ولهذه الفتن رسم بياني في صعودها وهبوطها، بيد أنه يصعب على الرياضي المثقف رسم معالمها بأوصاف ثابتة، إلا أنه يمكن تقريب ذلك بالقول أن أدنى لهب الفتن هو وقوع الخلاف، ومتوسطه سفك الدماء، وأعلاه اندلاع الحروب؛ فالحرب لا تنشب عادة إلا بعد صعود مطرد في مستوى الخلاف، ومن المؤكد أنه ما من حرب إلا سبقتها خلافات مريرة، سواء كان ذلك بين طرفين أم أكثر، فالحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914م ما كانت لتقع لولا وجود الخلافات بين ألمانيا وروسيا، وكذلك سائر الحروب التي وقعت على ظهر البسيطة.
الفتن من النوائب التي ستصيب الأمة:
من أبرز العلامات التي تسبق ظهور المهدي شدة الفتن والحروب، وقد أنبأت بها نصوص دينية، ومن أبرزها ما قاله الإمام الباقر : «لا يقوم القائم إلا على خوف شديد من الناس، وزلازل، وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك، وسيف قاطع بين العرب» [1] .
ولهذه الفتن رسم بياني في صعودها وهبوطها، بيد أنه يصعب على الرياضي المثقف رسم معالمها بأوصاف ثابتة، إلا أنه يمكن تقريب ذلك بالقول أن أدنى لهب الفتن هو وقوع الخلاف، ومتوسطه سفك الدماء، وأعلاه اندلاع الحروب؛ فالحرب لا تنشب عادة إلا بعد صعود مطرد في مستوى الخلاف، ومن المؤكد أنه ما من حرب إلا سبقتها خلافات مريرة، سواء كان ذلك بين طرفين أم أكثر، فالحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914م ما كانت لتقع لولا وجود الخلافات بين ألمانيا وروسيا، وكذلك سائر الحروب التي وقعت على ظهر البسيطة.
فالفتن إذاً هي الشرارة الأولى لوقوع المخاطر، ومن هنا جاءت التوصيات بأن ينأى العاقل من المساهمة في اندلاعها، قال الإمام علي : «لا تقتحموا من فور الفتنة، وأميطوا عن سننها، وخلوا قصد السبيل لها» [2] ، وسر الابتعاد منها يعود للحفاظ على ما تبقى من هشاشة جسد الأمة، وحقناً للدماء البريئة التي قد تسفك على وجه الأرض، وكي لا يغدو المرء وقوداً للهيبها، يقول الإمام علي : «من شب نار الفتنة كان وقوداً لها» [3] .
أنواع الفتن قبل ظهور الإمام :
ينبغي للمسلم أن يكون لديه إلمام بما سيجري في الأمة من فتن، وذلك من خلال مطالعة النصوص التي تستشرف المستقبل، وتحكي بشكل عام عما ستبتلى به الأمة في آخر مطافها، وها نحن في الأسطر الآتية نسلط الضوء على هذه الفتن التي أخبرت بها النصوص الإسلامية، وبعد مطالعة الكثير منها أمكن القول بأن الفتن المقبلة هي على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: فتن ترتبط بالتخلي عن تعاليم الإسلام:
وهذا العنوان يعني بأن الناس سيشهدون في مستقبل حياتهم، ما يسبب لهم التخلي عن تعاليم السماء، وذلك لأسباب عديدة، منها الضعف الاقتصادي الذي قد يلجئ البعض لأن يمارس أعمالاً مخالفة للدين لكسب المال، ومنها نشوب الصراعات الإقليمية التي تدفع البعض لأن يركب الموجة، مما يؤدي لأن يقع في مخالفات واضحة مع شرع الإسلام، ومنها قيام دول حاكمة تسعى لبسط سلطانها بالقوة، وتكون سبباً لإفساد الناس بالوسائل المختلفة، مما يجعل الناس حائرين في أمرهم، إذ يرون الفساد حاصلاً ولا قدرة لهم على التغيير، لأن التدخل في هذه الأمور لن يكون متاحاً لأي أحد، بخلاف ما كانت عليه الأمة في السابق، وهذا ما نفهمه من النصوص التي تبين بأن الأمور ستنقلب رأساً على عقب، كقول الإمام الصادق : «ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم، ورأيت الولاية قبالة لمن زاد، ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفى بهن، ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة، ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله، ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور، يعلم ذلك ويقيم عليه، ورأيت المرأة تقهر زوجها، وتعمل ما لا يشتهي وتنفق على زوجها، ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ويرضى بالدني من الطعام والشراب، ورأيت الأيمان بالله عز وجل كثيرة على الزور، ورأيت القمار قد ظهر، ورأيت الشراب يباع ظاهراً ليس له مانع، ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها، لا يمنعها أحد أحداً، ولا يجترئ أحد على منعها، ورأيت الشريف يستذله الذي يخاف سلطانه، ورأيت أقرب الناس من الولاة من يمتدح بشتمنا أهل البيت، ورأيت من يحبنا يزور ولا تقبل شهادته، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه، ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه، وخف على الناس استماع الباطل…» [4] .
ويبدو أن ذلك يعود إلى السياسة المتبعة في العصور المتأخرة، حيث أنها ستضع قوانين تحظر على الناس الاعتراض، ويبدو أن الأمور ستصل إلى ما يمس حقوقهم الطبيعية، فلا هم يحصلون على حقوقهم ولا يستطيعون المطالبة بها، حيث أن المطالب بها يعرض نفسه للاعتقال والتعذيب وربما القتل بمزاعم لا أساس لها من الصحة، وتظل هذه الحالة قائمة حتى ييأس الناس من الفرج، كما ورد في النص عن الإمام الصادق : «يا منصور إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس، ولا والله حتى تميزوا ولا والله حتى تمحصوا، ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد» [5] .
القسم الثاني: فتن تتعلق في تشتت العلاقة بين المذاهب:
يجب على المسلم أن يعلم بأن إيجاد الخلاف بين المسلمين، هو مطمع استراتيجي لأعداء الدين، الذي يقوم على سياسة فرق تسد، ويمكن تصور الخلاف المزمع وقوعه بين أبناء المسلمين على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: الخلاف بين السنة والسنة:
وهذا المستوى وإن لم نستبعد قيامه من جديد، إلا أنه من المؤكد حصوله في التاريخ، حيث كان الصراع محتدماً بين المذاهب، وقد وصل إلى درجة الترامي بينهم بأوصاف غير لائقة، فمن جملة ما سجله التاريخ في تلك الحقبة المظلمة:
أولاً: الخلاف بين الحنابلة والشافعية: لقد وقع تراشق بين المذهبين على لسان معتنقيه، فقال على سبيل المثال: ابن حاتم الحنبلي: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم “. وقد كفر أبو بكر المقري جميع الحنابلة» [6] . وفي المقابل كان بعض المنتمين للمذهب الشافعي يرمي أهل الحنابلة بشيء من الكلمات النابية، فقال المظفر الطوسي الشافعي: «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الحنابلة الجزية» [7] .
وذكروا أن محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، ألف كتاباً في اختلاف الفقهاء ولم يتعرض لآراء أحمد بن حنبل، لأنه يعتبره محدثاً أكثر منه فقيهاً! فأساء ذلك الحنابلة، فسألوه عن حديث على العرش! فقال: إنه محال وأنشد: سبحان من ليس له أنيس * ولا له في عرشه جليس. فمنعوا الناس من الجلوس إليه، ومن الدخول عليه، ورموه بمحابرهم، فلما لزم داره، رموه بالحجارة حتى تكدست» [8] .
ثانياً: الخلاف بين الحنفية والشافعية: وفي هذا الجانب أيضاً ينقل بأن الشافعية كانت تقذف الحنفية ببعض الكلمات الاستفزازية، فمثلاً قالت الحنفية للشافعية: ما جسر إمامكم أن يخرج إلى الوجود حتى مات إمامنا، وأجابتهم الشافعية: بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا! “[9] . وسئل أحد متعصبي الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ؟ فقال: يرمى لكلب أو حنفي!»! [10] . وقال محمد بن موسى الحنفي قاضي دمشق المتوفى سنة 506 هـ: «لو كان لي من الأمر شيئاً لأخذت على الشافعية الجزية» [11] . ووصل الأمر في مجال التراشق إلى وضع الأحاديث على لسان رسول الله من ذلك قول الأحناف: «سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي»، كما وضعت الشافعية قولاً نسبوه إلى رسول الله : «عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً» يقصدون بذلك محمد بن إدريس الشافعي فرد عليهم الأحناف بحديث: «سيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس» [12] .
وقال صاحب المغني: «وقد بلغ من إيذاء بعض المتعصبين، في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي، أن ذهب بعض شيوخنا الشافعية إلى المفتي، وهو رئيس العلماء وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين الحنفية، فإن فلاناً من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة!! في هذه الأيام من خلافهم في تزويج الرجل الحنفي بالمرأة الشافعية، وقول بعضهم لا تصح لأنها تشك في إيمانها! هذا، وقد أحرق الحنابلة مسجداً للشافعية، وقام خطباء الحنفية يلعنون الحنابلة والشوافع على المنابر، ووقعت فتنة بين الحنفية والشافعية، فحرقت الأسواق والمدارس. يقول ابن الأثير في حوادث سنة 323 ه: وقد كثرت فيها حوادث الشغب من جانب الحنابلة واعتداءاتهم على الشوافع» [13] . وقال ياقوت الحموي عن أصبهان: «وقد نشأ الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن، والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وحرقتها وخربتها» [14] ، وقال عن الري: «وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، وقامت الحروب بينهما كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم!!» [15] .
ثالثاً: الخلاف الحاصل بين سائر المذاهب: يروي الشيخ محمد الغزالي في أحد كتبه: «أنه عاش الزمن الذي كان يدخل المسجد تقام فيه أربع جماعات منفصلة للصلاة حسب المذاهب الأربعة» [16] .
المستوى الثاني: الخلاف بين السنة والشيعة:
وهذا ما يقوم به المتطرفون في مساراتهم الفكرية، وكان أتباع أهل البيت الضحية لتصرفاتهم الفكرية والعملية، والشواهد في ذلك كثيرة ونكتفي بعدة أمثلة: يقول ابن بطوطة: «أنه حين دخوله الأناضول، وأراد أن يصلي في إحدى المساجد، لم يكد يكبر تكبيرة الإحرام ويشرع في قراءة الفاتحة، حتى أحس باللكمات تتساقط عليه من هنا وهناك، فصرخ: يا قوم ماذا جنيت؟ فقالوا: أنت شيعي ترسل يديك في الصلاة! فقال: بل أنا سني مالكي، وفي مذهبنا إرسال اليدين، فقالوا: أنت كاذب!! فو الله لم يصدقوني حتى ذبحوا لي أرنباً، وأطعموني إياه فأكلته ـ وكنت جائعاً ـ «باعتبار أن مذهب الشيعة يحرم أكل الأرانب فأرادوا التأكد من عدم تشيعه!» [17] ، ويقول فهمي هويدي: «ولا زلت أذكر تجربة مررت بها في إحدى دول الخليج، عندما خرجت أبحث عن مسجد لصلاة الجمعة، وسألت صبياً فإذا به يشير في اتجاهين قائلاً: إن هذا مسجد المسلمين، وذاك مسجد الشيعة!!» [18] . وظاهرة التكفير ما وجدت إلا لمحاربة التشيع! فقام أهل التكفير بتشويه أصل التشيع، فنسبوا مصدره إلى أسطورة عبد الله بن سبأ! ودعوا الناس إلى الابتعاد عن الشيعة، لئلا يتلوثون بعقائدهم الباطلة كما يزعمون! كما أن بعضهم أفتى بحرمة أكل ذبائحهم! لأنهم برأيه مشركون ومرتدون ويستحقون بذلك القتل! [19] .
وفي زمن الضبابية التي عاشتها الأمة الإسلامية، تحرك بعض المخلصين باتجاه التقارب بين المسلمين، لتقريب اللحمة وتوحيد الكلمة، فكانت الثمرة المقتطفة هي فتوى شيخ الأزهر محمود شلتوت، تجيز التعبد بمذهب الشيعة، إلا أن فرقة التعالي التي تدعي أنها حامية التوحيد، امتنعت عن قبول فتوى الأزهر.. لماذا؟ هذا ما سيكشفه لنا الباري عز وجل يوم تبلى السرائر.
المستوى الثالث: الخلاف بين الشيعة والشيعة:
وحول هذا الأمر وردت روايات حول اختلاف شديد يقع بينهم، يصل إلى درجة البصق من قبل البعض، كالرواية التالية: يقول أمير المؤمنين : «فو الذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض، وحتى يسمي بعضكم بعضاً كذابين…» [20] . وقد أشرنا لهذه النقطة في مقال سابق، بشيء من البسط فلا حاجة للإعادة.
القسم الثالث: فتن ترتبط بالحروب خصوصاً العربية:
ومن خلال النظر إلى النصوص يتبين بأن الساحة الإسلامية، لاسيما البلدان العربية ستشهد فتناً كثيرة، ومصائب جمة، وقد أخبر بها الإمام الباقر بقوله: «لا يقوم القائم إلا على خوف شديد من الناس، وزلازل، وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك، وسيف قاطع بين العرب، واختلاف شديد بين الناس» [21] . وقال : «الزم الأرض لا تحركن يدك ولا رجلك أبداً، حتى ترى علامات أذكرها لك… في سنة، وترى منادياً ينادي بدمشق، وخسف بقرية من قراها، ويسقط طائفة من مسجدها، فإذا رأيت الترك جازوها، فأقبلت الترك حتى نزلت الجزيرة، وأقبلت الروم حتى نزلت الرملة، وهي سنة اختلاف في كل أرض من أرض العرب…» [22] .
ويبدو أن الحروب والفتن وإن كانت عامة كما جاء في النص الأخير، إلا إنها ستتركز في العراق وبلاد الشام، وبالخصوص دمشق وما حولها، فالرواية عن سعيد بن المسيب تقول: «تكون بالشام فتنة كلما سكنت من جانب طمت من جانب، فلا تتناهى حتى ينادي مناد من السماء: إن أميركم فلان» [23] ، وقد فسر الشيخ الكوراني خراب الشام بأثر المعركة، التي ستحدث بعد ظهور الإمام المهدي حيث قال: «أما خراب دمشق المقصود بقول أمير المؤمنين « ولا نقضن دمشق حجراً حجراً يفعله رجل مني » فالظاهر أنه التدمير الذي يكون في معركة فتح القدس الكبرى، التي يخوضها الإمام المهدي مع السفياني واليهود والروم» [24] .
من يغذي الفتن في العالم الإسلامي؟
وهنا سؤال جدير بطرحه، وهو شديد الارتباط بموضوع الفتن، ألا وهو: من هي الجهة التي تقوم بإشعال الفتن في البلاد الإسلامية؟ وحين نفكر في الإجابة سنجد أنها تكمن في الجهات التالية:
الأول: أعداء الشعوب المسلمة: بمعنى أن الذي يغذي الفتن في الأمة الإسلامية عادة ما يكون عدوها، فالذي له مصلحة في إشعال الفتن هو الذي يجب أن توجه إلى أصابع الاتهام، والتاريخ يؤكد أن الاستعمار كثيراً ما كان يخطط في ضرب وحدة الأمة، ويوجد فيها ما يحقق مطالبه، ويكفي في ما يؤكد ذلك أن نذكر هذين المثالين:
«1» يقول الإمام الشيرازي « قدس سره »: «في مذكرة لسفير ألمانيا قبل نصف قرن تقريباً كان يتواجد في طهران يقول فيها تحت عنوان «الملا والسوق»: إننا يجب علينا أن نحطم الملا والسوق، لأننا كلما أردنا من خطوة إصلاحية ـ حسب تعبيره ـ بسبب الملك، يراها «الملا» مخالفاً لموازين الإسلام، أو يرى فيها شائبة استعمار! فيوحي إلى أهل السوق الذي يقلدونه بغلق السوق والإضراب أو المظاهرات… فاللازم علينا أن نشتت السوق، حتى لا تكون هناك وحدة واحدة سوقية، تكون ظاهرة للعيان بل تكون هناك دكاكين، مبعثرة في طول طهران وعرضها، كما أنه يجب أن نأخذ النفوذ من العلماء والحيلولة بين الشعب وبينهم….» [25] .
«2» يقول الإمام الشيرازي « قدس سره »: «وقد ذكرت الجاسوسة البريطانية المشهورة «مس بيل» التي كانت حقبة من الزمن في العراق في مذكراتها التي ترجمها «جعفر الخياط» وطبع في «لبنان»: أنهم في ثورة العشرين، رأوا أن الذي أثر عليهم وسبب انهزامهم كانوا هم العلماء. لأنهم نافذو الكلمة في الشعب، ففكروا في الحيلولة بين العلماء وبين الشعب، وذلك بفتح المدارس التي تربي جيلاً خارجاً عن نفوذ العلماء، وحينئذ لا يتمكن العلماء من شيء، وهكذا فعلوا في العراق حتى وصل الأمر فيه إلى تحطيم الحوزات العلمية» [26] .
الثاني: المنافقون في هذه الأمة: وهم الذين يتظاهرون بالإسلام وهم بعيدون عنه، ولو كانوا صادقين مع ربهم لسعوا في تطوير بلادهم، تطويراً حقيقياً من الناحية العسكرية، والاقتصادية، والصناعية، والطبية، وغيرها، وعندما نتساءل عن السبب! سنجد أنه يكمن في أن بعض هذه الدول مقيدة باتفاقيات تمنعهم من ذلك، لتظل في عوز شديد لتلك البلاد، فتظل أموال الأمة تضخ لصالح الدول الكبرى! مما يؤدي إلى تطورها الاقتصادي والصناعي على حساب مصالح البلاد الإسلامية. وإذا صح ذلك القول فلا غرو إن تقوم هذه الأنظمة بإيجاد الفتن في البلاد الإسلامية، لتبقى تلك المصالح الخارجية ثابتة ومضمونة.
الثالث: علماء الدينار والدرهم: وهم الأشخاص الذين باعوا دينهم من أجل الدراهم والدنانير، وهم من عناهم رسول الله بقوله: «فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود» [27] ، وهؤلاء سيحشرون في زمرة الجائرين، حين يكونون أعواناً لهم، حيث روي عن الرسول أنه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من السماء من قبل الله عز وجل: أين الظلمة؟ أين أعوان الظلمة، أين من برى لهم قلماً؟ أين من لاق لهم دواة؟ أين من جلس معهم ساعة؟ فيؤتى بهم جميعاً، فيؤمر بهم أن يضرب عليهم بسور من نار، فهم فيه حتى يفرغ الناس من الحساب، ثم يؤمر بهم إلى النار» [28] . وهؤلاء لهم دور كبير في تفتيت المسلمين، من خلال ما يبثونه من أفكار متطرفة، غايتها عدم التقارب بين أبناء الإسلام، وقد يقومون بزج أناس للقيام بعمليات إرهابية، في صفوف المسلمين الذين يختلفون معهم في الرأي، وقد يصدرون الفتاوى التي لا تخدم الإسلام في شيء، إلا زرع الفتن والمصائب في جسد الأمة الإسلامية، فضلاً عن تأثيرهم البالغ في تضليل الناس، من خلال بروزهم في الوسائل الإعلامية، ولهذا دعا النبي الأمة للحذر منهم، فقال: «العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا، فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا، فقد خانوا الرسل فاحذروهم» [29] .
الرابع: السذج والجهلاء من الناس: الذين يركضون خلف كل ناعق، وهم الذين وصفهم أمير المؤمنين بقوله: «وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق» [30] ، فهؤلاء للأسف سيكونون أدواة هشة تحركها جهتان، جهة تدعي العلم وهي بعيد عنه، وجهة تمتلك المال والقوة، إلا أن الجهة الأخيرة هي الجهة المؤثرة، وذلك لأنها هي المحركة للجهة الأولى، وحينئذ ستكون هذه الشريحة هي الجهة الخاسرة، والضحية الرئيسة للمؤامرات التي تحاك في الخفاء، وستكون أداة سهلة لضرب الأبرياء أو تعذيبهم، أو قتلهم، بل والقيام بعمليات التفجير في صفوف المسلمين، أو بعثهم لقتال جهة ما تكون أصولها إسلامية، وغير ذلك من أعمال مشبوهة! ولكي لا تقع هذه الشريحة ضحية السياسة والخداع، يجب أن تنتقل من مستنقع الجهل الواقعة فيه، إلى واحة العلم والمعرفة، وهذا ما أكدت عليه نصوص الإسلام.
متى تزداد الفتن في الأمة الإسلامية؟
ويبدو أن لهيب الفتن ستكون في أوجها حال ظهور السفياني، حيث في زمانه تصل درجة الخسة في بعضهم أن يسلم جاره إلى من يقتله مقابل حفنة من المال! يقول الإمام الصادق : «كأني بالسفياني أو بصاحب السفياني قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادى مناديه: من جاء برأس شيعة علي فله ألف درهم. فيثب الجار على جاره، ويقول: هذا منهم، فيضرب عنقه ويأخذ ألف درهم!» [31] ، بل وأسوأ من ذلك أن لا يوقر الصغير من هو أكبر منه، ولا يرحم الكبير من هو أصغر منه، يقول النبي لابنته الزهراء، وهو يتحدث عن المهدي : «إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن، وتقطعت السبل، وأغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيراً، ولا صغير يوقر كبيراً، فيبعثه الله عز وجل عند ذلك منهما ـ من الحسنين عليهما السلام ـ من يفتح حصون الضلالة، وقلوباً غلفاً يقوم بالدين آخر الزمان، كما قمت به في أول الزمان، ويملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً» [32] .
من منقذ الناس من لهيب هذه الفتن؟
يذكر في كتب المسلمين أن الفتن ستستمر، حتى ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، وأن هذه الفتن لن تنقضي إلا بسيفه، يقول مؤلف كتاب الفتن: «حدثنا محمد بن عبد الله عن عبد السلام بن مسلمة عن أبي قبيل، قال: لا يزال الناس بخير في رخاء، ما لم ينقضي ملك بني العباس، فإذا انتقض ملكهم، لم يزالوا في فتن حتى يقوم المهدي» [33] ، وجاء عن أمير المؤمنين ما يؤكد بأن الفتن ستنتهي على يد الإمام المهدي حيث قال: «قلت: يا رسول الله أمنا آل محمد المهدي أم من غيرنا؟ فقال رسول الله : لا بل منا. يختم الله به الدين كما فتح بنا، وبنا ينقذون من الفتن، كما أنقذوا من الشرك وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخواناً، كما ألف بينهم بعد عداوة الشرك إخواناً في دينهم» [34] ، وقال الرسول : «يا حذيفة: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي، تجري الملاحم على يديه ويظهر الإسلام، لا يخلف وعده وهو سريع الحساب» [35] .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا في منأى من لهب الفتن ومشاكلها، وأن يبصرنا ما يحول بيننا وبين الوقوع في مستنقع الفتن، إنه ولي التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
7 / 7 / 2012م – 1:22 م
[1] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 52 – ص 231
[2] ميزان الحكمة ـ الري شهري ـ ج 7 ص 395
[3] ميزان الحكمة ـ الري شهري ـ ج 7 ص 395
[4] الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 39 – 40
[5] الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 370
[6] وركبت السفينة – مروان خليفات – ص 69 – 71
[7] وركبت السفينة – مروان خليفات – ص 69 – 71
[8] التعددية والحرية في الإسلام ـ الشيخ حسن الصفار ـ ص 203
[9] وركبت السفينة – مروان خليفات – ص 69 – 71
[10] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة – أسعد وحيد القاسم – ص 249
[11] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة – أسعد وحيد القاسم – ص 249
[12] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة – أسعد وحيد القاسم – ص 249
[13] وركبت السفينة – مروان خليفات – ص 69 – 71
[14] وركبت السفينة – مروان خليفات – ص 69 – 71
[15] وركبت السفينة – مروان خليفات – ص 69 – 71
[16] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة – أسعد وحيد القاسم – ص 249
[17] التعددية والحرية في الإسلام ـ الشيخ حسن الصفار ـ ص 200
[18] أزمة الوعي الديني ص 281
[19] أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة – أسعد وحيد القاسم – ص 249 بتصرف بسيط
[20] كتاب الغيبة – محمد بن إبراهيم النعماني – ص 211 – 218
[21] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 52 – ص 231
[22] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 52 – ص 222 – 224
[23] الملاحم والفتن – السيد ابن طاووس – ص 110
[24] عصر الظهور – الشيخ علي الكوراني العاملي – ص 113 – 114
[25] الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي ـ الإمام الشيرازي ـ ص 246
[26] الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي ـ الإمام الشيرازي ـ ص 247
[27] الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 308
[28] مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 13 – ص 124
[29] كنز العمال – المتقي الهندي – ج 10 – ص 183
[30] نهج البلاغة – خطب الإمام علي – ج 4 – ص 35 – 36
[31] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 52 – ص 215
[32] مجمع الزوائد – الهيثمي – ج 9 – ص 165
[33] كتاب الفتن – نعيم بن حماد المروزي – ص 123
[34] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 51 – ص 84
[35] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 51 – ص 83.