيات.(4)
ومن الأمور المستقبلية الضارة بالمدينة التي ذكرها الإمام عليه السلام هي ابتلاء المدينة بالأعور الدجال، وهذا الأمر من حتميات ظهور الحجة عليه السلام وليست البصرة المدينة الوحيدة التي تتعرض لهجمة الدجال، بل ان مدناً أخرى سيشملها هذا البلاء، وذكرت الروايات ان اسمه ابن صائد يخرج من المشرق من قرية تسمى رستاق اباد من قرى اصفهان في المشرق.(5) وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (مكتوب بين عيني الدجال (كافر) يقرؤه كل من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن، وقال هلموا انه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت، وابن صياد هو الدجال).(6)
وعلمنا أيضاً ان الأعور الدجال لا يؤذي البصرة فقط وإنما مقولة الإمام عليه السلام لأهالي البصرة هو نوع من الإخبار بدخوله إليها.
أما ما ذكره الإمام من خسف وجوع أغبر وموت أحمر. فهو كما أشرنا سابقاً انه لم يرد الخسف كعلامة حتمية لظهور الإمام عليه السلام ويؤيدنا في ذلك السيد فاروق الموسوي ان الخسف في البيداء من المحتوم ولكن الخسوفات الأخرى مثل خسف بغداد والبصرة وخسف المشرق أو المغرب فإنها ليست حتمية وقد تقع وقد لا تقع، ولا إشكال في ذلك.(7)
ويرى كذلك انها تتفاوت من حيث الواقع وهناك خسف يحدث بفعل فاعل إنسي مثل إلقاء قنابل شديدة الفعالية وثقيلة الوزن في أماكن رخوة وتحتها مياه جوفية للتجربة والترهيب.(8) وبالفعل تعرضت البصرة على طول تاريخها إلى حالات من هذا النوع إذ ألقي عليها آلاف الصواريخ المدمرة ثقيلة الوزن وهجر أهلها، فكأن هذه الصواريخ وهذا الدمار الكبير الذي أحدثته خسفاً قد حدث فيها، وحدث فيها أيضاً الجوع الأغبر بسبب محاربة الحكام لأهلها، أو الموت الأحمر هو نتيجة طبيعية لهذا الدمار، ويرى العلامة المجلسي ان الخسف قد يكون بجيش في البصرة أو طائفةأو بعض المساكن.(9)
وبالفعل فإن هذا حدث في البصرة عندما خسف بالجيش على الحدود الكويتية العراقية سنة 1991م.
أما قوله (البصرة أبعد الأرض من السماء، فيرى ابن أبي الحديد ان أرباب علم الهيأة وصناعة التنجيم يذكرون ان أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة، وذلك موافق لقوله عليه السلام. ومعنى البعد عن السماء ها هنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار، والبقاع والبلاد تختلف في ذلك، وقد دلت الارصاد والآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هي الأبلة، والأبلة قصبة البصرة.(10)
هذا العنصر الأول من عناصر الخطبة وهو العنصر الوصفي.
أما العنصر الأساس الآخر فهو مدح البصرة وأهلها.
وأيضاً لهذا المدح الوارد في الخطبة عنصران، العنصر الأول هو الشهادة أي ان أهلها يقاتلون في سبيل الله وشهداءها كشهداء بدر.
والعنصر الثاني مدحهم عموماً كالاشادة بقبلتهم، وامامهم، وزهادهم، وتجارتهم، وثمارهم، صغارهم، نسائهم.
فالأول: أن أهل البصرة يجاهدون في سبيل الله فيستشهد منهم سبعون ألف وأنهم بمنزلة شهداء بدر، ويصفهم الإمام عليه السلام بأنهم مجهولون في الأرض معروفون في السماء فتبكي عليهم السماء وسكانها والأرض وسكانها، ثم هملت عيناه بالبكاء. فأي قوم هؤلاء المجهولون في الأرض المعروفون في السماء، انهم أهل البصرة وأية مدينة في العالم تمتلك هذه الكنوز وأية مجموعة من البشر لديها مثل هذه الطاقات؟!
وذكرت الرواية ان استشهادهم يكون على يد (اخوان الجن كانهم الشياطين، سود ألوانهم…) ويبدو انها مجموعة ضالة من البشر وكافرة بالله متوحشة ولا تعرف للحضارة أي معنى.
أما العنصر الثاني من المدح فهو العمومي الذي طرح في الخطبة، أية مدينة في العالم مدحها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أكثر من هذا المدح إذ لا يوجد شرف ولا كرم أفضل من أهل البصرة ولا توجد قبلة ولا قارئ ولا زاهد ولا عابد ولا تاجر ولا متصدق ولا غني ولا أولاد ولا نساء أفضل من أهل البصرة. هذا هو مضمون عنصر المدح في الخطبة.
وبعد أن طبقنا عناصر الملاحم في البصرة وهي الغرق والخسف والخراب على هذه الخطبة لاحظنا جلياً عنصرين من الملاحم وهما الغرق والخسف وبقي عنصر خراب البصرة، وفي الواقع ان الذي يخربها هو السفياني ويقوم بأعمال إجرامية فيها كبقية المدن العربية والإسلامية، وبعد أن يخرب البصرة تكون نهايته على يدالإمام المهدي الحجة بن الحسن عليه السلام.
يمثل خراب البصرة من الموضوعات المهمة لأنه البداية لظهور الإمام عليه السلام وتحريرها وبقية مدن العراق والمدن الإسلامية الأخرى من قوى السفياني وأتباعه، وهو صلب موضوع بحثنا هذا.
الظاهر من الروايات ان السفياني يدخل العراق عدة مرات إذ تكون الأولى سريعة ومباغتة يقوم جيشه بالسلب والنهب والقتل وهتك الحرمات، فقد ذكر ابن حماد (يدخل السفياني الكوفة فيسبيها ثلاثة أيام ويقتل من أهلها ستين ألف ويمكث فيها ثماني عشرة ليلة).(11)
وقد لا يكون مدخله الأول الكوفة ولكن غرب العراق كله مهدد ويتعرض لهجماته، إذ قال الإمام عليه السلام في خطبة البيان (الا يا ويل لكوفانكم هذه وما يحل فيها من السفياني يأتي إليها من ناحية هجرٍ(12) بخيل سباق تقودها سود ضراغمة وليوث قشاعمة… إذا خرج الظلام الأشر فيأتي البصرة فيقتل ساداتها ويسبي حريمها فإني لأعرف كم وقعة تحدث بها… ألا وان السفياني يدخل البصرة ثلاث دخلات يذل العزيز ويسبي فيها الحريم ألا يا ويل المؤتفكة وما يحل بها من سيف مسلول وقتيل مجدول وحرمة مهتوكة ثم يأتي إلى الزوراء… ).(13)
فالظاهر ان الجبهة تكون واسعة والجيش المستخدم جيش متخلف ومتوحش وعنصري ومتطرف، إذ ورد أنه يغلي الأطفال بالزيت وخصوصاً المُسَمون (محمد وعلي وحسن وحسين وفاطمة وجعفر وموسى وزينب وخديجة ورقية) ويفعل بالرجال ما يفعل بالأطفال ويصلب على باب الكوفة وينهبها ويقتل منها خلقاً كثيراً.(14)
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام بع1د قتاله أهل النهروان والتقائه بالحباب في براثا واخباره له بأن مسجد براثا سيهدم فيوصيه ببنائه ويقول عليه السلام لا يهدمه إلا كافر،.. ثم يعرج قائلاً سيدخلها رجلٌ من أهل السفح فلا يدع منها قائمة الا سخطها وأهلكها وأسخط أهلها وذلك إذا عمرت الخربة وبني بها مسجد جامع فعند ذلك هلاك البصرة ثم يدخل مدينة بناها الحجاج يقال لها واسط فيفعل مثل ذلك ويتوجه نحو بغداد فيدخلها عفواً…(15).
يقول الكوراني ان خراب البصرة يقع بعد احتلال السفياني للعراق سنة ظهور المهدي عليه السلام.(16)
اذن يتناول مبحثنا الآتي أحداث سنة ظهور القائم الحجة المهدي عليه السلام، وسوف يشمل الأمور التالية:
1 ـ مقاومة البصرة للسفياني ومساهمتهم في طرده من الكوفة.
2 ـ الإمام المهدي عليه السلام، وأصحابه من البصرة.
3 ـ معركة البصرة بين الإمام وأعدائه وانتصاره الحاسم.
1 ـ مقاومة أهل البصرة للسفياني:
فكما عهدنا المواقف المشرفة لأهل البصرة تجاه أهل البيت الكرام منذ الفتح الإسلامي وحتى عصرنا الراهن فإنهم لم يبخلوا بأنفسهم في التضحية في سبيل الله، وفي التزام خط أهل البيت عليهم السلام، وكما عرفنا سابقاً أن السفياني يدخل ثلاث مرات للبصرة وهذا يشير إلى عدم استقراره فيها بسبب مقاومة أهلها له ولأعماله الإجرامية، ويظهر من الرواية انه يحاول السيطرة على متنفذي البصرة إلا أنه يفشل فيضطر إلى قتلهم ويؤيد ذلك قول الإمام علي عليه السلام انه (يقتل سادات البصرة) وهذا يعني انه قرر تصفية رموز البصرة لكي تدين له بأجمعها.
في الواقع ان بطولة أهل البصرة في هذا الأمر ليس لها مثيل، إذ أنهم لم يكتفوا بمقاومته وطرده ولكن ساروا إلى الكوفة لإخراج السفياني منها بعد أن سمعوا باحتلاله لها وأفعاله المشينة من هتك الحرمات وقتل النساء والأطفال، فقد ذكر ابن حماد ان (السفياني يدخل الكوفة فيسبيها ثلاثة أيام ويقتل من أهلها ستين ألفاً ثم يمكث فيها ثماني عشرة ليلة وتقبل الرايات السود حتى تنزل على الماء فيبلغ أصحاب السفياني نزولهم في الكوفة فيهربون ويخرج قوم من السواد ومن الكوفة ليس معهم سلاح الا قليل منهم، ومنهم نفر من أهل البصرة فيدركون أصحاب السفياني فيستنقذون ما في أيديهم من سبي الكوفة).(17)
يعتبر هذا الموقف من المواقف المشرفة لأهالي البصرة لإنقاذهم سبايا الكوفة من أيدي الغزاة ويشير أيضاً إلى الغيرة والنخوة العربية الأصيلة فضلاً عن الدفاع عن بيضة الإسلام.
الملاحظ أن هذه العبارة تذكر أن قوماً من السواد يطاردون السفياني ويشاركون أهل الكوفة في محنتهم ثم يذكر أهل البصرة، والمعروف أن أهل السواد هم ساكنو المناطق المسماة حالياً (البصرة، العمارة، الناصرية، الديوانية، السماوة، الحلة، النجف، واسط).
ويبدو أيضاً أن لسكنة الأهوار في هذه المناطق النصيب الأكبر في طرد السفياني من العراق والكوفة على وجه الخصوص، ويكون للناس العوام البسطاء دور كبير أيضاً، فقد ورد ان السفياني بعد أن يرتكب الفضائح يهتك الأعراض ويرتكب الأفعال المشينة (تخرج عليه جماعة من أرض الآجام والقصب ومن ضعفاء الكوفة يقتلون مقاتلته ويأخذون السبايا منه ويفر الباقون).(18)
والمعروف ان أرض الآجام والقصب هي منطقة شمال البصرة (في القرنة والمدَيْنَة حتى حدود مدينة العمارة، وفي المدَيْنَة حتى حدود مدينة الناصرية). وكذلك ذكرت الروايات مشاركة ضعفاء الكوفة وهذه إشارة إلى فقراء الكوفة وإلا كيف يتسنى للضعيف أن ينتصر على جيش السفياني ويسترجع سباياه إن لم يكن على قدرة وقوة؟ والفقير غير الضعيف.
هذا جزء من مقاومة أهل العراق وخصوصاً جنوبه للسفياني الذي يقوم بحملات متكررة فينهزم الا انه ستعيد قواه ويستجمع خيله وجيشه ويقوم بحملة كبيرة يحتل بها العراق بأجمعه فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: (ثم يسير في سبعين ألف نحو العراق والكوفة والبصرة).(19)
كما علمنا سابقاً أنه يدخل الزوراء ويفعل بها ما فعل بأهل الكوفة والبصرة وكما أسلفنا أفعاله في المدن العربية والإسلامية الأخرى، ومن ثم فإنه سيطبق على معظم المدن الإسلامية، وهنا لابد من قائد على قدر تلك المسؤولية العظيمة لإخراج الأرض من الجور والظلم إلى العدل والقسط.
وهذا القائد العظيم هو الإمام الحجة بن الحسن المهدي المنتظر سلام الله عليه.
أصحاب الإمام وموقف البصريين المشرف:
ورد في خطبة الإمام علي عليه السلام (ثم إذا قام يجتمع إليه أصحابه على عدة أهل بدر وأصحاب طالوت وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كلهم ليوث قد خرجوا من غاباتهم مثل زبر الحديد لو أنهم هموا بإزالة الجبال الرواسي لأزالوها عن مواضعها فهم الذين وحدوا الله تعالى حق توحيده، لهم بالليل أصوات كأصوات الثواكل حزناً من خشية الله، قوام الليل صوام النهار كأنما رباهم أب واحد وأم واحدة قلوبهم مجتمعة بالمحبة والنصيحة… أولهم من البصرة وآخرهم من الأبدال.(20)
بعد ان عرفنا مكانة جيش الإمام السامية وإخلاصهم وصبرهم، فكيف ستكون مكانة قادته الصفوة. بالطبع ستكون أسمى وأجل بسبب التمحيص والغربلة ونجاحهم فيه قبل الظهور. وكيف ستكون مكانة أول القادة الصفوة لحوقاً بالإمام عليه السلام؟ جزماً ستكون أكثر سمواً من بقية القادة.
فمن أول القادة لحوقاً بالإمام؟
وما تصنيف مدينة البصرة مقابل مدن العالم الأخرى في قائمة السبق؟
الجواب: أن أول القادة الصفوة لحوقاً بالإمام عليه السلام هم من أهل البصرة وهذا ما أكده الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن عن الإمام علي عليه السلام قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أولهم من البصرة وآخرهم من اليمامة.(21)
وورد في خطبة البيان: أن أولهم من البصرة وآخرهم من الأبدال(22) وبطبيعة الحال أن هذه الأولوية لقادة البصرة تشير الى المستوى الحضاري للبيئة وللمدينة التي احتضنتهم.
ومع هذا الامتياز الكبير فلا زالت هذه المنطقة تنجب الأوائل في الإيمان والصبر والتضحية والاستشهاد في سبيل الله فمن هو في مقدمة كتائب جيش الإمام الحجة عليه السلام ومن حامل لوائه؟ ومن القائد العام لجيشه؟
تذكر الروايات أنه شاب أسمر اسمه شعيب بن صالح من بني تميم، يخرج من بين قصب وآجام.(23)
وقد حددنا سابقاً الموقع الجغرافي لعبارة (بين قصب وآجام) بأنها منطقة شمال البصرة على طرفي مدينتي العمارة والناصرية في جنوب العراق.
وما يؤكد ذلك انتشار قبيلة تميم في هذه المواضع.
ويبدو أن شعيب التميمي ينتقل بعد احتلال السفياني للعراق الى ايران لمواصلة جهاده ضده في هذا البلد لوجود الأنصار مما يؤمن حرية الحركة، فقد ورد أن شعيب يخرج من الري.(24) ،(25)
ويرى الشيخ الكوراني أن شعيب بن صالح سوف يكون القائد العام لجيش الإمام فيسير هو والخراساني لتحرير المدن المحتلة من قبل السفياني.(26)
من كل ما تقدم نستنتج ان هذه المنطقة (البصرة وشمالها) ستكون لها أهمية خاصة في المساهمة المشرفة عند ظهور الإمام عليه السلام وأنها أنجبت وستنجب قادة مجهولين ومفكرين إسلاميين صامدين في دينهم لا تغريهم المناصب ولا الأموال، ولهذا فإن الروايات تردد أن أصحاب الإمام عليه السلام هم الفقراء و(الضعفاء) المجهولون في الأرض المعروفون في السماء، وأيضاً تردد أن قلوبهم كزبر الحديد، ليوث الغابات قوامون بالليل صوامون بالنهار…
معركة البصرة وانتصار الإمام عليه السلام:
بعد أن يقوم السفياني بحملات سريعة ومباغتة نحو العراق يتعرض لمقاومة شديدة وينهزم الاّ إنه يستعيد قواه ويجمع شمله لغزو العراق بحملة كبيرة لا يقوى عليها الشعب العراقي فيحتل كل العراق تقريباً وبحسب قول الإمام علي عليه السلام: (ثم يسير في سبعين ألف نحو العراق والكوفة والبصرة).(27)
وفي خطبة البيان (الا يا ويل كوفانكم وما يحل بها من السفياني، فيأتي البصرة فيقتل ساداتها… ثم يأتي إلى الزوراء.(28)
هذه الشمولية تشير الى المساحة الجغرافية التي يشغلها جيش السفياني، والظاهر أنه لا يكتفي بحملاته نحو الشرق بالعراق ولكنه يحاول دخول الأراضي الإيرانية وبالفعل فإنه يدخل منطقة الأحواز القريبة من حدود مدينة البصرة فيحتل مدينة اصطخر.
فقد ذكر ابن حماد عن الإمام علي عليه السلام قوله (إذا خرجت خيل السفياني إلى الكوفة بعث في طلب أهل خراسان، ويخرج أهل خراسان في طلب المهدي عليه السلام فيلتقي هو والهاشمي برايات سود على مقدمته شعيب بن صالح فيلتقي هو وأصحاب السفياني بباب اصطخر فيكون بينهم ملحمة عظيمة فتظهر الرايات وتهرب خيل السفياني فعند ذلك يتمنى الناس المهدي عليه السلام ويطلبونه).(29)
لم يحدد المؤرخون الجهة التي يدخل منها الإمام عليه السلام إلى العراق والأغلب اكتفى بالقول بأنه يدخل إلى الكوفة، أما رأي الشيخ الكوراني فإنه يعتقد أن الإمام عليه السلام سوف يدخل العراق عن طريق الأحواز بعد معركة البصرة(30) الا انه رجع في صفحات تالية من كتابه (عصر الظهور) ليؤكد أن الإمام عليه السلام سوف ينتقل بين الحجاز وإيران والعراق واليمن بحسب ما تقتضيه المصلحة، وانه عليه السلام لا يشارك شخصياً في معارك جيشه إلا عندما يوجب الأمر ذلك.(31)
ان صعوبة البحث في هذا الأمر يعود إلى ن الروايات ذكرت مرة أن الإمام عليه السلام يدخل الكوفة ومرة أخرى يدخل البصرة وفي رواية إنه يأتي إلى جنوب إيران وبدون تسلسل زمني واضح للأحداث، إلاّ إنه من خلال استقرائنا لأحداث ومعارك دخوله للعراق يمكننا ترتيب المعارك زمنياً وفقاً لمنطقية الأحداث وعلى الشكل التالي:
1 ـ معركة الأحواز والبصرة وانتصار الإمام ودخوله العراق.
2 ـ معركة الكوفة بعد دخول الإمام إليها من البصرة.
3 ـ توجه الإمام من الكوفة لقتال السفياني واستسلام السفياني ثم نكثه العهد ثم المعركة الأخيرة فيتحرر بعدها العراق.
وسوف نفصل ذلك مع مراعاة التسلسل الزمني للأحداث.
تحليل الأحداث في البصرة والكوفة:
أشرنا في صفحة سابقة إلى توجه جيش السفياني شرقاً واحتلاله البصرة ثم دخوله الحدود الإيرانية حتى مدينة اصطخر، عندئذ يخرج الجيش الخراساني بقيادة شعيب التميمي برايات سود ليلتحقوا بجيش الإمام عليه السلام الذي كان قد قدم إلى منطقة الأحواز والبصرة لتحريرها، فقد ورد حدوث معركة كبيرة ينهزم فيها جيش السفياني.
تعتبرهذه المعركة فيما نرى المعركة الأولى على الحدود العراقية في البصرة، ويعتقد الشيخ الكوراني أن الإيرانيين يتوجهون جنوب إيران القريب من حدود الحجاز البرية عند البصرة، أي أن الإمام عليه السلام يوافيهم جنوب إيران بعد تحريره الحجاز ثم تكون المعركة المذكورة مع قوات السفياني التي تشير الرواية إلى أنها تدخل جنوب إيران والعراق، ولعلها تدخل هذه المرة عن طريق الخليج والبصرة مع القوات الغربية.(32)
وتذكر الروايات أن جيش السفياني ينهزم ويفرح الناس بهذا النصر فيتبعون الإمام عليه السلام ثم يدخل إلى العراق مع جيش الخراساني بقيادة شعيب بن صالح فقد ورد أن هذه الرايات (السود) تنزل ساحل دجلة.(33) ويرى فاروق الموسوي أن الرايات السود تنزل ساحل دجلة من جهة القرنة (شمال البصرة) حيث إلتقاء دجلة والفرات ثم التوجه إلى الكوفة فالنجفالأشرف.(34)
أما سبب اختيار السفياني منطقة جنوب إيران والعراق فللأسباب الآتية:
1 ـ وجود قوات غربية مساندة له في منطقة الخليج.
2 ـ اطمئنان جيشه من ناحية دول جنوب غرب العراق فضلاً عن عدم قابليتها للوقوف مع الحق لضعفها ودورانها في فلك الغرب واعتيادها على الترف وبذخ العيش.
3 ـ أهمية المنطقة من الناحية الجغرافية والإقتصادية والسياسة لوقوعها على رأس الخليج الغني بثرواته النفطية.
وكذلك فإن جيش الخراساني بقيادة شعيب بن صالح يتوجه جنوب إيران للأسباب التالية:
1 ـ أن جيش السفياني قد أطبق سيطرته على العراق فلا يمكن أن يتحرك أهل العراق لقتاله من داخل الحدود العراقية.
2 ـ اطمئنانه لمنطقة خراسان والتي تكون خلف الجيش لكونها مساندة له. علماً أن هذه المنطقة تحتوي على جموع من عراقيين وإيرانيين مساندين للإمام المهدي عليه السلام.
ومع امتلاك جيش السفياني لأسلحة متطورة وخطط عسكرية غربية فإنه سوف ينهزم هزيمة نكراء للأسباب التالية:
1 ـ حضور القيادة الناجحة والفريدة والمخلصة والواضحة المتمثلة بالإمام الحجة المهدي بن الحسن عليه السلام.
2 ـ امتلاك جيش الإمام لأسلحة خطيرة لم تعهدها الجيوش المتطورة.
3 ـ امتلاك الجيش لخطط عسكرية محكمة.
4 ـ وجود قواد من الطراز الأول لهم خبرة طويلة بعد الإمتحانات التي مروا بها.
5 ـ وجود جيش مؤمن بالله وبحقه وبالإمام عليه السلام.
6 ـ معرفة جيش الإمام عليه السلام بالطرق البرية والنهرية في تلك المنطقة خصوصاً إذا عرفنا أن القائد العام للجيش هو من هذه المنطقة.
7 ـ امتعاض العديد من الدول من جرائم السفياني التي اقترفها في بلدانهم خصوصاً في مصر والشام.
بعد انهزام جيش السفياني فإن جيش الإمام عليه السلام يسيطر على منطقة جنوب إيران والعراق ويدخل الحدود العراقية من البصرة ويتوجه إلى الكوفة لمطاردة جيش السفياني.
ثم تتوالى المعارك التي يخوضها الإمام عليه السلام بقوة جيشه وعزيمة أنصاره حتى يحرر كامل الأراضي العراقية ثم يسير نحو الشام وباقي دول العالم.
الهوامش
(1) نقلاً عن المجلسي: البحار، ج32، ص 253.
(2) المصدر نفسه، ج 32، ص 258.
(3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج1، ص 252.
(4) للمزيد عن الغيبيات عند الإمام علي عليه السلام راجع، النصر الله، جواد كاظم: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد رؤية اعتزالية عن الإمام علي عليه السلام، أطروحة دكتوراه غير منشورة (جامعة البصرة/ 2003م)، ص 313 وما بعدها.
(5) ابن ماجة: سنن ابن ماجة، حديث 4072، ص 924، الموسوي، فاروق: الحتميات، ص 291.
(6) ابي داود: سنن أبي داود، ج4، حديث 4316، ص 99.
(7) الموسوي: فاروق، الحتميات، ص 250.
(8) الموسوي، فاروق: الحتميات، ص 249.
(9) بحار الأنوار، ج 32، ص 260.
(10) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج1، ص 268.
(11) ابن حماد: الفتن، ص 187.
(12) هجر: مدينة البحرين، وهو سم فارسي معرب أصله هكر، البكري: معجم ما استعجم، ج4، ص 1346. فيقول ياقوت ان هجر قاعدة البحرين والهجر بلغة حمير القرية، معجم البلدان، ج5، ص 393.
(13) نقلاً عن عاشور، السيد علي: ماذا قال علي عليه السلام عن آخر الزمان، ص 440.
(14) اليزدي الحائري: إلزام الناصب، ج2، ص 213، الموسوي، فاروق: الحتميات، ص 205.
(15) نقلاً عن المجلسي: البحار، ج52، ص 267.
(16) الكوراني: عصر الظهور، ص 119.
(17) ابن حماد: الفتن، ص 187.
(18) الموسوي، فاروق: الحتميات، ص 206.
(19) الشافعي، عقد الدرر، ص 93، القزويني: الإمام المهدي عليه السلام من المهد إلى الظهور، ص 354.
(20) نقلاً عن عاشور، السيد علي: ماذا قال علي عليه السلام، ص 452.
(21) ابن طاووس: الملاحم والفتن، ص 101.
(22) الخطبة السابقة.
(23) نقلاً عن عاشور، السيد علي: ماذا قال علي عليه السلام، ص 446.
(24) كورة معروفة تنسب إلى الجبل وهي أقرب إلى خراسان، البكري: معجم ما استعجم، ج2، ص 960، وهي من أمهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه وهي قصبة بلاد الجبال، ياقوت: ج3، ص 116.
(25) الشافعي: عقد الدرر، ص 174.
(26) الكوراني: عصر الظهور، ص 191.
(27) الشافعي: عقد الدرر، ص 93، القزويني: الإمام من المهد إلى الظهور، ص 354.
(28) نقلاً عن عاشور، السيد علي: ماذا قال علي عليه السلام، ص 440.
(29) ابن حماد: الفتن، ص 192.
(30) الكوراني: عصر الظهور، ص 142
(31) المصدر نفسه، ص 135.
(32) الكوراني: عصر الظهور، ص 106.
(33) الكاظمي، السيد مصطفى: بشارة الإسلام، ص 175.
(34) الموسوي، فاروق: الحتميات، ص 352.