في مثل هذا اليوم من عام 1987، اندلعت انتفاضة الحجارة في مدينة جباليا شمال قطاع غزة، وسرعان من انتشرت في كافة المدن الفلسطينية كـ”النار في الهشيم”، لتكتب محطة فارقة في إحياء القضية الفلسطينية والتذكير بالحق الفلسطيني على كافة المستويات.
وتعود شرارة بدء هذه الانتفاضة، لحادثة دهس عمال فلسطينيين من قبل سائق شاحنة إسرائيلية قرب حاجز بيت حانون المسمى “إيرز” الذي يسيطر عليه جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويفصل من خلاله القطاع عن باقي الأراضي المحتلة.
وتعد “الانتفاضة” التي اندلعت عام 1987 واستمرت حتى عام 1994، من أهم المراحل التي شهدتها القضية الفلسطينية في العصر الحديث.
ونجحت الانتفاضة في انتزاع اعتراف إسرائيل والدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بالشعب الفلسطيني، وتأسيس حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت مسمى “السلطة الوطنية الفلسطينية”.
سوء أوضاع فلسطين المحتلة منذ عام 1967م، التي كانت تسير من سيء إلى أسوأ لما تميز به الاحتلال الصهيوني على غيره من الاحتلالات الأخرى بادعاءات مسعورة كاذبة من أنه صاحب الأرض والتاريخ والمستقبل، وتميز بسيطرة تعسفية على كل الأصعدة من خلال قانون الطوارئ إلى المخططات الاستيطانية، ومحاولات التهويد، ونسف البيوت واعتقال الآلاف من المواطنين وفرض العقوبات الجماعية والسيطرة على مرافق الحياة، ومصادرة الأرض، ونهب الموارد المائية والحرب الاقتصادية وإقفال المؤسسات العلمية والنقابية والمهنية واعتماد البيروقراطية البطيئة بهدف الإذلال، وصولاً إلى ما هو أهم وأكثر مصيرية، وهو حرمان الشعب الفلسطيني من هويته الوطنية.
بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (The First Intifada) في الثامن من ديسمبر 1987م حينما كانت حافلات تقل العمال الفلسطينيين من أماكن عملهم “في الكيان الصهيوني” العائدة مساءً إلى قطاع غزة المحتل، على وشك القيام بوقفتها اليومية المقيتة أمام الحاجز الصهيوني للتفتيش حينما داهمتها شاحنة عسكرية صهيونية، مما أدى إلى استشهاد أربعة عمال وجرح سبعة آخرين (من سكان مخيم جباليا في القطاع) ولاذ سائق الشاحنة العسكرية الصهيونية بالفرار على مرآى من جنود الحاجز.
وعلى أثر ذلك اندلع بركان الغضب الشعبي صباح اليوم التالي الأربعاء 9/12/1987م من مخيم جباليا حيث يقطن أهالي الضحايا الأبرياء ليشمل قطاع غزة برمته وتتردد أصداءه بعنف أيضاً في الضفة الغربية المحتلة، وذلك لدى تشييع الشهداء الأربعة، وقد شاركت الطائرات المروحية قوات الاحتلال في قذف القنابل المسيلة للدموع والدخانية لتفريق المتظاهرين، وقد استشهد وأصيب في ذلك اليوم بعض المواطنين، وفرضت سلطات الاحتلال نظام منع التجول على بلدة ومخيم جباليا وبعض أحياء في قطاع غزة.
وفي يوم الخميس 10/12/1987م تجددت المظاهرات والاشتباكات مع قوات الاحتلال، حيث عمت مختلف مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة في أكبر تحد لسلطات الاحتلال وإجراءاتها التعسفية والقمعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
وجاء يوم الجمعة فعمت التظاهرات بعد الصلاة كل مدن القطاع والضفة والمخيمات، ووزعت منذ الصباح المنشورات والبيانات، وكان أول بيان ينزل إلى الميدان البيان الأول لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في 11-12-1987م وهو الذي أطلق على هذه الحركة الجماهيرية مصطلح “الانتفاضة”، “…لقد جاءت انتفاضة شعبنا المرابط في الأرض المحتلة رفضاً لكل الاحتلال وضغوطاته، ولتوقظ ضمائر اللاهثين وراء السّلام الهزيل، وراء المؤتمرات الدولية الفارغة” -من بيان حماس الأول.
لقد واجه أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة رصاص قوات الاحتلال بصدورهم العارية ، وأمطروا جنود الاحتلال الذين تمترسوا بسياراتهم المدرعة بالحجارة والزجاجات الفارغة وقنابل المولوتوف، مما أدى إلى استشهاد وإصابة العديد من المواطنين برصاص جيش الاحتلال.
وفي قطاع غزة تحول الصدام بين الجماهير وقوات الاحتلال إلى معركة حقيقية حيث كانت المدينة مغلقة تماماً، والطرق مسدودة بالمتاريس، وجميع المدارس والجامعات علقت الدراسة، والشوارع يملؤها الحطام، والدخان الأسود المنبعث من الإطارات المحترقة، ورفع المتظاهرون الأعلام الفلسطينية وصور الشهداء، وصور ياسر عرفات، وتعالت الهتافات المنددة بالاحتلال وقمعه وبطشه، وقد اعترف ناطق باسم جيش الاحتلال واصفاً ذلك اليوم المتأجج قائلاً : أن قنبلة مولوتوف ألقيت على عربة عسكرية وأن الأمور ساخنة جداً.
وجاء انعقاد مؤتمر القمة العربي الطارىء في عمان 8/11/1987، لبحث الحرب العراقية – الإيرانية وغياب القضية الفلسطينية لأول مرة عن جدول أعمال مؤتمرات القمة العربية، بمثابة العامل المساعد الآخر الذي دفع الفلسطينيين إلى التحرك من أجل إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وضرورة استمرار بقائها القضية المركزية في الوطن العربي.
مما دفع الشعب الفلسطيني إلى أن يقوم بانتفاضة بطولية، عمت جميع أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكان لها الأثر الكبير في إحياء القضية الفلسطينية، ومهدت الطريق أمام إشراك منظمة التحرير الفلسطينية في عملية السلام.
وتصاعدت الانتفاضة يوماً بعد يوم، حيث تصدى الشعب الفلسطيني بأكمله بجسده ودمه لكل آلة القمع والوحشية الصهيونية، ويومياً سطرت الجماهير الفلسطينية آيات من المواجهة البطولية للمحتلين، وسقط الآلاف من الشهداء والجرحى من أبناء فلسطين في أضخم انتفاضة جماهيرية عارمة شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنوات طويلة، بل شهدها العالم الحديث وأطولها، حيث انتهت في 1994م، وذلك بعد توقيع اتفاقية أوسلو.
تميزت الانتفاضة الأولى بلجوء الفلسطينيين إلى المواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال عبر إلقاء الحجارة وقطع الطرق أمام قوات الاحتلال بالإطارات المشتعلة، والاعتماد على شل الحياة العامة والعصيان المدني والإضرابات عن العمل، وهو الأمر الذي استفز الاحتلال مرارا ودفع جنوده لخلع أقفال المحلات، وإجبار أصحابها بالقوة على العمل.
مع اتساع نطاق الانتفاضة مكاناً وزماناً؛ شارك فيها كل القوى العاملة التي يضمها المجتمع الفلسطيني من فتح، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، وغيرها، ومن يؤيد هذه الحركات، ومن لا يؤيد أحداً منها!! فقد كانت ثورة عارمة شارك فيها كل فلسطيني بيده أو بلسانه… وتمثلت هذه الحركات في تيارين “حركة المقاومة الإسلامية” التي أصدرت بيانها الأول ووزعته في 11-12-1987، و”القيادة الوطنية الموحدة” التي صدر بيانها الأول في 1-4-1988م.
وإذا كانت هذه القوى كلها قد شاركت في أحداث الانتفاضة اللاحقة؛ فإن انطلاقها لم يكن من تخطيط فئة واحدة من هذه القوى، ولم يزعم أحد الأطراف أنه خطط لها قبل انطلاقها، فقد كان انطلاقها عفوياً، وكان أسرع من تجاوب معها وحرك جماهيرها هو التيار الإسلامي المتجذر في مدن فلسطين ومخيماتها وجامعاتها
ومن أبرز تداعيات هذه الانتفاضة على الساحة الفلسطينية تغييرها للخارطة الحزبية، حيث دفعت باتجاه ظهور أحزاب جديدة من جهة، مثل تأسيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وإعادة إحياء الأحزاب التي تأسست في أوقات سابقة، وأبرزها حركة “فتح”، ومن التيار الإسلامي حركة الجهاد الإسلامي، والتيارات اليسارية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية.وصدر أول بيان عن القوى الوطنية الفلسطينية في الثامن من كانون ثاني/ يناير 1988، دعا الشعب للمشاركة في فعاليات الانتفاضة والإضراب العام رفضا للاحتلال.
استمرت هذه الانتفاضة على هذا النحو المتصاعد لمدة 6 سنوات، قبل أن تنتهي بتوقيع اتفاقية “أوسلو” بين دولة الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1993.وبحسب بيانات رسمية، تقدّر حصيلة الضحايا الفلسطينيين الذين استشهدوا بفعل الاعتداءات الإسرائيلية خلال انتفاضة الحجارة، بحوالي 1162 فلسطينيا، بينهم حوالي 241 طفلا، فيما أصيب نحو 90 ألفا آخرين.
واعتقلت قوات الاحتلال ما يقرب من 60 ألف فلسطيني من القدس والضفة والقطاع والفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 بالإضافة للأسرى العرب. أما عن الاحتلال الإسرائيلي، بحسب بيانات سابقة صادرة عن مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة “بتسيلم”، فقد قتل نحو 160 شخصا.
كانت الانتفاضة بهذا الاتساع المكاني، والامتداد الزماني والشمول، والتنوع في الأساليب من الحجر والشعار على الجدران إلى التظاهر الصاخب العنيف، والقنابل الحارقة، والكمائن، والرصاص، والعمليات الاستشهادية مفاجأة مذهلة لإسرائيل وقادتها السياسيين والعسكريين الذين ظنوا أن سنوات القهر، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان قد حطم روح الجهاد في الشعب الفلسطيني.
يقول زئيف شيف في كتابه (انتفاضة): “إن الفلسطينيين فاجئوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدها.. عنف مدني شعبي ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك… فلم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها بغتة في الخارج ولسكانها على حد سواء!! وكانت المفاجأة في شمول الانتفاضة لجميع فئات السكان شباباً وشيباً، نساء وأولاداً ورجالاً قرويين، ومدنيين، متدينين، وعلمانيين… وهذه المفاجأة كانت أعنف من مفاجأتها بحرب يوم الغفران، فإسرائيل لم تستطع ملاحظة ما يجري داخل بيتها، وفي غرفة نومها”.
واستمرت الانتفاضة، وخيبت كل ظنون الخبراء الصهاينة والمحللين العرب وبعض القياديين الفلسطينيين بأنها قد تستمر ثلاثة أشهر ثم تتوقف ثم تعود بعد سنة أو سنتين للاندلاع من جديد!! خيبت ظنونهم، وكشفت خطأ تحليلاتهم وتوقعاتهم فاستمرت شهوراً وسنة وسنوات؛ حتى بلغت سبع سنين، تخف هنا لتشتد هناك، وتهدأ في مدينة لتلتهب في أخرى؛ حتى جن جنون قيادة الكيان الصهيوني، وتمنت لو أن البحر يبتلع غزة بمن فيها ليستريح إسحاق رابين من مصيبته فيها، ودفعته إلى أن يأمر جنوده بتكسير عظام أيدي رماة الحجارة، وكان للمشهد الذي التقطته أجهزة التصوير التلفزيوني الغربية لجنود صهاينة يكسرون أيدي بعض الشباب بالحجارة الكبيرة دوي هائل في سمع الرأي العام العالمي.
يمكن إجمال الظروف التي ساهمت في انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية بالأسباب التالية:
تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، خاصة بعد انعقاد مؤتمر القمة العربي في عمان، الذي لم يبحث في إزالة الاحتلال الإسرائيلي عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وشعور الفلسطينيين بأن عليهم أن يأخذوا المبادرة بأنفسهم، ويعملوا من أجل الضغط على (إسرائيل) لكي تنسحب من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
خروج مصر من ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، بعد توقيعها على اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع (إسرائيل)، وافتقاد الجماهير الفلسطينية الأمل بحل عربي يزيل الاحتلال الإسرائيلي عنهم، بسبب عدم إمكانية حدوث مواجهة عربية ضد (إسرائيل) من دون مشاركة مصر.
خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وابتعاد القيادة والثورة الفلسطينية عن فلسطين، مما أوجد الخشية لدى الفلسطينيين في الداخل، بأنهم أصبحوا بعيدين عن التأثير على صانع القرار الفلسطيني، وأنه لا بد من العمل من أجل إبقاء النضال في الداخل الأساس في تحرك قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج.
الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الداخل، واستمرار الاحتلال طيلة عشرين سنة، من دون وجود بوادر أمل على نهايته، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات، ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية واعتقال القيادات في الداخل، مما أوجد حالة من الإحساس الوطني بضرورة التصدي للاحتلال الإسرائيلي والعمل على إزالته.أحدثت الانتفاضة الفلسطينية هزة كبيرة داخل (إسرائيل)، وتأثيراً واسعاً على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية.فوجىء الإسرائيليون بالانتفاضة، مما أحدث ارتباكاً واضحاً داخل (إسرائيل)، خاصة في الأشهر الأولى لانطلاقها.
ووصف أحد المعتقلين الإسرائيليين الانتفاضة بالقول “إن الصدمة التي صدمت بها إسرائيل من الانتفاضة كانت أعنف من المفاجأة في حرب يوم الغفران”.والسبب في ذلك أن (إسرائيل) لم تعرف ما كان يخطط له في القاهرة ودمشق عشية حرب 1973، ولكنها في الانتفاضة عام 1987، لم تستطع أن تعرف ما كان يجري في داخل المناطق التي كانت تحتلها.
وانقسمت مواقف الأحزاب الإسرائيلية إلى تيارين: التيار الأول، تمثله الأحزاب الدينية وتكتل الليكود وقسم من حزب العمل*، ويطالب باستعمال السلاح والعنف والقتل ضد الفلسطينيين، ويرفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، ويرفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.والتيار الثاني، يمثله بعض الأحزاب اليسارية وحركات السلام الإسرائيلية، التي طالبت بالتفاوض مع الفلسطينيين وإيقاف استعمال العنف ضدهم.
ومن جهة ثانية، فقد أسهمت الانتفاضة في تغيير مواقف الرأي العام الإسرائيلي من الفلسطينيين، وأحدثت احترافات في صفوفهم: وتشكلت 51 حركة إسرائيلية تدعو إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيين والانسحاب من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.وقللت الانتفاضة من هجرة اليهود إلى (إسرائيل) وجعلتهم يفضلون الهجرة من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
كما حدثت هجرة يهودية معاكسة من الداخل إلى خارج (إسرائيل)، لأول مرة منذ قيام (إسرائيل) يتضاعف عدد المهاجرين إلى الخارج عن عدد اليهود القادمين وذلك في عام 1988، إذ بلغ عدد اليهود المغادرين 21 ألف يهودي، بينما وصل إلى فلسطين المحتلة في نفس العام 13 ألف يهودي.كما انخفض عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 من 70 ألف مستوطن إلى 20 ألف بسبب الهجمات المتكررة التي كان يقوم بها الفلسطينيين على سيارات المستوطنين.
وأثرت الانتفاضة على الاقتصاد الإسرائيلي الذي كان يستفيد من احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة، إذ بلغ مجمل ما كان قد حصل عليه الاقتصاد الإسرائيلي قبل الانتفاضة ما يعادل 27 ملياراً و42.109 مليون دولار، بسبب ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وإغراقه بالبضائع الإسرائيلية.وقاطع الفلسطينيون، خلال الانتفاضة، البضائع الاسرائيلية، وهبطت قيمة البضائع الإسرائيلية المشتراه من الفلسطينيين من 850 مليون دولار عام 1987 إلى 250 مليون دولار عام 1988. ورفض آلاف العمال الفلسطينيين العمل في المصانع والبناء داخل (إسرائيل). وخسر قطاع البناء الإسرائيلي خلال الأشهر الخمسة عشر الأولى 240 مليون دولار.
ويمكن إيجاد تأثير الانتفاضة على الاقتصاد الإسرائيلي بما يلي:
انخفاض حجم الاستثمارات في جميع القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية، بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
تقليص حجم الانتاج الذي يقدر بمليار دولار بسبب انفصال الأسواق الفلسطينية عن الاقتصاد الإسرائيلي.
الازدياد الكبير في النفقات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، مما أثر على الميزانية الإسرائيلية ومنع الإصلاحات التي كان من المتوقع أن تؤدي إلى دعم النمو الاقتصادي الإسرائيلي.
عدم انتظام العمال العرب وانخفاض عددهم إلى جانب ما أصاب بعض المصانع الإسرائيلية من عمليات تخريب متعمدة، وإغلاق بعضها بسبب إفلاسها، وإغلاق فروع البنوك الإسرائيلية في المدن الإسرائيلية.
إلا أن تأثير الانتفاضة على (إسرائيل) تجاوز البعد الاقتصادي إلى الأبعاد التالية:
جاءت الانتفاضة لكي تعكس الأوضاع التي كانت سائدة من قبل لدى الإسرائيليين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فبعد سنوات الاحتلال الطويلة شكل الفلسطينيون تحدياً مباشراً للإسرائيليين لم يكونوا قد تعودوا عليه من قبل، إذ تعود الإسرائيليون أن يواجهوا الفلسطيني الضعيف والمطيع للأوامر العسكرية، على الرغم من وجود أوجه المقاومة للاحتلال، ولم يتعودوا أن يتحداهم الفلسطينيون بهذا الشكل من القوة والعنف والاستمرارية. كان الجندي الإسرائيلي بملابسه العسكرية يثير الخوف عند بعض الفلسطينيين، وحصل العكس خلال الانتفاضة، إذ سقط حاجز الخوف عندهم، ورجموا الجنود المسلحين الذين يطلقون عليهم الرصاص بالحجارة والزجاجات الحارقة بكل شجاعة.
ولم يعد بمقدور الجندي الإسرائيلي أن يسير وحده في الشوارع، بل لا بد من أن يكون إما داخل سيارته أو يعمل من خلال دورية عسكرية مشتركة.انتقل الخوف الذي كان يشعر به الفلسطينيون إلى الإسرائيليين أنفسهم، ولم يعودوا يستطيعون أن يدخلوا المدن والقرى الفلسطينية المحتلة عام 1967، من دون وجود الجيش الإسرائيلي لحمايتهم، ذلك لخشيتهم من التعرض لهجوم القوات الضاربة للانتفاضة.
أحدثت الانتفاضة قلقاً كبيراً لدى الإسرائيليون بسبب التأثير الإيجابي الذي أحدثه لدى الرأي العام الدولي، ظهرت (إسرائيل) على حقيقتها، بأنها دولة محتلة تمارس القمع والإرهاب ضد الفلسطينيين، وقارنت وسائل الإعلام الغربية ممارساتها بممارسات النازيين ضد شعوب الدول التي كانت تحتلها ألمانيا النازية.حدث استقطاب كبير داخل المجتمع الإسرائيلي، وانقسم الإسرائيليون إلى فريقين، بين مؤيد ومعارض للممارسات الإسرائيلية، مما أحدث صراعاً داخلياً أدى إلى إعتداء المتطرفين الصهاينة على أنصار حركات السلام الإسرائيلية.
زعزعت الانتفاضة الرأي العام الإسرائيلي، إذ كان الإسرائيليون يعتقدون أنهم قادرون على السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة من دون ثمن، ولكنهم اكتشفوا من خلال الانتفاضة أن عليهم أن يدفعوا الثمن غالياً جداً إذا أرادوا استمرار احتلالهم للأراضي الفلسطينية. كما أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عجزت عن فرض الحل العسكري على الانتفاضة على الرغم من قوتها وتفوقها العسكري على الفلسطينيين.
وعلى الصعيد الفلسطيني:
فقد أسهمت الانتفاضة في تبديد الاعتقاد الإسرائيلي الذي كان سائداً بأنه من الممكن استمرار احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة من دون مقاومة الفلسطينيين، ورفض الفلسطينيون الخضوع والذوبان في الكيان الصهيوني. وزادت الانتفاضة في الانتماء الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج، وفي خلق هوية فلسطينية مناضلة ضد الاحتلال، وتوحيد جميع الفصائل الفلسطينية تحت قيادة واحدة. وفي تعزيز مكانة منظمة التحرير الفلسطينية التي قادت الانتفاضة ودعمتها، مما أجبر (إسرائيل) على الدخول في مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين والدول العربية.
وعلي الصعيد الدولي:
أسهمت الانتفاضة في فضح (إسرائيل) أمام الرأي العام الدولي، وأظهرتها على حقيقتها، بأنها دولة عدوانية، تقوم باستعمال القوة العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين. وتغيرت صورة (إسرائيل) لدى الرأي العام العالمي، الذي اكتشف أنها ليست الحمل الوديع المهدد من الدول العربية والفلسطينيين، بل أنها هي التي تهدد الآخرين بممارستها غير الإنسانية.
كما دفعت الانتفاضة الدول الأجنبية على إطلاق المبادرات الدولية من أجل التوسط بين منظمة التحرير الفلسطينية و(إسرائيل) وقام كل من وزيري خارجية الولايات المتحدة جورج شولتز، بمبادرة عام 1988، وجيمس بيكر بمبادرة أخرى عام 1991، لإيقاف الانتفاضة والعمل من أجل مساعدة (إسرائيل) على الخروج من المأزق الذي وجدت نفسها تواجهه، وإيجاد حل سياسي لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، مما مهد الطريق لانعقاد مؤتمر مدريد وبدء مفاوضات التسوية العربية – الاسرائيلية.