أفاد خبير قانوني، بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على أن تتصرف بوصفها قوة عسكرية مهيمنة على العالم، مشيرا إلى أن تلك الأيام قد ولت الآن.
وذكر رامون ماركس -وهو محامٍ دولي متقاعد في نيويورك- في مستهل مقال له بمجلة ناشونال إنترست الأميركية، أن “الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ أن تولى مهام منصبه بدأ يرفع عقيرته بالشكوى من عدم وفاء الدول الأوروبية المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالالتزمات المنصوص عليها في اتفاقية عام 2014 والتي تقضي بتخصيص 2% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي في ميزانياتها الدفاعية بحلول عام 2021”.
وقد كانت مساهمة ألمانيا هي الأسوأ -بحسب الكاتب- إذ لم تنفق سوى 1.3% من إجمالي ناتجها المحلي على الدفاع، ولم تتعهد باستيفاء شرط تخصيص 2% الوارد في الاتفاقية المذكورة حتى عام 2031.
وقد ظلت إدارة ترامب تتعرض للانتقادات لممارستها ضغوطا مفرطة على حلفائها الأوروبيين لدفعهم لتحمل مزيد من المسؤولية للدفاع عن أنفسهم.
ووفقا لماركس، فإن نبرة خطاب ترامب الحادة إزاء ذلك اعتُبرت دلالة على أن اهتمام الولايات المتحدة بحلف الناتو يتراجع، مما حدا بالبعض إلى إبداء مخاوفهم من أن واشنطن قد تتخلى عن الحلف، أو تقلص إلى حد كبير التزامها الإستراتيجي تجاهه على المدى الطويل.
وينتقد مؤيدو حلف شمال الأطلسي التقليديون النبرة الحادة لإدارة ترامب تجاه الناتو. ويعتقد كثير منهم بضرورة بقاء مساهمة أميركا العسكرية في الحلف عند مستوياتها الحالية للمساعدة في استقراره.
وسبق لمستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل أن ألمحت إلى أن موقف واشنطن ربما يدفع أوروبا للانجرار نحو تبني نمط جديد من الحياد. فقد صرحت عقب اجتماع لحلف الناتو ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في أواخر مايو/أيار الماضي “يمكنني أن أقول فقط إننا نحن الأوروبيين يجب أن نأخذ مصائرنا بأيدينا”.
وقالت ميركل إن ذلك بالطبع لا يمكن أن يتم إلا بروح الصداقة مع الولايات المتحدة وبريطانيا ومع دول أخرى بما فيها حتى روسيا.
وذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن الإدارة الأميركية الحالية تنوي الانسحاب من الناتو عرفانا منها لروسيا على مساعدتها المزعومة لترامب في الفوز بانتخابات 2016 التي أوصلته إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة.
ويرى رامون ماركس في مقاله بمجلة ناشونال إنترست أنه على الرغم من أن الضغوط التي تمارسها واشنطن على حلفائها الأوروبيين ربما كانت في الماضي أشد وطأة مما عليه الآن، فإن حقيقة الأمر أن إدارة ترامب اتخذت أيضا مواقف قوية ضد روسيا ودعما لحلف الناتو تفوق كثيرا أي عبارات لطيفة تفوه بها ترامب عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأشار الكاتب إلى أن الولايات المتحدة ألغت معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا، وأعلنت نيتها الانسحاب من اتفاقية السماوات المفتوحة أو الأجواء المفتوحة التي تم إقرارها في عام 1992 من قبل 27 دولة في العاصمة الفنلندية هلسنكي.
ليس ذلك فحسب، بل إن الولايات المتحدة هددت بعدم تمديد أجل المعاهدة الجديدة للحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية (ستارت الجديدة) -التي أُبرمت مع روسيا يوم 8 أبريل/نيسان 2010 في العاصمة التشيكية براغ- ما لم تنضم إليها الصين وتوافق موسكو على تعزيز آليات التحقق من تطبيقها.
ولا تزال الإدارة الأميركية ترفض تقليص منظوماتها الدفاعية الصاروخية التي طالما عارضتها روسيا بشدة باعتبارها أسلحة مزعزعة للاستقرار.
وكان ترامب قد فرض خلال الشهر الأول من فترة رئاسته عقوبات على روسيا لضمها شبه جزيرة القرم إليها. كما عاقب بعد ذلك أصدقاء بوتين الموسرين، وفرض على موسكو عقوبات لتدخّلها في الانتخابات الأميركية، وأمر بإغلاق المقار الدبلوماسية الروسية في مدن نيويورك وسان فرانسيسكو وسياتل وواشنطن دي سي.
وترامب هو نفسه الذي طرد 60 دبلوماسيا روسيا من الولايات المتحدة على خلفية قضية تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا يوم 4 مارس/آذار 2018.
وإلى جانب عقوباتها على روسيا وتراجعها عن نزع أسلحتها النووية، واصلت الولايات المتحدة إظهار دعمها القوي لحلف الناتو وأوروبا، إذ وقعت في عام 2018 اتفاقا مع بولندا بقيمة 4.75 مليارات دولار يقضي بنشر مزيد من أنظمة الدفاع الصاروخي من طراز باتريوت في مواجهة روسيا.
وفي ذلك العام نفسه نشرت الولايات المتحدة فرقة “سترايكر” القتالية في إطار برنامج “تعزيز الحضور المتقدم للناتو” بشرق أوروبا.
وأعلنت إدارة ترامب للتو خططا لسحب قواتها من ألمانيا وإعادة تمركزها في بولندا بالقرب من روسيا.
وينتقل رامون ماركس في مقاله إلى الحديث عن سياسة أميركا تجاه أوكرانيا. ويقول في هذا الصدد إن واشنطن ما فتئت تتفوق على الناتو وحلفائها الأوروبيين في دعمها لأوكرانيا التي تواجه ضغوطا من روسيا.
ويضيف أن الدعم الأميركي يمثل نسبة 90% من جملة المعونات العسكرية المقدمة لأوكرانيا.
حتمية جديدة
غير أن ثمة حتمية جديدة لإعادة التوازن في أوروبا بدأت بالبروز. ويعتقد كاتب المقال أن القذائف التقليدية الدقيقة التوجيه والأسلحة الإلكترونية والطائرات المسيرة والصواريخ والطائرات التي تفوق سرعة الصوت، كلها أحدثت ثورة في فنون الحرب.
على أن القواعد الأمامية للعمليات الأميركية المتمركزة لدى حلف الناتو تبدو معرضة لضربات استباقية من مثل تلك الأسلحة المتطورة أكثر من أي وقت مضى.
وتستطيع روسيا في دقائق أو ثوانٍ معدودة إطلاق وابل من الصواريخ وشن هجمات بطائرات مسيرة ضد كل القواعد والمقرات الأميركية في أوروبا، وذلك بالتزامن مع ضربات سيبرانية أو حتى فضائية.
إن التهديدات التي تمثلها تلك القدرات العسكرية الجديدة ستجبر الولايات المتحدة وحلفاءها على الجلوس معا لتقييم كيفية إعادة تنظيم بنية قواتها في أوروبا الغربية حتى تتمكن من الصمود في وجه أي هجمات، وردع أي تحديات جديدة.
ويقترح كاتب المقال على الولايات المتحدة ضرورة التحول إلى أن يكون لها قاعدة أصغر حجما في أوروبا، وهو ما سيضمن لها الصمود في وجه ضربات استباقية مباغتة.
وبإعادة بعض مواردها العسكرية في الخارج إلى الوطن وضمها إلى احتياطيها الإستراتيجي، سيكون من السهل على الولايات المتحدة الرد على هجوم صاروخي مباغت أو هجمات بطائرات مسيرة أو سيبرانية على دول الناتو الأوروبية.
ويخلص الكاتب إلى القول إن الاحتفاظ بقواعد عسكرية كبيرة في أوروبا قد يكون ضربا من الرفاهية فوق طاقة الولايات المتحدة وحلفائها.