لمّا صُدَّ النبيُّ الأكرم – صلوات الله عليه وآله – عن حجّ البيت الحرام في ذات عام وقد قصدهُ من المدينة المنوّرة، وعده ربُّه تعالى فتحا قريبا.
وبمثله صُرِفَ الحسين عن الحجّ – إذ الحجّ عرفة – وقد قَدِمَ أمَّ القرى من المدينة المنوّرة. فلمّا أن عزم الحسين عليه السّلام على الخروج لم يحدّث بني هاشمَ في رسالته إليهم عن شيءٍ غير “الشّهادة” و”الفتح”، فكانت كلّ رسالته الشريفة هكذا: “بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم استُشهِد، وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام “1.
أنذر النبيّ قرابته يوم الدّار بأمر الله ولم ينذر إذّاك غيرهم، وبمثله كانت رسالة الحسين إلى بني هاشم دون غيرهم ولعلّ في ذلك شيءٌ من قول النبيّ الأكرم: “حسين منّي وأنا من حسين … “.
ثمّ التفِتْ – مأجورا – إلى لطيف عبارة الحسين عليه السّلام (من لحق بي…) فإنّها غير القول (من خرج معي)، إذ أنّ باب اللحوق – كما قد علمْتَ – مفتوح لا يؤصد إلى يوم القيامة، وهو غير الخروج المادّي الآنيّ.
ومِثلُه قوله عليه السّلام (ومن تخلّف عنّي…) فإنّه أعمّ وأوسع من قول (ومن لم يخرج معي…) ذلك أنّ التخلّف عن معسكر الحقّ ليس لازمه أن تكون في زمانه دون غيره، فإنّنا اليوم في زمان غير زمان النبيّ الأكرم ولقد ترى أنّه يلحق به – صلوات الله عليه وآله – أقوامٌ ويتخلّف عنه آخرون.
ثمّ إنّ اللحاق بالحسين عليه السّلام يلزمه مداومة الثبات على البصيرة حتّى بلوغ “الفتح”. إذ لا يبعد معاودة ترك الرّكب الحسيني بعد الإنضمام إليه إن لغفلة أو لسلب توفيق، نعوذ بالله من ذلك. فقد كان ذلك حال كثير ممّن صحبوه – عليه السّلام – أشواطا من رحلته ثمّ تركوه قبل بلوغ أرض طفّ الفرات لمّا قد وافاهم خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر بمحلّ يسمّى “زبالة”، لمّا أن استيقن القوم أنّ الحسين مقتول لا محالة مع أصحابه.
وقد تتعدّد أسباب التّخلّف عن الفتح فتدور بين الإعراض من قوم قد أُشربت قلوبهم بغض آل بيت النّبوّة – وليس هؤلاء القوم محلّ حديثنا هاهنا – وبين سوء التدبير من البعض أو اختيار الدّنيا من آخرين.
فأمّا الذي كان قد أساء التدبير وترتيب الأولويّات فالطّرمّاح بن عديّ الطّائي الذي فوّت شرف الشهادة بين يدي إمامه لمّا أن انصرف عنه ساعةً من نهار يتعهّد عياله حتّى إذا رجع وجد الحسين شهيدا، فذلك الذي غفل قليلا ما عن إمامه ففاتته الشّهادة بين يديه عليه السلام. وذلك الذي لم يلتفت إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام “إغتنموا فُرص الخير فإنّها تمر مرّ السّحاب”.
وأمّا الذين اختاروا الدّنيا فكثير، ولقد اختاروها على الشّهادة بين يدي الإمام عليه السلام عن تقصّدٍ وإصرار ووضوح هدف دنيويّ عندهم. ومنهم عمرو المشرقي وابن عمّ له قد كانا التقيا الحسين في محلّة “قصر بني مقاتل”، فلمّا أن سألهما عليه السلام “أجئتما لنصرتي” قالا:” لا، إنّا كثيرو العيال، وفي أيدينا بضائع للنّاس، ولم ندر ماذا يكون، ونكره أن نضيّع الأمانة.” فهذان من الذين قد أعرضوا عن بلوغ الفتح وقد كان قاب قوسين منهم أو أدنى. ولقد أرادوا أن يلبسوا إعراضهم بمسوّغات ظاهرها شرعيٌّ من قول أداء الأمانة وخوف تضييعها، إلّا أنّ الحقّ أنّه حبّ دنيا لم يتخفّفوا منه.
فلعلّنا نتخفّف فنلحق، فإنّما يُنتظر بأوّلِنا آخرُنا.
* د. علي المحجوب
الهامش:
1. بحار الانوار- العلامة المجلسي ج 42- ص81، وفي كامل الزيارات، ابن قولويه: 75، بـاب 24، حـديث 15، وفي اللهوف في قتلى الطفوف – السيد ابن طاووس – الصفحة 25
المصدر: شفقنا العربي