نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا للصحفية هنا بيتش، قالت فيه إنه في السنوات التي خضعت فيها ميانمار لحكم العسكر، كان الناس يخبئون الصور السرية لأونغ سان سو تشي، كتعويذات بطلة الديمقراطية التي ستنقذ بلادها من جيش مخيف، رغم أنها كانت قيد الإقامة الجبرية.
ولكن بعد فوزها وحزبها في انتخابات تاريخية في عام 2015، ومرة أخرى في العام الماضي بأغلبية ساحقة -ما عزز شعبيتها داخل ميانمار- أصبح العالم الخارجي ينظر إلى أونغ سان سو تشي على أنها شيء مختلف تماما.
وقالت الصحيفة في التقرير الذي ترجمته “عربي21″، إن زعيمة ميانمار أبرمت “اتفاقية مع الشيطان”، مع الجنرالات، ولم تعد تستحق جائزة نوبل للسلام.
وفي النهاية، لم تستطع أونغ سان سو تشي، 75 عاما، حماية شعبها، ولم تتمكن من إرضاء الجنرالات.
ويوم الاثنين الماضي، استولى الجيش، الذي حكم البلاد لما يقارب الخمسة عقود، على السلطة مرة أخرى في انقلاب عسكري، ما أدى إلى تقصير حكم الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بعد خمس سنوات فقط.
واعتُقلت سان سو تشي في مداهمة قبل الفجر مع كبار وزرائها، وعدد كبير من الشخصيات المؤيدة للديمقراطية. واستمر اعتقال منتقدي الجيش حتى ليلة الاثنين، وتعرضت شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية في البلاد لانقطاعات مستمرة.
وفي جميع أنحاء البلاد، لا تزال اللوحات الإعلانية الحكومية تحمل صورتها وصورة الطاووس المقاتل لحزبها. لكن الجيش، بقيادة القائد العام للقوات المسلحة الجنرال مين أونغ هلاينغ، عاد إلى السلطة.
وأثبت اختفاء سان سو تشي، التي مثلت نموذجين مختلفين تماما لجمهورين مختلفين، محلي وأجنبي، عدم قدرتها على فعل ما توقعه الكثيرون مثل تشكيل توازن سياسي مع الجيش الذي تشاركت معه السلطة.
فمن خلال الدفاع عن الجنرالات في تطهيرهم العرقي ضد مسلمي الروهينغيا، فقدت ثقة المجتمع الدولي الذي دافع عنها لعقود.
وقال فيل روبرتسون، نائب مدير آسيا في “هيومن رايتس ووتش”: “رفضت سان سو تشي النقاد الدوليين بزعمها أنها ليست ناشطة في مجال حقوق الإنسان بل سياسية. لكن الأمر المحزن هو أنها لم تتقن أيا من الدورين”.
وقال: “لقد فشلت في اختبار أخلاقي عظيم بالتستر على فظائع الجيش ضد الروهينغيا. لكن الانفراج مع الجيش لم يتحقق، ونقض الانقلاب العسكري فوزها الساحق في الانتخابات”.
وكان تفكك الحقبة الديمقراطية مذهلا، حتى بالنسبة لبلد عانى ما يقرب من نصف قرن من الحكم العسكري المباشر، وانتشار شائعات عن انقلاب وشيك لعدة أيام.
وفي انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر، هزم حزبها، الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، حزب العسكر بالوكالة، حيث اختار العديد من الناخبين مرة أخرى حزب أونغ سان سو تشي كأفضل سلاح -بل الوحيد- لاحتواء الجنرالات.
واعتبر البعض استيعابها للجيش على مدى السنوات الخمس الماضية بمثابة مصارعة يابانية سياسية، وليس استرضاء للجيش.
واشتكى الجيش، الذي حافظ على سلطة كبيرة في “الديمقراطية المنضبطة” التي صممها، من تزوير جماعي للناخبين. وفي 28 كانون الثاني/ يناير، أرسل ممثلو الجنرال مين أونغ هلاينغ رسالة إلى سان سو تشي يأمرونها فيها بإعادة فرز الأصوات، وتأجيل افتتاح البرلمان، وإلا..
وترافق استيلاء الجيش على السلطة الكاملة يوم الاثنين مع إعلان حالة الطوارئ لمدة عام واحد، محطما أي أوهام بأن ميانمار قدمت للعالم نموذجا، مهما كان معيبا، للديمقراطية الصاعدة.
وقالت يو أونغ كياو، وهي معلمة متقاعدة تبلغ من العمر 73 عاما: “إنها الشخص الوحيد الذي يمكنه مواجهة الجيش.. كنا سنصوت جميعا لها إلى الأبد، لكن اليوم هو أتعس يوم في حياتي”.
وأقامت سان سو تشي علاقات وثيقة مع كبار الضباط العسكريين منذ البداية، وشكلت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية التي تنتمي إليها بالتحالف مع كبار الضباط العسكريين. وبعد الخروج من الإقامة الجبرية في عام 2010، كانت تتناول العشاء في كثير من الأحيان مع عضو سابق في المجلس العسكري كان هو نفسه قد حبسها.
وقال أنصارها إن الراحة في العلاقة كانت أكثر من رباطة جأش بوذية أو تكتيكات سياسية، بل صرحت ابنة مؤسس جيش ميانمار الحديث، سان سو تشي، علنا، بأنها تكن للجيش حبا كبيرا.
ومع تصعيد الجيش لهجومه عام 2017 على مسلمي الروهينغيا، بدت سان سو تشي وكأنها تتناغم في المشاعر مع الجنرالات إلى حد تجاوز المنفعة السياسية البحتة.
ويقول محققو الأمم المتحدة، إن المذابح وإحراق القرى، التي تسببت في فرار ثلاثة أرباع مليون من أفراد الأقلية المسلمة إلى بنغلادش المجاورة، نُفِّذت بنية الإبادة الجماعية. لكن في محكمة العدل الدولية في عام 2019، أونغ سان سو تشي، التي شغلت منصب وزيرة خارجية ميانمار ومستشارة الدولة، بررت العنف باعتباره “صراعا داخليا”، ربما استخدم فيه الجيش بعض القوة غير المتناسبة.
وبدت لهجتها تجاه الروهينغيا محتقرة تقريبا، وقد اتبعت قيادة الجيش في عدم ذكر اسمهم، خشية أن تضفي الإنسانية لهويتهم.
وقال ماثيو سميث، مؤسس منظمة “Fortify Rights”، وهي منظمة لرصد حقوق الإنسان: “سيميل البعض إلى الاعتقاد بأنها تملقت للجيش دون جدوى، وأنها دافعت عن مرتكبي الإبادة الجماعية من أجل صالح سياسي، ومع ذلك خسرت.. ولم تدافع أونغ سان سو تشي عن الجيش في المحكمة لتلبية توازن القوى. بل دافعت عن الجيش، بالإضافة إلى دورها في الفظائع. لقد كانت جزءا من المشكلة”.
وحتى عندما كانت سان سو تشي تبرئ الجيش من عقود من الاضطهاد، كانت علاقتها بالجنرال مين أونغ هلاينغ متوترة، وفقا لمستشاريها وضباط الجيش المتقاعدين.
وشعبيتها المتزايدة مع الأغلبية البوذية في ميانمار أصبح ينظر إليها بشكل متزايد على أنها تهديد من قبل الجنرالات، كما يقولون، ولم تتحدث إلى قائد الجيش منذ عام على الأقل.
وكان من المفترض أن يتخلى الجنرال مين أونغ هلاينغ، الذي استفادت عائلته ومساعدوه من عقد في السلطة، عن منصبه كقائد للجيش في عام 2016. ومدد فترة ولايته وتعهد بالتقاعد هذا الصيف.
وقال محللون سياسيون وعسكريون إنه مع قلة الاتصالات بين القائد العام وسان سو تشي، أصبح من الصعب عليه ضمان خروج يبقي فيه على شبكة المحسوبية الخاصة به. ومن خلال وكلائه، أعلن الجنرال مين أونغ هلاينغ أنه قد تكون لديه طموحات سياسية أيضا. حتى إن البعض طرح اسمه لمنصب الرئيس، وهو منصب يحظره الدستور على أونغ سان سو تشي.
ومع السلطة المطلقة بين يديه لمدة عام على الأقل، بعد الانقلاب يوم الاثنين، عاد قائد الجيش مرة أخرى إلى الواجهة، بغض النظر عن عدد الناخبين الذين اختاروا سان سو تشي. وبحلول مساء الاثنين، أعلن الجيش الخطوط العريضة لحكومة جديدة، مليئة بضباط عسكريين عاملين ومتقاعدين.
وقالت الصحيفة، إن العودة الوقحة للجيش هي تذكير بأنه على الرغم من جميع الانتهاكات التي ارتكبتها حفنة من الجنرالات في ميانمار خلال عقودهم في السلطة (القمع المنهجي للأقليات العرقية، ومذابح المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، وتفكيك اقتصاد كان واعدا) فقد تمت محاسبة ضابط عسكري واحد رفيع المستوى بشكل كامل في المحاكم.
وقالت باربرا وودوارد، السفيرة لدى الأمم المتحدة عن بريطانيا، التي تتولى رئاسة مجلس الأمن لشهر شباط/ فبراير، إن المجلس سيجتمع يوم الثلاثاء بشأن الأزمة في ميانمار.
وقالت: “سنرغب في إجراء مناقشة بناءة قدر الإمكان والنظر في مجموعة من الإجراءات”، مشيرة إلى أنها لا تستبعد العقوبات المحتملة ضد المحرضين على الانقلاب.
وقالت السفيرة للصحفيين: “نريد العودة نحو احترام الإرادة الديمقراطية للشعب”.
وفي واشنطن ، أشار بيان بايدن بوضوح إلى أن الحكومة الأمريكية ستنظر أيضا في إعادة فرض العقوبات إذا لم يتم التراجع عن الانقلاب، قائلا إن أمريكا “أزالت العقوبات المفروضة على بورما خلال العقد الماضي بناء على التقدم نحو الديمقراطية”.
لكن بعض المسؤولين، الذين فضلوا عدم نشر اسمهم لأنهم غير مصرح لهم بالتحدث إلى الصحافة، أشاروا إلى أنه حتى لو تمت إعادة فرض العقوبات الغربية، فإنه يمكن للصين أن تخفف من آثارها. حيث تقوم شركة هواوي الصينية العملاقة للاتصالات ببناء شبكات اتصالات 5G في ميانمار رغم الاعتراضات الأمريكية، وسيطرة الصين على بناء السدود وخطوط الأنابيب ومشاريع الطاقة.
ومع غروب يوم الاثنين على أمة لا تزال في حالة صدمة بسبب الانقلاب العسكري، ظهرت المخاوف القديمة وتكتيكات البقاء مرة أخرى دون تدريبات ولكنها لا تزال في الذاكرة العضلية. وأزال الأفراد أعلام الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية. وتحدثوا بالإشارات الرمزية دون صراحة.
ووسط جائحة فيروس كورونا، قدم وزير الصحة، الذي عينته الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، استقالته “بحسب تطور الوضع”. وبحلول المساء، بدأ الجيش في اعتقال نواب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية من مساكنهم في العاصمة نايبيداو. ويوم الثلاثاء، أكد مسؤولون في الحزب أن أونغ سان سو تشي كانت سجينة في فيلتها في نايبيداو.
وقال سميث من “Fortify Rights”: “نحن قلقون من أن الجيش سوف يتوسع بشكل تدريجي في اعتقالاته.. أخشى أننا نشهد المرحلة الأولى فقط الآن”.
وفي وقت متأخر من بعد ظهر يوم الاثنين، نشر يو كو كو غي، وهو ناشط ديمقراطي طلابي سابق قضى أكثر من 17 عاما في السجن، أنه استطاع إلى حد الآن تجنب الاعتقال الذي تعرض له زملاؤه السياسيون الكبار..
لكنه كتب أنه التقط صورة عائلية كإجراء احترازي. وودع أحبته ولم يعرف أطفاله ما كان يحدث.
وكتب السيد كو كو جي: “علي أن أفعل ما يجب أن أفعله.. فلنواجه الغد”.
المصدر: شفقنا العربي