المقدمة لا غرو أن طي مرحلة الغيبة الصغرى والدخول إلى عصر الغيبة الكبرى مع ما صاحب ذلك من انقطاع النيابة الخاصة بوفاة السفير الرابع للإمام المهدي عليه السلام يحمل من الدلائل الواضحة على انقضاء أمد السفارة ما ينبغي أن يقطع السبيل ويوصد الأبواب بوجه كل مدّعٍ لها، ومع ذلك فإن تمرير الدعاوى الضالة تحت عنوان (النيابة أو السفارة) قد تكرر في مناسبات عديدة على طول فترة الغيبة الكبرى، ومن هذا المنطلق صار من الواجب تقديم الأدلة والبراهين على انقطاع النيابة الخاصة:
وأهم هذه الأدلة:
الدليل الأوّل:
إن انقطاع النيابة بات من الأمور الواضحة عند علماء الإمامية وعامة شيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام، بل أصبحت بديهية وضرورية عندهم، بل حتّى لدى أهل السُنّة، فإنّ فِرَق أهل السُنّة _ في نظرتهم إلى أتباع مدرسة أهل البيت _ بات واضحاً لديهم علماءَ وعواماً أن من معتقدات وضروريات مذهب أهل البيت عليهم السلام هو انقطاع النيابة الخاصة والسفارة، بمعنى انقطاع الاتصال بالإمام، ومن ثَمَّ بناءً على ذلك بدأوا بسلسلة من الشبهات والاعتراضات والإشكالات على أصل عقيدة الإمامة _ وهذه الإشكالات والاعتراضات قد أجيب عنها تفصيلاً في محلها وسنتعرض لاحقاً لجملة منها إن شاء الله _.
فإنّ الأمر عندهم بلغ مرتبة من الوضوح والبداهة والضرورة بحيث أن نفس العامة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم نسبوا لأتباع أهل البيت عليهم السلام مسألة انقطاع النيابة وأنها لديهم كمسألة عقيدة الغيبة للإمام عليه السلام في الوضوح والبداهة، فكما أن عقيدة غيبة الإمام ضرورية كذلك انقطاع النيابة الخاصة، وبالتالي فإنّ تفسير عقيدة الغيبة الكبرى بانقطاع النيابة الخاصة والسفارة أمران مقرونان إلى بعضهما البعض، ومن ثَمَّ جعلوا هذا الاعتقاد عند الإمامية أمراً مفروغاً عنه بل بديهياً ضرورياً وراحوا يعترضون ويشكلون عليهم على أساسه.
بل إن أبرز إشكالاتهم حول ذلك أن الإمام المهدي عليه السلام إذا كان غائباً وليس له نوابٌ خاصون ولا سفراء فهو بالتالي منقطع عن المسلمين أي لا اتصال بينه وبين أتباعه وشيعته ومن يأتم به، وهذا الإشكال مذكور في أغلب كتب العامة الكلامية حيث يشكلون به على أصل الإمامة, فكيف يكون إماماً ولا اتصال له بقاعدته وكيف يدبر أمور الأمّة؟ فأيّ كتاب كلامي من كتب العامة عندما يبحث عن الإمامة ويناقش فيها أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وعقيدتهم في الإمامة فإنّ أوّل نقاش يطرحه هو هذا الإشكال المبتني على انقطاع السفارة والنيابة عند الإمامية فيفهم من خلال ذلك أنَّ انقطاع السفارة عند الإمامية عقيدة وضرورة كعقيدة أصل الإمامة وكعقيدة الرجعة و… وإلاّ لم يوردوا إشكالهم لو لم يكن انقطاع السفارة من أوّليات وبديهيات وضروريات مذهب أتباع أهل البيت عليهم السلام.
الدليل الثاني:
التوقيع المبارك المروي بتوسط النائب الرابع علي بن محمّد السمري رحمه الله حيث ذكر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة في (ص 365) عند ذكره أبي الحسن علي بن محمّد السمري فقال (تحت الرقم 365) وأخبرنا جماعة عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه قال: حدّثني أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتب, قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه, فقيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه وقضى.
فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه(1).
حيث أنه خطاب للنائب الرابع أن يجمع أمره ويبلغ أتباع أهل البيت عليهم السلام أنه ميت بعد الستة أيام _ وهذا في نفسه إعجاز بأن يحدد الإمام موت السمري بالتاريخ الصحيح _ وأن لا يوصي إلى أحد من بعده وأن الغيبة الكبرى أو الغيبة التامة قد وقعت وأن مدعي المشاهدة هو مفتر كذّاب.
والمقصود بالمشاهدة بقرينة وقوعها في سياق وفاة النائب الرابع والأمر له بعدم الوصية لأحد هو إبراز المشاهد لإفهام الناس بأنه على اتصال وارتباط بالإمام عليه السلام وأن له مقام الوساطة معه.
ولا يشترط أن تكون المشاهدة المنهي عنها مزعومة ومعنونة بالسفارة أو النيابة، وكذلك لا مانع من أصل المشاهدة من دون إبراز دعوى الاتصال والارتباط أي دعوى منصب ومقام, كما سيأتي تحت عنوان (التشرف برؤية الإمام المهدي عليه السلام لا يعني الحجية).
فمضمون التوقيع أن الإمام عليه السلام ينفي دعوى السفارة والنيابة والارتباط والوساطة بعد السمري رحمه الله فإنّ هذا المنصب والمقام بابه مسدود حتّى ظهور الإمام عليه السلام وإتمام البيعة له, وإن كان الإمام المهدي عليه السلام في التوقيع الشريف قد ذكر حدّاً وغايةً لوقت الصيحة, ولكن بحسب الروايات المستفيضة والمتواترة التي تبيّن شؤون الظهور ذكرت بأنّ انقطاع النيابة الخاصة يمتد حتّى بيعة الإمام عليه السلام بين الركن والمقام وأوّل من يبايع هو جبرائيل عليه السلام، فإنّ هناك صيحة أخرى لجبرائيل بعد الظهور يوم البيعة، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ينادى باسم القائم عليه السلام فيؤتى وهو خلف المقام، فيقال له: قد نودي باسمك فما تنتظر؟ ثمّ يؤخذ بيده فيبايع). (قال) وقال لي زرارة: الحمد لله قد كنّا نسمع أن القائم عليه السلام يبايع مستكرها فلم نكن نعلم وجه استكراهه، فعلمنا أنه استكراه لا إثم فيه(2). ثمّ بعد جبرائيل يبايعه الثلاثمائة وثلاثة عشر من أنصاره.
فإنّ المستفاد من الروايات أن النيابة الخاصة والسفارة عن المهدي عليه السلام لا يشغلها أحد ولا تعطى لأحد حتّى تنعقد البيعة للإمام عليه السلام عند الكعبة وليس أمد ومنتهى ذلك مجرد الصيحة, أو للصيحة، ولكن المراد بها حينئذٍ التي تقع بعد الظهور, وهذا لأجل التوفيق بين الروايات، وحتّى الروايات الواردة في الخراساني أو الحسني أو اليماني أو شعيب بن صالح أو النفس الزكية أو… فإنّها لا تعطيهم أيّ تمثيل رسمي أو نيابة أو أيّ صفة أخرى وتنفي ذلك عنهم بل تنفي أيّ صفة وتمثيل رسمي حتّى عن الثلاثمائة والثلاثة عشر حتّى تعقد وتتم البيعة للإمام عليه السلام ويتشكل الجهاز الرسمي والحكومي للإمام عليه السلام, بشكل معلن فمن ثَمَّ تبدأ الأدوار أي بعد البيعة.
ضابطة صارمة علامة لعصر الظهور:
فإن الروايات الواردة جعلت الصيحة أكبر علامة حتمية لسنة الظهور ولنجوم أصحاب رايات سنة الظهور، فلا يمكن مجيء السفياني بدون الصيحة لأنّها من المحتوم وإن كان يمكن أن تقع الصيحة بدون السفياني كما لا يمكن أن يجيء اليماني بدون السفياني وإن كان يمكن مجيء السفياني بدون اليماني والخراساني، فأشدّ العلامات حتميةً هي الصيحة، ثمّ السفياني، وهذه العلامة كاشفة عن دجل أدعياء هذه الأسماء مع عدم وقوعها.
أما السند للتوقيع المبارك فإنّه بات مُسلّماً لدى الإمامية، والراوي الأخير الحسن بن أحمد المكتب فهو قمي من مشايخ الصدوق، وقد ذكر في ترجمته أنه من فقهاء قم الكبار بغض النظر عن ترحم الصدوق عليه(3) مع أن الصدوق الذي هو من أكابر زعماء الطائفة لا يتخطّى ديدن علماء الإمامية من عدم الاعتماد على رواية التوقيع عن النواب الأربعة إلاّ بواسطة الوكلاء والأبواب الذين ذكرهم الشيخ الطوسي في الغيبة أنهم أبواب ووكلاء للنواب الأربعة، وهذا التشدّد من علماء الإمامية في توقيعات الناحية نظراً لخطورتها وحساسية الوضعية الأمنية بخلاف الحال في الأئمّة عليهم السلام آبائه.
الدليل الثالث:
إن أصل معنى عدم الظهور, أي الغيبة الكبرى يتضمن عدم البروز وعدم التمثيل الرسمي عن الإمام عليه السلام حتّى عقد البيعة, أما قبل البيعة فإنّ نفس عنوان الغيبة ينفي ذلك, ومعنى الظهور أن جهاز الإمام يظهر ويبرز بشكل رسمي بالنيابة أو الوكالة أو السفارة ونحو ذلك, فإذن الدليل الثالث هو أن مُدعي النيابة الخاصة أو السفارة ينافي ضرورة عنوان الظهور فإنّ ظهور دولته وجهازها الرسمي ليس إلاّ بعد عقد البيعة.
الدليل الرابع:
إن أدلّة الظهور والروايات التي ترسم لنا سنين الظهور وأيام الظهور كلها مفادها وبيانها أنه لا صفة رسمية ولا تمثيل رسمي ولا تنويب ولا توكيل من الإمام عليه السلام لأيّ من الأسماء اللامعة التي ستظهر وتقود التيارات في الظهور فليس هناك أيّ تمثيل رسمي لشخصيات الظهور فضلاً عن غيرها حتّى تعقد البيعة.
الدليل الخامس:
إن مقتضى وقوع غيبتين له عليه السلام أحدهما صغرى والأخرى كبرى أن بين الغيبتين فرق وأن الكبرى أشدّ في الخفاء والانقطاع عنه ولا يتم الفرق وأشدّية الخفاء إلاّ بانقطاع النواب والسفراء.
ويشير لهذا الدليل النعماني في الغيبة والصدوق والطوسي والكليني رحمه الله ويذكرها أيضاً جميع محدّثي ورؤساء علماء الإمامية حيث يذكرون روايات متواترة مروية من زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أمير المؤمنين عليه السلام وكلها بأسانيد متصلة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أمير المؤمنين عليه السلام وإلى الزهراء ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ زين العابدين ثمّ الباقر ثمّ الصادق ثمّ الكاظم… وهكذا بمعنى أن طرق الرواة إلى الصادق مثلاً دون أن يقع فيها موسى بن جعفر عليه السلام أو إلى السجاد دون أن يقع فيها الباقر والصادق عليهما السلام وهكذا… وحتّى عن نفس الإمام المهدي عليه السلام في زمن الغيبة الصغرى يعني مروية عن أربعة عشر معصوماً بطرق متعددة بل عشرات الطرق فهو تواتر بلا شكّ.
حاصل هذا التواتر أن للإمام المهدي عليه السلام غيبتين غيبة صغرى وغيبة كبرى, وأن التفريق أو الفارق بينهما أن الغيبة الصغرى يكون الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام عليه السلام من خلال السفراء والنواب الخاصين وأن الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاماً, أي الانقطاع تاماً وقد أشير لذلك في التوقيع الشريف حيث قال: (فقد وقعت الغيبة التامة) كما أن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة في حين انتهاء الغيبة الكبرى يكون بالبيعة للإمام عليه السلام وظهوره وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته.
الدليل السادس:
إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة حتّى أنهم أجمعوا على كفر وضلال مدعي السفارة والنيابة.
إذاً الأدلّة متوافرة ومتكاثرة وقد أشرنا إلى العديد من ألوانها وأنواعها في الجزء الأوّل من كتاب (دعوى السفارة) وكتاب (فقه علائم الظهور) وفي كتب أخرى, وهناك أدلّة أخرى لا نريد أن نستوعبها كلها هنا لضيق المقام, فيمكن مراجعة الكثير من المصادر في ذلك ككتب الحديث والروايات كالغيبة للطوسي أو النعماني وكتاب الفرق للنوبختي وكتب سعد بن عبد الله الأشعري وغيرها, فإنّ دلالات كثير من الروايات المتواترة على انقطاع النيابة الخاصة والسفارة في الغيبة الكبرى بل كما ذكرنا بان انقطاع النيابة عند الإمامية ليس فقط ضرورة فقهية وإنما ضرورة عقائدية, وذلك لأهمية وخطورة مقام حجية النيابة الخاصة والسفارة حيث ينطوي على منبع ومصدر للتشريع وللولاية, فادعاء هكذا منصب مرتبط بأصل الاعتقاد بالإمام المعصوم.
الهوامش:
(1) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 395.
(2) بحار الأنوار 52: 294/ ح 43.
(3) وذلك من أمارات الصحة والوثاقة، راجع: معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 5: 272/ رقم 2726.