تحتفل إثيوبيا، اليوم، بالذكرى العاشرة للبدء في تدشين «النهضة»، السدّ الذي نجحت في فرضه بسياسة الأمر الواقع مُستغِلّةً أموراً في مقدّمتها الانعزال المصري عن أفريقيا منذ محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا عام 1996، و«ثورة يناير» التي خلقت اضطراباً سياسياً لأربع سنوات كاملة، كان السدّ فيها قد صار أمراً واقعاً، قبل أن تنتهي أيّام العسل الإثيوبية ــــ السودانية التي تسبّبت في ممارسة أقصى ضغوط على مصر، المتضرّر الأكبر من السدّ.
بعد سنوات على الشروع في إنشاء «سدّ النهضة» الإثيوبي، بدأت الأضرار المحتمَلة للسدّ على السودان، بالظهور. وبالتزامن مع إطاحة نظام عمر البشير، كانت الدراسات العلمية تؤكّد وجود مشكلة حقيقية بالنسبة إلى السودان، ولا سيّما مع قِصَر العمْر النسبي المتوقَّع للسدّ بسبب ظروف التربة، وزيادة كمّية الطمي المُتوقَّع تخزينها، وقربه الشديد من الحدود السودانية. كلّها تفاصيل لم تكن مكتملةً صورتها أمام السلطة الانتقالية التي غَيّرت وُجهة تحالفها من أديس أبابا إلى القاهرة. وعلى رغم أن فكرة «النهضة» كانت وليدة المنافسة السوفياتية ــــ الأميركية في القارّة السمراء خلال الستينيات، فإن المشروع لم يبصر النور إلّا بعد أكثر من أربعة عقود شهدت فيها البلدان المعنيّة تغيُّرات جذرية ليس على المستوى السياسي فقط، بل الاجتماعي والسكّاني والعسكري، الذي بات التلويح باللجوء إليه خياراً قائماً، عَزّزته مصر والسودان بتكرار التدريبات المشتركة خلال أسابيع قليلة.
السبب المُعلَن من قِبَل إثيوبيا، وهو توليد الكهرباء، لا يتناسب مع كمّيات المياه التي ترغب في تخزينها في بحيرة السدّ. فنحو ستة آلاف ميغاوات يمكن توليدها من كمّيات أقلّ وفق الخبراء في مصر والسودان، فيما تضغط الأولى على الثانية بدراسات علمية تقول إن عمر السدّ يتراوح بين 25 و50 عاماً كحدّ أقصى، لأسباب عدة بينها موقعه وطبيعة الصخور وكميات الطمي التي ستُخزَّن وسيكون تأثيرها كبيراً في الأراضي الزراعية السودانية. كما تثير القاهرة مخاوف الخرطوم من سرعة العمل، لأن كمّية المياه التي سيجري تخزينها في الملء الثاني قد تُغرِق العاصمة السودانية في حال قرّرت أديس أبابا لسبب ما فتح البحيرة باتجاه الشمال، أو حدوث خلل في جسم السدّ. والمياه المخزّنة على مدار عامين ستكون كفيلة بإغراق آلاف الأفدنة في السودان، مع تسبُّبها أيضاً بمشكلات لمصر ربّما تمتلك الأخيرة قدرة نظرية حالياً على التعامُل معها.
لكن مع اكتمال ملء السدّ، سيكون التهديد كبيراً للقاهرة والخرطوم معاً، وخاصة أن سعة بحيرة السدّ التي تُقدَّر بـ 74 مليار متر مكعّب تفوق الحصّة التي تصل إلى مصر سنوياً، ما يعني أن انهياره لن يُغرق السودان ويدمّره فقط، بل سينال من مدن مصرية بالكامل، ولا سيما في الجنوب، في ظلّ العجز عن استيعاب الكمّية الكبيرة من المياه المتدفقة. كذلك، تغيب أيّ دراسات علمية جازمة في شأن سلامة «النهضة» الإنشائية، وهي الدراسات التي كان يُفترض إجراؤها ما بين 2011 و2015، لكنها لم تُستكمل بسبب غياب الإرادة السياسية الإثيوبية، مع استمرار الأعمال الإنشائية في السدّ بأيّ طريقة. فعلى رغم الانتقاد المصري ــــ السوداني، تسرّع إثيوبيا الخطى في تجهيز بحيرة السدّ للملء الثاني ليكون أمراً واقعاً، وهكذا لن تَعبُر المياه إلى السودان ومصر إلّا بعد اكتمال الملء الثاني على غرار العام الماضي، بعدما خُزّنت نحو خمسة مليارات متر مكعّب من المياه في البحيرة، عَوّضتها مصر من انهيار «سد الرصيرص» السوداني، وزيادة كمّية المياه المتدفّقة، إلى جانب زيادة معدّلات الأمطار عن الأرقام الطبيعية.
تُخوِّف القاهرة الخرطوم من سيناريوات كارثيّة ضررها أكبر على الأخيرة
أمّا مفاوضات السنوات العشر، فبدأت بأحاديث ودّية عبر وفود شعبية مصرية سافرت إلى إثيوبيا للقاء المسؤولين الذين قَدّموا تعهُّدات بألّا يتّخذوا قرارات حاسمة إلّا بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في مصر، ثم مرّت بمراحل عدّة وصلت إلى دعوات لقلب نظام الحكم في إثيوبيا من قِبَل سياسيين مصريين بَثّها التلفزيون الرسمي على الهواء خلال حكم «الإخوان المسلمون»، وصولاً إلى الآليات السداسية التي ضمّت وزراء الريّ مع الخارجية، وليس أخيراً الآلية التساعية بانضمام مديري المخابرات، لكنها اجتماعات لم تُسفر سوى عن وثيقة وَقّعتها مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم، تتضمّن الاتفاق على عدم المساس أو الإضرار بحقوق البلدان الثلاثة. وقد حاول الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، التوصُّل إلى اتفاق على مدار عامين تقريباً مع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لكن الأخير الذي جعله السيسي يُقسِم بالعربية التي لا يجيدها في مؤتمر مشترك في القاهرة على عدم المساس بحصّة مصر في مياه النيل، هو نفسه الذي بات خصماً اليوم، ولا سيما مع إطلاق إثيوبيا اتهامات بدور لمصر في تقوية المعارضة الداخلية التي تُقلّل من قيمة السدّ مقابل أولويات أخرى على الحكومة التعامُل معها.
لكن رؤية السيسي في المسار التفاوضي وضبط النفس في التصريحات الإعلامية، لم تَمنعه من التلويح باستخدام القوة في خطاب قبل أيّام في قناة السويس، حيث حذّر من المساس بحصّة مصر في النيل. مع ذلك، جاء هذا التلويح المتزامن مع تدريبات عسكرية جوية بين مصر والسودان، بناءً على تقارير مسبقة بأن التفاوُض قاب قوسين أو أدنى من الاستئناف، وهي سياسة اتّبعها «الجنرال» مِن قَبل في الأزمة الليبية. ويبدو التلويح المصري باستخدام القوة للمرّة الأولى، وانعكاساته على المنطقة بإجبار الأطراف كافة على الدخول في الأزمة، رهاناً ناجحاً، وخاصة مع احتمالية اللجوء إلى مجلس الأمن لطلَب عقوبات على إثيوبيا، وهو السيناريو الذي ستلجأ إليه القاهرة لمواجهة الملء الثالث المقرَّر في صيف 2022، وخاصة أن الثاني سيمكن تحمُّل تبعاته من دون مشكلات جوهرية، وذلك باستخدام جزء من المياه الموجودة في بحيرة «السدّ العالي»، إضافة إلى التوسُّع في سياسة إعادة تدوير المياه التي تتّبعها الحكومة المصرية خلال آخر عامين.
في المحصّلة، ثمّة في جعبة المفاوِض المصري أوراقٌ جيدة من شأنها أن تضمن قوّته، ولا سيما في ما يتعلّق بموارد المياه وكيفية استغلالها لتلبية احتياجات أكثر من 100 مليون مواطن، فضلاً عن استخدام سلاح الهجرة غير الشرعية التي أوقفتها مصر منذ سنوات للضغط على الأطراف الأوروبية من أجل مساندة المطلب المصري. والحقيقة أن مصر لا تملك رفاهية إنكار أن «النهضة» صار أمراً واقعاً لا يمكن إلّا التعامل معه، والاستعداد لأسوأ الظروف الناتجة من وجوده. لذلك، جلّ ما تطلبه القاهرة اليوم مرتبط بتبادل المعلومات بين البلدان الثلاثة، وتحديد الكمّيات التي يجري تخزينها كلّ عام بما لا يضرّ بمصالح السودان ومصر، وبما يتناسب مع كمية الأمطار الموجودة في كلّ موسم، إلى جانب آلية لفضّ النزاعات تكون ثابتة وملزمة للجميع من دون استثناء، على أن يكون الاتفاق ملزماً ومخالفته ذات تبعات قانونية.
المصدر: الأخبار