قد يتوهم البعض أن السفارة والنيابة الخاصة هي مجرد تمثيل وتنويب عن الإمام عليه السلام فينقل السفير عنه ما يسمعه من حديث سماعاً حسياً وينقل الأسئلة والأجوبة الخطية من وإلى الإمام عليه السلام وهكذا المعنى والتصور.
وليس كذلك فإنّ حقيقة السفارة ليس ارتباطاً حسياً وإنما السفارة في الروايات ذكرت باصطلاح ومفهوم خاص وهي النقل بتوسط عالم الملكوت فهي ارتباط ملكوتي روحي غيبي.
وقد ورد في الروايات أن الرسول صلى الله عليه وآله سفير الله تعالى, ونقرأ في بعض الزيارات أن الإمام عليه السلام سفير الله تعالى مثلاً ماورد في زيارة ليلة ويوم المبعث لأمير المؤمنين عليه السلام ( السلام عليك يا خاصة الله وخالصته و… وعيبة علم الله وخازن وسفير الله في خلقه…)(1) فالرسول عندما ينقل عن الله تعالى لم يكن ينقل نقلاً حسياً عنه تعالى وإنما بتوسط الملكوت, فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وآله قال جبرائيل عليه السلام عن الله تعالى فليس هو عن سماع بدني وإنما عن طريق الوحي بارتباط روحي ملكوتي غيبي, وهكذا نقل الائمة عليهم السلام عندما يقال إنهم عليهم السلام محدثون، وتقول قال الصادق عليه السلام عن أبيه الباقر عن السجاد عن سيد الشهداء عن أمير المؤمنين عن النبي عن جبرائيل عن الله, أو قال الرسول عن الله في حديث قدسي, فليس المراد بهذه العنعنة أن أحدهم ينقل عن الآخر حساً وإنما بالارتباط الملكوتي, فإنّ الائمة عليهم السلام يحدثون عن الرسول عن الله ولو بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله لأن ارتباطهم الملكوتي الروحي الغيبي برسول الله لم ينقطع بوفاته صلى الله عليه وآله, فمثلاً سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام عند اعتراض عبد الله بن عباس أو محمد بن الحنفية أو عبد الله بن جعفر في خروجه ومسيره للعراق فأجابهم سلام الله عليه بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي اخرج يا حسين فإنّ الله شاء ان يراك قتيل(2) وهكذا عندما اعترض عليه اخراج النساء والعيال معه في مسيره وخروجه فإنّه سلام الله عليه قال: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني أن الله شاء أن يراهُنَّ سبايا)(3) فإنّ ذلك من سيد الشهداء ليس إلا أن ارتباطه برسول الله غير منقطع بل مُفعل عن طريق الملكوت والارتباط الروحي الغيبي, كما أنه سلام الله عليه عندما أجاب بذلك لم يعترض عليه ابن عباس ولا ابن جعفر ولا محمد بن الحنفية لأنهم يعلمون أن الحسين من أهل آية التطهير ومن أهل آية المباهلة إذ احتج به الله عز وجل وجعله مطهراً ويعلم الكتاب كله والقرآن شهد بأن المطهرين من هذه الأمة يعلمون علم الكتاب الذي لا يمسّه إلا المطهرون والكتاب المبين كتاب مكنون فيه كل شيء من رطبٍ ويابس, قال الله تعالى: ((وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ في كِتابٍ مُبينٍ))(4).
وهكذا الإمام الرضا عليه السلام عندما يذكر قصيدة الحميري(5) هذه القصيدة العظيمة التي امر رسول الله صلى الله عليه وآله الرضا عليه السلام أن يأمر شيعة أهل البيت بحفظها وأن الرسول يضمن لمن حفظها وتداولها الجنة على الله، فهذه الرواية نقلها الإمام الرضا عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله مع أن الحميري ألّف هذه القصيدة في زمن الإمام الكاظم أو الصادق عليه السلام، ومن الواضح أن الأمر للإمام الرضا عليه السلام في زمن الإمام الرضا عليه السلام فكيف حصل هذا الامر, فليس ذلك إلا لأن الارتباط بين الائمة عليهم السلام والرسول صلى الله عليه وآله ارتباطٌ مُفعّل لم ينقطع بانتقال الرسول أو الائمة السابقين إلى البرزخ أو إلى الآخرة, لذلك فهم سفراء الله لأنهم ينقلون بتوسط الملكوت.
وهكذا عندما يقال نائب خاص أو سفير عن الإمام المهدي فإنّ ذلك يعني أنه ينقل بتوسط قناة ملكوتية روحية غيبية عن الإمام المهدي عليه السلام, فهذا هو المراد بالسفارة والنيابة الخاصة إذ نجد في زيارة النواب الأربعة هذه العبارة التي رواها الشيخ الطوسي في التهذيب (أشهد أن الله إختصك بنوره حتى عاينت الشخص فأديت عنه وأديت إليه)(6) فهذه المعاينة ليست معاينة بالحس وإنما عاين نور المعصوم بتوسط القلب والروح والذي يعني أنه بلطف الله هناك ارتباط ملكوتي بينه وبين المعصوم وإن لم يكن السفير معصوماً ولم تكن حجيته مطلقة كما مرَّ بيان ذلك لكن السفارة مقام خطير لم يفهمها ولم يعها ولم يفقه حقيقتها اولئك المُدّعون لها زيفاً ودجلاً, فبيان حقيقتها في المقام امرٌ لابد منه في المعرفة والبصيرة للتحصن ممن تستهويه نفسه للخوض في الباطل والأفاعيل بسوء الاستفادة منها، وهذا البيان ينفع في كشف الصوفية وبعض العرفاء الذين تقمصوا مثل هذا المقام فإنّ جملة منهم ادعوا هذه المقامات، لأن التصوف والصوفية اقتبسوا جملة معارفهم ونظامهم من الفرق الباطنية الشيعية, فالصوفية نشأةً وتاريخاً وتولداً في كثير من مبانيهم ومسالكهم متخذة من الفرق الباطنية الشيعية التي انحلت أو انحرفت بعد اطلاعها على بعض الاسرار.
الهوامش:
(1) – مفاتيح الجنان زيارة الامير عليه السلام يوم المبعث.
(2) – بحار الأنوار ج44 ص364.
(3) – جاء في اللهوف في قتل الطفوف للسيد ابن طاووس في معرض حديثه عن خروج الحسين من مكة إلى العراق في الصفحة 40 فقال له ابن الحنفية: انا لله وانا اليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وانت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال فقال له قد قال لي ان الله قد شاء ان يراهن سبايا وسلم عليه ومضى.
(4) – الآية 59 من سورة الانعام.
(5) – قال الفاضل الهندي في شرح العينية الحميرية ص 83
فصل في ذكر ما يتعلق بالقصيدة التي نحن بصدد شرحها
وروى بعض أصحابنا بسنده عن سهل بن ذبيان قال : دخلت على الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) في بعض الأيام قبل أن يدخل عليه أحد من الناس فقال لي : مرحبا بك يا ابن ذبيان ، الساعة أراد رسولي أن يأتيك لتحضر عندنا فقلت : لماذا يا ابن رسول الله ؟ فقال : لمنام رأيته البارحة ، وقد أزعجني وأرقني .
فقلت : خيرا يكون إن شاء الله تعالى ؟ فقال : يا ابن ذبيان ، رأيت كأني نصب لي سلم فيه مائة مرقاة ، فصعدت إلى أعلاه . فقلت : يا مولاي أهنئك بطول العمر ، ربما تعيش مائة سنة ، لكل مرقاة سنة ، فقال لي ( عليه السلام ) : ما شاء الله كان . ثم قال : يا ابن ذبيان ، فلما صعدت إلى أعلى السلم رأيت كأني دخلت قبة خضراء يرى ظاهرها من باطنها ، ورأيت جدي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – جالسا فيها وإلى يمينه وشماله غلامان حسنان يشرق النور من وجههما ، ورأيت امرأة بهية الخلقة ، ورأيت بين يديه شخصا بهي الخلقة جالسا عنده ، ورأيت رجلا واقفا بين يديه وهو يقرأ هذه القصيدة : ( لأم عمرو باللوى مربع ) . فلما رآني النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قال لي : مرحبا بك يا ولدي يا علي بن موسى الرضا سلم على أبيك علي ، فسلمت عليه . ثم قال لي : سلم علي أمك فاطمة الزهراء ، فسلمت عليها . ثم قال لي : وسلم على أبويك الحسن والحسين ، فسلمت عليهما .
ثم قال لي : وسلم على شاعرنا ومادحنا في دار الدنيا السيد إسماعيل الحميري ، فسلمت عليه ; وجلست فالتفت النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى السيد إسماعيل وقال : أعد إلي ما كنا فيه من إنشاد القصيدة ، فأنشد يقول : لأم عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامه بلقع فبكى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ، فلما بلغ إلى قوله : ووجه كالشمس إذ تطلع بكى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وفاطمة ( عليها السلام ) معه ومن معه ، ولما بلغ إلى قوله : قالوا له لو شئت أعلمتنا * إلى من الغاية والمفزع رفع النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يديه وقال : إلهي أنت الشاهد علي وعليهم أني أعلمتهم أن الغاية والمفزع علي بن أبي طالب ، وأشار بيده إليه ، وهو جالس بين يديه صلوات الله عليه . قال علي بن موسي الرضا عليهما السلام : فلما فرغ السيد إسماعيل الحميري من إنشاد القصيدة التفت النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلي وقال لي : يا علي بن موسى احفظ هذه القصيدة ومر شيعتنا بحفظها ، وأعلمهم أن من حفظها وأدمن قراءتها ضمنت له الجنة على الله تعالى . قال الرضا ( عليه السلام ) : ولم يزل يكررها علي حتى حفظتها منه.
(6) – تهذيب الأحكام الجزء السادس 118.