الغَيْبَة في الإسلام والديانات السماوية

هذا الموضوع وبهذا الشكل من التركيز في ذهن المسلمين لم يكن بدون جذور وأسس فكرية ونصوص أساسية تساعد على تبني تفاسير صحيحة وأخرى مزورة، ولهذا علينا أن نمر مروراً عابراً على الأديان لنرى مدى التبشير بالغائب المنتظر ولا نستقصي لطول البحث في هذا الموضوع. ولنبدأ بالتبشير بالغيبة متسلسلا في الأديان المعترف بها.

نسأل أنفسنا ما معنى أن ينفي أحد التابعين في العصر الأول للإسلام المهدي وغيبته؟
أليس يعني وجود هذا القول في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده قليلا، وهم مختلفون بين مثبت ونافٍ؟
ما معنى أن يشك بعض المسلمين في موت محمد بن الحنفية فيقولون: إنه قد غاب غيبة سيرجع منها؟
وكذا الناووسية حين قالوا: بأن الإمام الصادق هو المهدي عليه السلام وأنه غاب وسيرجع.
ما معنى أن يسمي المسلون أبناءهم بالمهدي تيمناً به أو طلباً لأن يكون هو؟ كما فعل المنصور حين سمّى ابنه المهدي لغرض سياسي ديني معروف.
إنه ما يمكن تسميته بالشياع والتعميم الثقافي نتيجة التبشير بالمهدي وغيبته.
ففكرة الإمام المهدي وفكرة غيبته كانت متمكنة جداً من الشعور الإسلامي بسبب تأكيد رسول الله لها، ولهذا فقد كان أصحاب الباطل قد اخترعوا غيبة محمد بن الحنفية بعد وفاته، ولو كان اختراعهم غير مقبول في أصل القصة لقيل لهم بأن فعلهم بدعة، ولكن كان النقاش بثبوت الوفاة وهو ردٌّ للغيبة رداً عملياً. بينما قد رجع السيد الحميري عن إيمانه بمقولة غيبة ابن الحنفية لثبوت صحة إمامة الصادق عليه السلام، وقد سأله فنفى أن يكون هو الغائب، وإن الغائب سيكون السادس من ولده وهو محمد بن الحسن عجل الله فرجه، وهذا طريق ثان للرد على غيبة محمد بن الحنفية، وهو يعتمد الخبر بعدم كونه هو المصداق من قبل العالِم.(1)

هذا الموضوع وبهذا الشكل من التركيز في ذهن المسلمين لم يكن بدون جذور وأسس فكرية ونصوص أساسية تساعد على تبني تفاسير صحيحة وأخرى مزورة، ولهذا علينا أن نمر مروراً عابراً على الأديان لنرى مدى التبشير بالغائب المنتظر ولا نستقصي لطول البحث في هذا الموضوع. ولنبدأ بالتبشير بالغيبة متسلسلا في الأديان المعترف بها.

التبشير بالغيبة

قلنا: إن الديانات نادت بالغيبة وبشرت برجعة الغائب مدة طويلة، وهذا يحتاج إلى بسط بعض الأقوال وتحقيق الأمور فيها، لعل أول ما يمكن أن نشير إليه هو ما أثير واشتهر من غيبة إدريس عليه السلام والتبشير برجعته باعتباره أول الأنبياء الذين ثبتوا قواعد النبوة بين البشر. وقد اعترف بذلك كتّاب أرادوا أن يسيئوا لفكرة الغيبة والرجعة فأثبتوا أنها كانت لديانات سابقة ونسبوها أولا لهرمس وهو نفسه إدريس عليه السلام ، فجاءت القضية عكس ما يريدون وهي أن هذه الفكرة ثابتة في الديانات فكرا ووقوعا، وهذا من أعجب استدلالات الظلم والضلال حيث يستدل بما يثبت الفكرة على كونها غير ثابتة، وذلك انطلاقا من المغالطة التالية: إن أي فكرة تنسب لمن لا نحب إذا وجدنا لها قولا في السابقين فلنعتبرها مسروقة من السابقين، وهي ضلال مبين، باعتبار إن الديانات السابقة أصبحت منسوخة فيمكن أن نقول إن الفكرة نفسها أصبحت ضالة وباطلة، وهذه مغالطة لا يمكن درجها بالمغالطات الصعبة لأنها مكشوفة وبيّنة البطلان، فليس كل ما كان من الديانات السابقة فهو باطل حتى لو لم يرد له ذكر، والثانية إن الإسلام في أغلبه وافق الديانات السابقة فلم يصبح القول الموجود في الديانات السابقة باطلا، وأخيرا فإن هذه الأقوال المكروهة والمنفية التي يراد تضليلها لم تكن وليدة الديانات في الحقيقة، وإنما هي وليدة نصوص نبوية وقرآنية ثابتة. فإن فكرة الرجعة التي ينكرونها أشد الإنكار ورد وقوعها ـ فضلا عن إمكانها في القرآن الكريم ـ في أكثر من سبعة مواضع وكذا الولاية والإمامة والعصمة ونصرة الله والعلم اللدني فكلها واردة بالقرآن بشكل صريح وليس تلميحا، ولهذا علينا الآن أن ندرس الكثير من صور الغيبة والتبشير بها تاريخيا ودينيا ولنبدأ بالنبي إدريس عليه السلام (هرمس). 

إدريس عليه السلام

قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) (مريم/57).

(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ) (الأنبياء/86).

لا شك أن الله ذكر في هاتين الآيتين مقاما كبيرا لإدريس عليه السلام فوصفه بأنه نبي وصدّيق ومن الصابرين ومن المرحومين، ورفعه الله مكانا عليا. وكعادة بعض المفسرين فإنهم لا يفهمون معنى الكلام العربي، فيحتملون عشرات الاحتمالات في كل لفظة إلى درجة انعدام الرؤية، ويضيفون إليها الروايات الاسرائيلية وغيرها مما يشوش المعنى. فلا نريد الآن أن ندخل في مناهج المفسرين.

ما يهمنا هو قوله تعالى:  (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) (مريم/57)، فهنا قد اختلفوا هل الرفعة معنوية أم جسدية، وإذا كانت جسدية: فما معنى رفعه؟

هل هو تصعيده إلى السماء؟

وهل هو في عداد الأحياء أم الاموات؟ إلى آخر الخلاف.

النصوص المعتمدة والمؤيدة بظاهر الكتاب العزيز ان النبي إدريس ارتفع إلى السماء حيا من دون موت، وهذا المعنى هو نفسه الغيبة، أي انه خرج من عالم المادة إلى عالم ثانٍ مع بقائه بحياته وله تعلق جسدي مختلف، وهو مبحث قررناه في مباحث ظاهرة الوحي وتفسيرها وكونها انتقال بين عالمين وجوديين مختلفين في الصفات وإن تقاربا قي الطبقة الوجودية.

الحقيقة إن الدارس لكتب التاريخ القديم يجد الديانات السابقة ـ وخصوصا المصرية ـ، تؤمن بداية بأن النبي إدريس عليه السلام وقد يسمى عندهم اوزريس وهرمس وغير ذلك من الأسماء، هو أهم الأنبياء عندهم إلى درجة التقديس والغلو فيه، وقد روى الكتاب الحداثويون عن كتب السابقين أنهم يقولون أنه نبي غاب ليعود في آخر الدنيا (الدينونة) ليقيم الحق والعدل. وهذا ثابت عندهم إلى درجة أنهم يعتبرون الهرمسية مساوقة للغيبة والرجعة، وهذا اعتراف منهم بوجود فكرة الغيبة دينيا وترسخها في الأديان تبشيرا ووقوعا. ونحن لا نريد منهم أكثر من هذا الاعتراف.

وقد غلا فيه المصريون واعتمدوه نائبا لله ثم ألهوه(2)، ومن الطرائف أن مفكرين يسمون أنفسهم من أهل الثقافة الحداثوية حين رأوا أن فكرة الهرمسية أو الإدريسية تقول بغيبة هرمس وعودته للحق اعتبروا أن أصل الفكر الشيعي هو هرمسية دخيلة، ولم يستح بعضهم أن اتهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بفتح باب الهرمسية على الإسلام، حين لم يوافق الخلفاء على طريقتهم، وهذا منتهى التسطيح الفكري.

فما علاقة هذا بذاك؟؟

فأول شيء يجب أن نعرفه أن علي بن ابي طالب عليه السلام لم يكن إلا ربيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل أفكاره ومفاهيمه، فإذا كان هو من فتح الباب للهرمسية فيعني بأن النبي محمداً هرمسي، وهذا يعني من ناحية دينية أن الهرمسية التي يستنكفون منها هي حق عند المسلمين لأنها من موافقات نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن على كل حال فاستدلالهم بالمقلوب، فلا يعني أن أي توافق لفكرة مع فكرة قديمة هي باطلة وخطأ، لمجرد كونها معمول بها في الأديان السابقة، بل قد تكون هي من الدين الواحد فالتوحيد والنبوة والصلاة والعبادات والأخلاق والروحانيات مما نادت بها جميع الأديان، فعلى قياس هذا المنطق فجميعها باطلة شريرة.

فدعوى محمد عابد الجابري المغربي وغيره بأن الهرمسية أثرت في اليهودية والمسيحية، وهي انحراف في الأديان، ما هي إلا استدلال بالمقلوب، وسيأتي نسبته الهرمسية إلى الفرس جهلا منه بأصلها، ولعله اختلط عليه (هرمز) بـ (هرمس)، مع أنه لا يملك دليلا على المنافاة بين (الغيبة والعصمة والارتباط بالله) وبين الدين السليم.

فالنتيجة التي نريد قولها من هذه الخلطات التي يتحفنا بها الحداثويون، هي أن النبي إدريس عليه السلام غاب لحد هذا اليوم بنصوص قرآنية (ورفعناه مكانا عليا) لثبوت التفسير بأنه ارتفع في السماء وليس رفعة مقام فقط، ودينية لجميع الأديان بحيث أصبحت قضية الغيبة والرجعة مرتبطة به وبفكره تاريخيا على مدى الأجيال. وهذا هو جوهر الموضوع.

وهنا لا بد أن نقرأ مقالا لبعض الحداثويين لنرى الاعتراف بعلاقة النبي هرمس بالغيبة والرجعة ولنرى مقدار الخطأ في التشخيص وفي تناول الفكرة علميا وعمليا بحيث سنرى أغلب الأقوال تعتمد على الخيال والترابط من غير رابط.

يرى سعيد كحل تبعاً للجابري؛ أن ليس لليهودية الماسونية دور بالقضاء على الإسلام في المهد ونشوب الخلافات، وإنما للهرمسية بواسطة الشيعة. ليرد على الثوابت التأريخية التي عرضها (ذ. طلابي) من تدخلات الإسرائليين في حياة المسلمين السياسية، وليرد على نظرية يبدو أنها بدأت تتسرب في مجتمعاتهم تقول: إن الماسونية قررت القضاء على الإسلام عبر إظهار الإسلام والسيطرة على الحكام المسلمين، وعلى أفكارهم وحديثهم ومفاهيمهم وبدأت الإسرائيليات بالظهور تبعا لذلك، فلنقرأ مقال سعيد كحل وجزءاً من مقال ثان له أيضا بعنوان: مطارحة من صميم المصارحة ـ حوار مع صديق إسلامي (9).

كتب سعيد كحل مقالا نورد أهم نقاطه لكونه طويلا. قال:

(من هنا نفهم أن الصراع السياسي بين المسلمين هو الذي خلق الحاجة إلى توظيف المعتقدات (الهرمسية) وليس كما ظن الأستاذ طلابي أن معتقدات الماسونية هي التي خلقت أسباب هذا الصراع.

وهذا ما أكده د. الجابري بقوله (لقد أدركت الأرستقراطية الفارسية التي ركبت التشيع لـ (آل البيت) في ثورتها على الدولة الأموية، أن السلطة في المجتمع العربي الإسلامي آنذاك هي بالدرجة الأولى للإيديولوجيا. فالإيديولوجيا (وهي هنا الدين الإسلامي) هي التي تصنع القوة المادية : تخفف من الصراعات القبلية وتدفعها إلى تجاوز نفسها وتقمع الصراعات الطبقية أو توجهها وجهة خارجية (الفتوحات). ولذلك قررت أن تخوض الصراع في مصدر قوة الدولة العربية، أي في المجال الإيديولوجي ذاته، سلاحها في ذلك تراثها الثقافي الديني المبني على الغنوصية.. هكذا شنت الأرستقراطية الفارسية الموتورة هجوما إيديولوجيا واسع النطاق مستعملة تراثها الثقافي الديني الزرادوشتي ـ المانوي ـ المزدكي. والهدف هو التشكيك في الدين العربي وهدمه وصولا إلى الإطاحة بسلطة العرب ودولتهم) (ص 51 نحن والتراث).

إذن تأثير الهرمسية بمختلف عقائدها على اليهود والمسلمين ثابت، وخاصة فرق الشيعة. يقول الجابري (ونجد تأثير هرمسية أهل حران في الشيعة أيضا وخاصة الإسماعيلية الذين لم يعد الآن شك في نسبة رسائل إخوان الصفا إليهم. وكما يقول كوربان فلقد كانت الشيعة أول من (تهرمس) في الإسلام، وقد ظهرت الهرمسية لديهم وكأنها “حكمة لدنية أي فلسفة نبوية” ( ص 179 نحن والتراث).

أما ما يتعلق بالماسونية في اليمن التي قال عنها ذ. طلابي (فكان محفل سبأ الماسوني باليمن. هذا المحفل الذي عقد مؤتمرا سريا بسبأ فيه تقرر إنزال فرقة يهودية إلى المدينة المنورة بقيادة كعب بن مانع بن هيوع لتشهر إسلامها). فإنها ليست سوى اليهودية وقد تهرمست. وهذا ما أكد عليه الجابري (ولا بد من التأكيد هنا على حضور المعتقدات اليهودية في هذا التراث خصوصا وقد كانت اليهودية المتهرمسة منتشرة في اليمن وبين سكانه منذ عصور سابقة) (ص 297 العقل السياسي العربي).

إذن لما كانت اليهودية في اليمن (متهرمسة) كان طبيعيا أن تتخذ (الإسرائيليات) مضمونا هرمسيا، سواء تعلق الأمر بالرجعة، أو العلم اللدني، أو الكشف وغيرها من المعتقدات. ولاتخرج عن هذا الإطار الأفكار التي عمل على نشرها عبد الله بن سبأ أو كعب الأحبــــــــــار، أو وهب بن منبه. يقول الجابري (إذا استعرضنا الدور الذي قام به في العصر نفسه كل من كعب الأحبار، وهو يهودي من اليمن كذلك، ووهب بن منبه، وهو يمني أيضا من أصل فارسي، في نشر “الإسرائيليات” في أواسط الصحابة والعامة، وقد روى عنهما ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما، إذا استحضرنا هذا الدور الذي قامت به هاتان الشخصيتان فإننا لا نستغرب أن تكون هناك شخصية ثالثة، من (مُسلِمة اليهود) اليمنيين، قامت في ميدان السياسة بسوء نية، أو حسن نية سيئة، بمثل ما قام به وهب بن منبه وكعب الأحبار في مجال التفسير والحديث وقصص الأنبياء الخ، خصوصا ونحن نعلم أن من جملة (إسرائيليات) السياسة: القول بالرجعة والوصية والمهدي)  (ص 233 العقل السياسي العربي).

لقد تجاهل الأستاذ طلابي عنصر الموروث الثقافي القديم وأثره في بروز الفرق الباطنية، وعزى الأمر كله إلى (مؤامرة) الماسونية على الإسلام والمسلمين، بل جعل من الماسونية (محرك) التاريخ وصانع الأحداث. في حين يؤكد الأستاذ الجابري أن (الهرمسية كانت من أقوى التيارات في الموروث القديم، وقد احتلت مواقع أساسية، ولو في صورتها العامية، في جل المناطق التي أسلم أهلها، من مصر إلى فارس، كما كانت لها مراكز (عَالمة) قبل الإسلام في فلسطين وأفامية وحران وغيرها. لقد انتقلت الهرمسية إذن إلى الثقافة العربية الإسلامية ضمن ذلك (المركب الجيولوجي) من الآراء والملل والنحل الذي نتحدث عنه هنا باسم: (الموروث القديم).. فلقد حاربها أهل السنة، وبكيفية عامة المتمسكين ب (المقول) الديني البياني العربي محاربة شديدة، لأنها كانت تشكل الخلفية النظرية لآراء الشيعة والفرق الباطنية) (ص 188 بنية العقل العربي).

وبذلك تكون الهرمسية قد احتلت المواقع الرئيسية في الثقافة العربية الإسلامية عبر تعدد أشكال حضورها في هذه الثقافة، كما يبين الأستاذ الجابري (فمن الغلاة الأوائل إلى الرافضة والجهمية وبعض التيارات (المجسمة)، إلى مؤسسي التصوف النظري الأوائل إلى رسائل إخوان الصفا. إلى الفلسفة الإسماعيلية في أعلى مراحل نضجها إلى التيارات الصوفية الباطنية والفلسفة الإشراقية، مرورا بأصحاب الحلول وأصحاب وحدة الشهود) (ص 209، 210 بنية العقل العربي).

ينبغي القول إذن إن الصراع بين المسلمين حول السلطة، لم تتسبب فيه (الماسونية)، كما لم يكن من تخطيط عبد الله بن سبأ أو كعب بن مانع بن هيوع اليهودي. إذ أن هذا الصراع نشب مباشرة عقب الإعلان عن وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا تمكن المسلمون من تجاوزه بمبايعة أبي بكر خليفة، فإنهم لم يقضوا على أسبابه. وهذا ما عبر عنه الشهرستاني بقوله (أعظم خلاف بين الأمة، خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان) (ص 22 الملل والنحل).

وقال:

إن موقف علي بن أبي طالب من مبايعة أبي بكر هو الذي سيفتح باب استيراد المعتقدات الهرمسية وتوظيفها في الصراع السياسي والإيديولوجي حول السلطة. وبسبب الأطماع السياسية والقناعات الإيديولوجية التي ترفض الاحتكام إلى الديمقراطية، عانت الأمة الإسلامية من الاستبداد والقهر.

وقال في مقال آخر:

(يقول الدكتور عابد الجابري (وهكذا نخلص إلى النتيجة التالية وهي أن عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية وهو يهودي من اليمن زمن عثمان أو قبله، ونشر فكرة (الوصي) الخ.. ثم صار يحوم حول علي بن أبي طالب بعد أن تولى الخلافة. ولكن عندما بدأ يغالي في حقه نفاه إلى المدائن. وعندما اغتيل علي نشر فكرة الرجعة والوصية، فكان بذلك الأصل الأول لـ (الغلو) في حق علي. وستقوم على أفكاره هذه جملة آراء و (عقائد) في الإمام والإمامة اكتست طابعا ميثولوجيا) (ص 235 العقل السياسي العربي).

وكون عبد الله بن سبأ يهوديا لا يعني بالضرورة أنه ماسوني. بدليل أن مسألة الظاهر والباطن، ليست من وضع الماسونية أو من تأليف عبد الله بن سبأ، بل هي ذات أصل ومنشأ هرمسي ـ نسبة إلى هرمس.

وفي هذا يؤكد د. الجابري أن عبارة (الولاية باطن النبوة) ( تلخص بصورة مكثفة جدا كل الجهد الفكري الذي بذله العرفانيون الإسلاميون من شيعة وإسماعيلية ومتصوفة من أجل إعطاء قالب إسلامي للموروث العرفاني السابق على الإسلام والهرمسي منه بصفة خاصة. ذلك أن الرؤية العرفانية الإسلامية للعالم، للكون والإنسان والزمان والتاريخ، إذا كانت تتخذ من الزوج النبوة/الولاية إطارا لها فإن المادة الموظفة داخل هذا الإطار هي عناصر تنتمي مباشرة، وفي أحيان كثيرة علنا وصراحة، إلى التراث الهرمسي) (ص 328 بنية العقل العربي). انتهى كلامه.

أقول: هذا الكلام الهلامي الذي يضرب بعضه بعضا، لا يمكن أن يثبت في الحوار. فغاية ما يعتمد عليه هو التشابه، فيقوم بالربط الإلزامي على أساس التشابه، وكان الأولى به أن يلتفت إلى انه جعل الهرمسية أقوى الديانات كما يحاول تصويرها، وهي أعمقها في التأريخ وقد أخذت بها كل الديانات كما ينقل هو، وهذا لا يقتضي هنا أن يكون تأثيرها منتقلاً بين الديانات فقط، بل لعله عين الدين الصحيح فنادى بها الرسل وأتباعهم، وهو هنا لا يستطيع أن ينفي هذا بأي دليل، خصوصا إذا ثبت أن النبي محمداً’نفسه بشّر بالمهدي والرجعة وبالعصمة (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)، فالنبي هو أول هرمسي في نظره المعرفي، وكل ما أتى به من ادعاءات عن نقل الهرمسية إلى الإسلام عن طريق الشيعة ليس له أي شاهد يمكن أن يثبت في الحوار، فلا يساعده أي دليل مطلقا وأي واقع تأريخي، ولا يستطيع أن يثبت مصدرية أفكار الشيعة بعيدا عن أفكار أهل البيت ونصوصهم، يوم كان الفرس غارقين في التسنن، ومع ذلك فقد وقع في سطحية واضحة، فلم يبق مذهب في الإسلام من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال الا وقال عنه انه من نتاج الهرمسية، ففي نصه هذا جعل كل المسلمين هرمسيين، من مجسمة ومنزهة وعدلية وجبرية وعقلية ونقلية فكلهم هرمسيون، فلنقرأ نصه الطريف ( فمن الغلاة الأوائل إلى الرافضة والجهمية وبعض التيارات (المجسمة)، إلى مؤسسي التصوف النظري الأوائل إلى رسائل إخوان الصفا. إلى الفلسفة الإسماعيلية في أعلى مراحل نضجها إلى التيارات الصوفية الباطنية والفلسفة الإشراقية، مرورا بأصحاب الحلول وأصحاب وحدة الشهود).

إذا كان هؤلاء كلهم هرمسية فمن بقي في الإسلام؟ لعله لا يدري أن هذه هي كل التيارات الإسلامية. فهم السنة والشيعة، بكل فرقهم.

ولكن ماذا نصنع لنصيب المسلمين أن ينسب هؤلاء السطحيون لهم، وهم في السطحية وعدم الترابط وعدم الثبات بهذا الشكل الغريب.

إن هذا النص الطويل يمكن مناقشته بكتاب كامل، ولكن لا يبعد وصفه بجمل قصيرة أيضا. إن هذا البحث أراد أن ينفي فأثبت حيث أثبت وجود مؤامرة ماسونية على الإسلام من قبل اليهود، وحاول التنصل والتبرير برأيه لأنه لايعقل أن عمراً يستجيب للمؤامرة!!! ولكن شدد على أن أركان المؤامرة هم الحاشية الخاصة لعمر (كعب الأحبار ووهب بن منبه) وأراد أن يعمم فأتى بشخصية مختلف في وجودها أصلا لعدم كونها معروفة أو مروية بطرق صحيحة بخلاف الشخصيات الماسونية التي وصفها ونقل الاجتماع الماسوني من أجلها في اليمن، وكيف قرروا تخريب الإسلام، ولكن الأفكار التي طرحها الإثنان اللذان قال عنهما أنهما انبثقا من المجمع الماسوني كانت ضد الأفكار الشيعية التي وصفها بالهرمسية، فكان هؤلاء الذين ادعى أنهم هرمسيون ضد الوصية وضد الرجعة وضد العصمة وضد العلم الإلهي للإمام وضد الإمامة، فقد خلط علينا الأفكار فلا يعرف المثقف ما يريد؟

فهؤلاء الماسونيون الذين تهرمسوا وقرروا تخريب الإسلام عبر الثقافة والسياسة والقرب من خليفة المسلمين القوي، كما حققه خياله وجاؤوا إلى الإسلام ووقفوا في الصف المعادي للهرمسية ونفوا كل الأفكار الهرمسية وتبين أن الهرمسية مرفوضة من قبلهم.

فهذا هو الخيال المتناقض ونقض الغرض حيث أراد أن يثبت هرمسية الماسونية فأثبت أن الماسونية عدوة الهرمسية من دون أن يشعر. على أن من نسب إليهم الهرمسية لا يعرفون الهرمسية ولا أصلها ولا علاقة لهم بها وإنما هي أفكار قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقلها أهل بيته عليهم السلام.

نقل (فكان محفل سبأ الماسوني باليمن. هذا المحفل الذي عقد مؤتمرا سريا بسبأ فيه تقرر إنزال فرقة يهودية إلى المدينة المنورة بقيادة كعب بن مانع بن هيوع لتشهر إسلامها) وتبين أن الهرمسيين عملوا ضد الهرمسية، ولكن أتى بشخصية عبد الله بن سبأ الهلامية الخيالية ليرقع بها الحدث ويثير ضبابا كثيفا على الفكرة تخلط الحابل بالنابل، وعلى أقل تقدير فإن شخصية ابن سبأ خيالية في عملها وتأثيرها في الأحداث، حيث لا يوجد أي واقع تاريخي يشير إلى هذا التأثير وإلى تكوين فرقة تؤمن بها على انه من المستحيل نقل حقيقة أفكاره إذا كان موجودا لأنه لا يوجد في التاريخ المنضبط أي مؤشرات لأقواله عدا ما قيل عنه بتأليه الإمام علي عليه السلام وإعدامه على يد الإمام علي عليه السلام لأنه كافر.

فنسب إلى ابن سبأ أفكاراً هرمسية ونفى عنه كونه ماسونيا وهو شخصية وهمية، بينما لم ينف الماسونية عن كعب ووهب، وإنما قال ان هذه الماسونية تهرمست واكتفى بذلك، قال (وكون عبد الله بن سبأ يهوديا لا يعني بالضرورة أنه ماسوني. بدليل أن مسألة الظاهر والباطن، ليست من وضع الماسونية أو من تأليف عبد الله بن سبأ، بل هي ذات أصل ومنشأ هرمسي ـ نسبة إلى هرمس).

وكان كل همه أن لا يربط بين الماسونية وما حدث من انقلابات في السلطة، وأخذ يبرر في نص لم أنقله بالكامل، بأن الصراع على السلطة كان صراعا قبليا لئيما، وكان يشترك فيه حتى النبي محمد لأنه اقصائي أراد أن يقصي القبائل الأخرى، فأقصت هذه القبائل جماعته وعترته.

وقد اهتدى بالسطحية إلى ان من جملة (إسرائيليات) السياسية: القول بالرجعة والوصية والمهدي، وهنا نسأل: أين فكرة المهدي والوصية والرجعة في الفكر الإسرائيلي؟

ومن أين له هذه الدعاوى التي لا يستطيع مطلقا أن يثبت شيئا منها؟

ثم هل أصبح هؤلاء الرواة الصحيحو الرواية عندهم من الكذابين المخربين للإسلام؟

أم أن الماسونية أرادت أن تحيي النظام الإسلامي ضد الهرمسية؟

فلا نعرف!!! منْ مع منْ؟
هل الهرمسيون ضد الهرمسية؟
وهل الماسونيون ضد الماسونية؟
وهل المسلمون ضد الإسلام؟
ما هذا الهراء الكلامي الذي ليس له أول ولاآخر؟

فكعب الأحبار وزير الخليفة عمر بن الخطاب هرمسي وكذا وهب بن منبه وقد تبعهما ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وخلق كثير من الصحابة، وقد مارس الصحابة خصوصا الخلفاء الأربعة حربا قبلية على السلطة ضد دينهم بمعايير القبيلة لا بمعايير الإسلام!!! فهذا هو ما يعترف به ويصرح به رغم تناقضاته.

فقد أراد أن يمدح فذم.

وأراد أن يبرر فأثبت التهمة.

وأراد أن يحسّن الصورة فأساء التصوير.

فإنا لم نكن نعلم ان هناك حركة ماسونية واجتماع ماسوني في اليمن قرر الدخول في الإسلام!

ولم نكن نعلم أن هذا المجمع الماسوني قرر أن يبعث كعب بن مانع وهو من خيار أصحاب الخليفة، والمشكلة ان هذا الذي أفرزه الاجتماع الماسوني كما ينقل سعيد كحل ناقدا بلا نفي، لم يكن قد أيد الأفكار الهرمسية التي نقلها علي بن ابي طالب والكثير من الصحابة عن رسول الله، بل حاربها، ووقف في الطرف الآخر، بعكس ما يحلل الدكتور محمد عابد الجابري بحسب السطحية التلفيقية للتاريخ وللأفكار. فكيف أصبحت الهرمسية تحارب نفسها؟

وهناك حقيقة نساها محمد عابد الجابري وهي ان الذين حاربوا الدولة الأموية في إيران لم يكونوا من الفرس أصلا، وإنما هم من قبائل العرب في خراسان ونواحيها من مذحج والازد وخزاعة والأشعريين والأسديين وغيرهم من العرب الناقمين على بني أمية ومفسقيهم، وهم القيادات العسكرية والسياسية والدينية العربية في بلاد فارس وكانوا جميعا تحت قيادة محمد النفس الزكية من بني الحسن بن علي بن أبي طالب وبالإدارة المباشرة للأخوين السفاح والمنصور من بني العباس. وكانت تدار الثورات من المدينة المنورة، وليس من البيوت الارستقراطية الفارسية كما سماها بحسب خياله الخصب. وكل ما قاله لا يوصف الا بالكذب المتعمد أو الجهل الفضيع.

وبقي أمر مهم جدا، وهو انه لم يستطع أن يكشف عن هوية هرمس، فقد أخفى أنه النبي إدريس عليه السلام وهو مرسل من الله، وقد صوره كقوة شيطانية عجيبة دمرت الأديان في العالم شرقا وغربا، ومع هذا لم يستطع أن يثبت أن أفكار هرمس خاطئة أو أنها منحولة له، ولم يشر إلى عظمة وأهمية هرمس وكونه من أعظم من خدم الكرة الأرضية والبشرية، حيث حوّل العالم إلى الحضارة. كما تكتب الكتب القديمة.

بقي يشتم بالهرمسية وكأنها فكرة قذرة لاتمت إلى الرحمن بصلة، وكل ما أتى به إنما هي أفكار قال بها رسول الله’ وأهل بيته عليهم السلام، من عصمة (وما ينطق عن الهوى) وولاية وغيبة وغير ذلك.

كل باحث متثبت يعلم أن القائل بمثل مقولات الجابري وكحل لا يملك في ذلك أية نصوص حقيقية أو دالة تدل على صحة تحليله وان أفكار الشيعة هي أفكار منحولة.

ولا يتمكن من نقد فكر هرمس نفسه بهذه المقولات التي يشتمها ويعتبرها أساس التخريب الإسلامي كما يدعي متجاهلا نفس نصوصه الخطيرة في الأسباب الأخرى التي قالها بوضوح وهو لا يعلم ما يقول.

بل من الطريف قد لا يستطيع أن يثبت أن الهرمسية تعنى بالرجعة والعصمة والإمامة وغير ذلك مما ادعاه، لعدم توفر النصوص الحقيقية، وعلى الأخص النصوص الدينية المعتمدة.

وإذا كان يقصد أن الهرمسية هي الفكر اليوناني الوثني فما أبعد هذا عن ذاك؟

هذه مداخلة بين المعاني يسهل نقدها، فتبين أن كل هذا الكلام ما هو الا فقاعة صابون لا تحتوي أي ثقل علمي أو فكري.

وكل هذا الذي تكلّفوه وتوهّموه إنما هو لدفع تهمة أن اليهود قد تدخلوا في تخريب البنية الإسلامية في أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وكان دفاعهم يثبت التهم حسب طريقتهم، فإن عدم نفي الاجتماع الماسوني والقرار بإرسال شخصيات للاختراق، وكونهم وصلوا فعلا، وكان لهم عظيم الأثر في الإسلام وفي الفكر الإسلامي، بحيث أصبح من المألوف أن توصف جملة كبيرة من الروايات التي شرحت الدين والكتاب المقدس بأنها إسرائيليات من صنع كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن عمرو بن العاص وصحائفه الكتابية الشهيرة، فإن هذا هو الواقع الحقيقي المبرهن للوجود المتواصل، الذي يشكو منه المفكرون الإسلاميون ومن نتائجه المدمرة لدين الإسلام، وما جرى من مآس حتى مقتل الخليفة عمر بن الخطاب حيث تم التحقيق بأن إشارة كعب الأحبار له بأنه سيقتل بعد ثلاثٍ، وقُتل فعلا، وتم تلبيس التهمة لرجل من موالي عمر بن الخطاب وخاصته والعاملين في بيته بتصنيع أثاثه وهو أبو لؤلؤة الذي قتله ابن عمر، بينما القاتل قد قتل في المسجد فور قتله للخليفة عمر، إن مثل هذه الملابسات في الاعتداء على الإسلام والفكر الإسلامي لم يحلها مقال كحل ولا مقالات الدكتور الجابري، وإنما اثبت التهمة وعمقت الشك فيها من اجل دراستها من جديد بطريقة تحقيقية تامة.

مع أن أهم قضية في التخريب هي تخريب العقائد، وبما ان عقائد المسلمين تفرعت عن الخلاف فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل أساسي، فانتهى الجابري إلى ان الخلاف كان قبليا. فتحوّل دفاعه عن الصحابة وعدم تأثرهم باليهودية، إلى اتهام للصحابة نفسهم بالمروق عن الدين بالقبلية وسوء الإيمان وانفلات الأمر بعد النبي بغير ضوابط دينية. وهذا من سوء توفيق المفكريين الحداثويين.

سماحة الشيخ نزيه محي الدين

الهوامش
(1)  الصراط المستقيم – علي بن يونس العاملي – ج 2 – ص 229.
(2)  يبدو ان اليونان أيضا ألهوه او اعتبروه ابن الآله.

شاهد أيضاً

الإنتظار حالة ترقب لنبأ عظيم

مركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي عليه السلام قال سماحة السيد على السبزواري في حديثه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *