عندما تؤكد الدول على رفض التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، فهذا التأكيد يأتي من تجربة مرة عاشتها الدول التي سمحت بالتدخل الخارجي او فُرض عليها التدخل الخارجي، والذي عادة ما ينتهي بخراب ودمار ذلك الدول، وتدفع عادة شعوبها اثمانا باهظة من امنها واستقرارها ووحدة اراضيها.
تتضاعف تكاليف التدخل الخارجي عندما تكون وراءه قوى كبرى عُرفت على مر التاريخ بعدم احترام الشعوب وسيادة الدول وجشعها واطماعها في خيرات الشعوب من نفط وغاز وثروات طبيعية ومواقع جغرافية استراتيجية تتحكم في اهم المضايق والممرات المائية.
الحالة التي تعيشها اليوم ليبيا الى جانب حالة اليمن وسوريا ومن قبلها الصومال، تعتبر من اهم تلك التجارب المرة التي تعيشها الدول التي سمحت او فرض عليها التدخل الخارجي، فجميع هذه الدول وشعوبها دفعت اثمانا باهظة من دماء ابنائها واستقرارها وسيادتها وباتت جغرافيتها مهددة بالتقسيم وشعبها مهدد بالتشرذم.
اذا ما ركزنا مقالنا هذا على الحالة الليبية، يمكننا ان نقول وبجرأة ان ليبيا في طريقها للتقسيم، وهو تقسيم بات واقعا يعيشه الشعب الليبي الذي تقسم وللاسف الشديد قبل جغرافيته، بفعل التدخل الخارجي، وزاد من حقيقة التقسيم انخراط دول اسلامية وعربية بقصد او دون قصد في عملية التقسيم هذه، بينما الدول الكبرى التي تقف وراء الجريمة الكبرى التي ترتكب ضد ليبيا كوجود وكشعب لا تظهر على مسرح الاحداث وتحاول الاختباء وراء قوى عربية واسلامية تعمل على تنفيذ اجندات تلك القوى الكبرى.
في بداية الامر تدخل حلف الناتو تحت غطاء عربي وفرته له الجامعة العربية بهدف اسقاط نظام معمر القذافي بذريعة تحرير الشعب الليبي من دكتاتورية القذافي ونشر الديمقراطية في ربوع ليبيا، ولكن لم يمر وقت طويل على سقوط القذفي حتى بدأ السلاح والرجال في الدخول الى ليبيا من قوى عربية واسلامية تحت اشراف امريكي وغربي واضح، ليتقاتل الليبيون تحت يافطات عريضة حتى انتهى بهم الامر بليبيا ان تتحول الى “ليبيا الشرقية وعاصمتها بنغازي” يحكمها اللواء حفتر المدعوم من مصر والامارات والسعودية، و “ليبيا الغربية وعاصمتها طرابلس” التي تخضع لحكومة “الوفاق الوطني” التي يغلب عليها التوجه الاخواني والمدعومة من تركيا وقطر، واللافت ان مريكا تشجع وتحرض الجميع دون ان تعمل وبشكل جاد على وضع حد للحرب الدائرة هناك منذ اعوام.
عندما بدات قوات اللواء حفتر بالهجوم على غرب ليبيا حتى وصل الى تخوم طرابلس بدعم مصري سعودي اماراتي ، ارسلت تركيا الاسلحة وخبراء اتراك واكثر من 10 الاف مرتزق سوري وتونسي للقتال الى جانب قوات حكومة الوفاق الوطني التي تمكنت من طرد قوات حفتر حتى وصلت الى تخوم مدينة سرت الاستراتيحية، عندها اعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ان الخط الممتد من سرت شمالا وحتى الجفرة جنوبا يعتبر خطا احمر بالنسبة لمصر وان بلاده ستتدخل في حال واصلت قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا وقطر هجومها على سرت والجفرة.
بعض المراقبين للشان الليبي يحملون السعودية والامارات مسؤولية دفع مصر للانزلاق في المستنقع الليبي من اجل التصدي لعدوهما المشترك تركيا، ولكن هذا الامر لا يرفع المسؤولية عن عاتق مصر التي كان بامكانها القفز فوق كل ما يجري لو كانت قد ضغطت على اللواء حفتر عندما كانت قواته تهدد طرابلس وتدفعه للتفاوض مع حكومة الوفاق الوطني التي كانت في وضع ضعيف قبل التدخل التركي.
الذين يحملون السعودية والامارات مسؤولية تحريض مصر للتدخل العسكري في ليبيا يستشهدون بالمفاوضات التي رعتها امريكا وبعثة الأمم المتحدة بين حكومة الوفاق والمؤسسة الوطنية للنفط التابعة لها، وبين حفتر وداعميه ، بشان استئناف إنتاج النفط ، بعد اغلاق قوات مواليه لحفتر مواقع انتاج النفط لعدة شهور، وتوصل الاجتماع الى نتيجة مفادها ان حفتر سيسمح بانتاج النفط وتصديره بدءا العاشر من شهر تموز/ يوليو الجاري، الا ان الامارات ، وفقا لما كشفت عنه المؤسسة الوطنية للنفط، هي التي ضغطت من اجل منع تنفيذ الاتفاق ، بينما المعروف ان ليس بامكان الامارات ان تُقدِم على تعطيل اتفاق رعته امريكا دون ان يكون للاخيرة مصلحة من وراء هذا التعطيل.
اليوم تدق تركيا مصر طبول الحرب على جانبي الخط الممتد من سرت الى الجفرة وسط ليبيا، وهي حرب في حال وقوعها ستكون لها تداعيات في غاية الخطورة، لكن اكثر هذه التدعيات خطورة سترتد على الشعب الليبي الذي سيكون الخاسر الاكبر، والخطر الاكبر الاخر سيكون “تقسيم” ليبيا الذي سيتحول حينها الى حقيقة واقعة، امام عين الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي والامم المتحدة.
*فيروز بغدادي