تحولات مفصلية عديدة تطرأ على الهيمنة الأمريكية على العالم، فمنذ بداية استلام بايدن للحكم، لفت المحللون إلى أن أولويات ترامب مختلفة عن أولويات بايدن، فالأخير سيكون تركيزه على مواجهة تمدد العملاق الصيني اقتصادياً وعسكرياً في العالم أجمع، بدل التركيز على حروب صغيرة في منطقة الشرق الأوسط، ما يشير إلى أن الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط قد يشهد انخفاضاً في المرحلة المقبلة.
وبدأت نتائج سياسة بايدن تظهر على أرض الواقع بإعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن انسحابها من أفغانستان والعراق، ففي 14 نيسان الجاري أعلن الرئيس الأمريكي عن انسحاب أمريكي من أفغانستان ودون قيد أو شرط، أي دون أن تحقق أي من أهدافها بعد عقدين من وجود القوات الأمريكية فيها، وفي 7 نيسان الجاري أعلنت أيضاً أنها ستسحب ما تبقى من قوات أمريكية موجودة في العراق وذلك بعد عام من قرار البرلمان العراقي الذي أجمع على عدم شرعية الوجود الأمريكي في العراق، وعن خلفيات هذا القرار الذي كان مفاجئاً للعديد من الأطراف الأمريكية وغير الأمريكية.
علق الدكتور أسامة دنورة في حديث لـ”أثر برس” قائلاً: “قرار مثل هذا لا يُبنى على المعطى الأمريكي الداخلي ولا على التقديرات الأمريكية الذاتية، بقدر ما يبنى على وجود معادلات جديدة على الأرض تتيح زيادة الضغط على القوى العسكرية الأمريكية الموجودة على صعيد هذه الدول وبالتالي زيادة الكلفة السياسية والعسكرية والمادية وكلفة الدم التي يدفعها الأمريكان نتيجة هذا التواجد الاحتلالي على أراضي الدول التي ترفض الأمريكان شعوبها بشكل واضح وجلي”.
وأمام هذه المعطيات، فإن صانع القرار الأمريكي سيتجه إلى التخلص من المعارك الصغيرة التي لا أمل من ربحها، وعلى الرغم من أنها صغيرة إلّا أنها تظهر بطبيعتها وبطريقة خوضها حدود قدرة القوة العظمى على الانتصار حتى في معارك قد تبدو سهلة بالقياس إلى حجم هذه القوى ولكن عملياً ظروف المواجهات وجود حرب لا متناظرة ووجود كلفة عالية لإنجاز تحول على القياس الأمريكي في هذه الدول، كلها تجعل استمرار هذه المواجهات غير مجدي ولربما سوف تكون في الأولويات الأمريكية رغبة في التركيز على المواجهات الكبرى في العالم والانسحاب من الساحات المستنزفة الصغيرة.
ماذا عن سوريا بعد الانسحاب من العراق؟
من المعروف أن العراق هو الركيزة الأساسية للوجود الأمريكي في سوريا، فمن خلال المعابر غير الشرعية بين العراق وسوريا تصل التعزيزات العسكرية واللوجستية إلى القواعد الأمريكية شمالي شرق سوريا، وحول هذا التفصيل أكد د. دنورة لـ”أثر”: أن الانسحاب الأمريكي من العراق يُفقد القوات الأمريكية المتواجدة في سوريا عمقها الاستراتيجي، حيث قال: “عندما ينسحب الأمريكان من العراق فهذا يعني أن وجودهم في سوريا أصبح مهدداً وهشاً وضعيفاً جداً لأنه لا توجد دولة أخرى تشجع الحالة التي يرعاها الأمريكان في مناطق شمالي شرق سوريا ولا يوجد أي قاعدة يمكن أن تمد القوى العسكرية الأمريكية على الساحة السورية بالمتطلبات اللوجستية وغيرها، فلا الأتراك هم في وارد السماح للأمريكان بتدعيم قواعدهم في مناطق الشمال الشرقي في المناطق التي توجد فيها قسد، والإيرانيون يعتبرون الوجود الأمريكي في سوريا خطيراً وبالتالي كل هذه الأمور تجعل غياب الوجود الأمريكي على الأراضي العراقية فاتحة أو بداية مؤكدة أو معطى سوف يؤدي في اللاحق إلى الانسحاب من الأراضي السورية، والاحتمال الوحيد هو زيادة التورط العسكري الأمريكي على الأراضي السورية بشكل مباشر وهذا الأمر يتبعه العديد من الصعوبات الأمريكية الداخلية وعلى مستوى الشرعية الدولية وعلى مستوى الجدوى من إعادة التورط في الساحة السورية ولذلك الأمور بتقديري تسير نحو الرغبة الأمريكية في الانسحاب تدريجياً من العراق ومن ثم سوريا”.
كلام منافي
ما ورد أعلاه يتعارض مع بعض التصريحات الأمريكية التي تؤكد على ضرورة الحفاظ على الوجود الأمريكي في سوريا، لغايات مرتبطة بأهداف أمريكية و”إسرائيلية”، إلّا أن هذه التصريحات تعتمد على تقديرات ذاتية وجزئية لبعض المحللين والمسؤولين الأمريكيين، وفي هذا السياق يقول دنورة: “هناك صراع ما بين رغبة أمريكية بفك الارتباط من هذه الحروب التي غرقت فيها سياسياً وعسكرياً من دون أن تحقق نجاح وما بين اتجاه آخر لا يريد فك هذا التورط الأمريكي بناءً على معطيات المصلحة الجيوبولوتيكية والهيمنة الأمريكية على العالم ويريد استمرار هذا التواجد على الأقل عدم إنهاءه قبل مقايضته أو الخروج بنتائج سياسية مقابل الانسحابات من المناطق التي تورطوا فيها”، مشيراً إلى أن كل من الإدارات الأخيرة “أوباما وترامب والآن إدارة بايدن” تُجمع أن التهديد الصيني للزعامة الأمريكية في العالم هو التهديد الأول” إلى جانب وجود عجز في القيادة الأمريكية على الإيفاء بما تتطلبه دواعي التنافس الاستراتيجي في الجبهات المفتوحة على مستوى العالم ما يعني أنهم بحاجة إلى تنشيط المواجهة مع الطرف الروسي الذي يهدد بالتوغل اقتصادياً في أوروبا وهم بحاجة إلى تنشيط احتواء الصين التي تصعد كعملاق منافس للولايات المتحدة على صدارة العالم.
من الواضح أن السياسة الأمريكية أمام معطيات جديدة تفرض عليها شكل وإجراءات جديدة، وقد تبدو هذه الإجراءات أنها لا تنسجم إلى حد كبير مع تطلعات ومصالح بعض حلفاء أمريكا فبعضهم قد يلجأ إلى البحث عن حلفاء جدد.
* زهراء سرحان/ أثر برس
المصدر: قناة العالم