تواجهنا ونحن في معترك القراءة بحثا وتحقيقا ودراسة وتصنيفا، أسماءٌ شاخصة تركت آثارًا عميقة الغور في عالم المعرفة وفي حقولها المتنوعة، بعضها موغلة في التاريخ وأخرى من العصر الإسلامي الأول وثالثة من العصر الوسيط ورابعها من العصر الحديث أو هي معاصرة.
ولكل شخصية حضورها المعرفي، قد تأتي في دائرتها بجديد يكون أساسا وبابا يطل على أبواب أخرى من المعرفة، وقد تجدد ما كان قائما وتضيف، فيكون التجديد والإضافة تراكما علميا عال المقام، وسطورًا جديدة باهرة المرام، والبعض الآخر بخاصة في عالم اليوم يستنسخ ما كتبه الآخرون، فلا يأتي بجديد ولا ترقى إضافته إلى مستوى العطاء العلمي، وهؤلاء نسبة غير قليلة غزوا عالم الكتابة بخاصة مع توفر خدمة النشر الإلكتروني يسوّقون عبره بضاعتهم المزجاة الهجينة.
ومن الأسماء البارزة القلائل التي تركت بصمتها العميقة منذ قرون وإلى يومنا هذا، هو العلامة الحر العاملي محمد بن الحسن المولود في بلدة مشغر بجنوب لبنان سنة 1033هـ (1624م) والمتوفى في مشهد بخراسان سنة 1104هـ (1693م)، والعائد في سلسلة النسب الشريف إلى شهيد كربلاء عام 61 للهجرة الحر بن يزيد الرياحي.
هذه الشخصية العلمية العلمائية المتنوعة في المعارف بمشاربها ومساراتها كان محط يراع المحقق والفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي المتنوع في تأليفاته بمشارب العلوم العقلية والنقلية ومساراتها، فصدر له نهاية العام 2019م في بيروت كتاب “مع الحر العاملي في مسيرته العلمية” في 444 صفحة، تولى طباعته بيت العلم للنابهين، وكان لي شرف التقديم والتعليق عليه.
الشاهد الخلف
عندما شرعت بالتعليق والتهميش على كتاب “الحر العاملي في مسيرته العلمية”، واطلعت على نتاج هذا العلم العيلم، توقفت كثيرًا عند موقف الإمام الحسين(ع) مع الحر بن يزيد الرياحي يوم عاشوراء من سنة 61 للهجرة، فهذا القائد الأموي وهو من فرسان أهل الكوفة جعجع بموكب الإمام الحسين عليه السلام ومنعه من الحركة حتى جاءت جيوش بني أمية لتحاصره ثم تجهز عليه مع أهل بيته وأنصاره وتأسر عياله ونساء النبوة وبني هاشم، وحيث تقابل الجيشان صبيحة عاشوراء، جيش الحق وهو قليل العدد بالمئات في مقابل جيش الباطل بعشرات الآلاف، في تلك اللحظة الرهيبة يكتشف الحر الرياحي خطير ما أقدم عليه وتتراءى في ناظريه جنة الخلود عن يمينه وعن شماله جهنم المستقر الأبدي، فيميل إلى الإمام الحسين (ع) تائبا ويستشهد بين يديه.
ورحت أتساءل بعقلية الإنسان القاصر: ماذا لو لم يقبل الحسين عليه السلام توبة الحر الرياحي، وهو غير ملام إن رفضها؟
تلك نظرة إنسان القائد صاحب البصيرة والنظرة المستقبلية، وهذه نظرة الإنسان المحدود التفكير الذي لا ينظر إلى أبعد من قدميه، وكثير ما هم وإن ازدادت القنوات الفضائية والعمائم الفقاعية وهي لا تغني من الحق شيئا، وأعود أتساءل المرة تلو الأخرى: لماذا قبل الإمام الحسين(ع) توبة الذي حاصره وانتهى إلى مقتله وأهل بيته وأنصاره وأسر أهل بيته؟ ماذا لو ذهب الحر الرياحي إلى ربه أسيرًا بدم الحسين(ع)؟
بعض الإجابة تأتينا من مشغرة جنوب لبنان حيث مولد الشيخ الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة وهو تراث محمد (ص) وآل محمد (ع)، وبعض الإجابة تأتينا من الكاظمية وسط العراق حيث مولد السيد عبد الحسين شرف الدين (1290- 1377هـ) صاحب كتاب المراجعات وهو تراث النبوة والإمامة، فالأول هو حفيد الحر بن يزيد الرياحي، والثاني هو سبط الحفيد، وكلاهما قدّما للإسلام والبشرية خدمات علمية وعملية جليلة.. عطاء غير مجذوذ لا زال يؤتي أكله، ولا أظن أن العطاء ينقطع معينه حتى قيام الساعة.
من هنا فقد اخترت لمقدمة الكتاب عنوان: “الشاهد الخلف لخير شهيد سلف”، فالحر العاملي هو الخلف العالم الشاهد الذي تنقل في الأصلاب من ظهر الشهيد السلف الحر الرياحي.
محطات الحر العاملي
“مع الحر العاملي في مسيرته العلمية”، هو عنوان الكتاب الذي اختاره مؤلفه، للولوج في تلافيف شخصية يقف لها العلماء لنتاجاتها العلمية والمعرفية إكراما وإجلالا، جمع من كل علم روضة ازدانت بها المكتبة الإسلامية، وما من طالب علم بلغ مرتبة الإجتهاد أو دونها أو فوقها وإلا وهو ضيف على المائدة العلمية لهذا العالم الجهبذ.
ومع هذه المكانة العلمية التي عليها العلامة الحر العاملي، إلا إنَّ ما تم التأليف فيه يعتبر من اليتم المعرفي رغم ما كتب وصنف عن مؤلفاته ومن وحيها، وجديد الكرباسي حسب اطلاعنا هو ثالث ثلاثة من المؤلفات المستقلة حول شخصية الحر العاملي إلى جانب كتاب “الحر العاملي” الذي أصدرته هيئة علماء جبل عامل في بيروت سنة 1999م، وكتاب “الحر العاملي” للشيخ حسين الخشن الصادر سنة 2009م.
ويتابع المحقق الكرباسي في مؤلفه تتابع السيرة الذاتية للحر العاملي برؤية تحليلية ومنهج استقرائي وقراءة متمعنة للمحطات الحياتية التي لها الدور المركزي في خلق مسيرة المترجم له العلمية الوضّاءة، فاستعاض المؤلف عن الفصول وتفريعاتها بعناوين رئيسة وفرعية حبّر تحت سقفها ما انتهى إليه علمه فكانت على النحو التالي:
الإستهلال: رغبة يسوقها الحس المعرفي لبيان سيرة الأعلام الذين تركوا بصمة في سجل الأمة والتاريخ ولا يزال شريان علمهم ينبض بالحياة.
الحر العاملي: يبحر بنا المؤلف لمعرفة نسب هذا العيلم من مولده ونشأته وسلفه وذويه من الوالدين وإخوانه وأعمامه ومن يلوذ بهم، وكل واحد منهم له في سوق العلم بضاعة.
معاصروه: نستبين أهم الشخصيات التي عاصرها الحر العاملي من علماء أعلام وقادة حكّام.
حياته العلمية: نتوقف عند أهم “مشايخه” وأبرز “تلامذته”، وكل واحد منهم له في مضمار المعرفة جواد ضامر وفارس مغامر.
مؤلفاته: نستطلع (79) مؤلفًا ومصنّفًا، استطاع المحقق الكرباسي الوقوف عليها، شارحًا لها، ومعلقًا ومعقبًا، وعدد غير قليل منها استخرج معالمها من بطون المصنفات، في جهد معرفي دال على نفاذ البصيرة المعرفية.
أشعاره: وحيث كان الحر العاملي من الشعراء إلى جانب الفقه، فإن الأديب الكرباسي استعرض جانبا من مقطوعات وأبيات من شعره في أغراض مختلفة، ولكن ما يحز في النفس أن ديوانه الثر لم ير نور التحقيق والنشر، وحري بهذه القامة اللمّاعة أن ترى أبياته نور الطباعة.
نثره: وحيث كان الحر العاملي من الأدباء إلى جانب الأصول، فإننا نقف على جوانب من أدبه الثر استل المؤلف عباراتها من بطون مؤلفاته.
الوصية النافذة: دروس وعبر لمن يريد ولوج دروب الحياة وتسلق درجات العلم دون أن يغتر، وهو وصيته لابنه .. وصية نافذة لكل من يهوى سعادة الدارين وخير العباد.
حياته الإجتماعية: محطات عامرة مزدانة من سيرته الحياتية.
أسفاره: عبرة لكل من يرمي نيل المعالي، حيث هاجر مسقط رأسه لبنان الى العراق ثم إصفهان وبعدها مشهد وفيها مسكنه وميدان علمه وعمله حتى رحيله ومزار قبره، وما بينهما زار العراق والحجاز.
وفاته: يمثل الحر العاملي أبرز مصاديق قول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): (إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة، لا يسدها شيء إلى يوم القيامة)، والعزاء أن ما تركه من مؤلفات جمة ثرية هو بعض البعض من الشيء.
الثناء عليه ومترجموه: من قليل الواجب بل أقلّه، أن يُحسن إلى رافع راية العلم والمعرفة، بكلمات ثناء في حياته وبعد مماته، وقد أورد المؤلف (21) تقريظا لمن عاصره أو ترجمه، وكل تقريظ ينبيك عن عظمة هذا العبد الحر الذي له في كل علم ضرع ودر.
خلفه: بيان لأولاده من ذكور وأناث، إلى جانب ترجمة صهره وأحفاده وأسباطه، وزاد عليهم بترجمة عدد من المنتسبين لأسرته، وتميز المحقق الكرباسي عمن سبقه بأن استنطق ديوان الحر العاملي لترجمة ابنه “جعفر” الذي كان به يُكنى، ولم يفرد مترجموه من قبل اسمه ولا رسمه.
مذهبه: يناقش المؤلف حقيقة توجه الحر العاملي، ما إذا كان في الفقه أصوليا أو إخباريا، أو جمع بينهما، والجمع لا يدل على التمحض في مذهب الإخبارية.
مكتبة الحر العاملي: حديث شيق، فتأليفاته واعتماده على مئات المصادر المراجع التي تحت يده، دلالة على حجم مكتبته الخاصة في زمن لم تكن ماكنة الطباعة تعرف طريقها الى بيوت العلماء، ولا العلماء إلى صرير أسنان تُرسها وعجلتها أسمع.
وقد ضمت مكتبته الكثير من المخطوطات، وهنا قد يقع الخلط ونسبة الكتاب، عند تداول المخطوطات الخاصة بالحر العاملي، ولا سيما وأنه رحمه الله كان في بعض فترات حياته لعدم وجود المطابع كباقي العلماء ينسخ كتب الآخرين ليستفاد منها وهو يشير إلى كاتبها إما في بداية الكتاب أو في نهايته أو في الحاشية، وعندما تقع في أيدينا اليوم، يسقط البعض في خطأ النسبة، وقد حصل ذلك بالفعل، التفت إليها المحقق الكرباسي عند بيان كتاب “أشكال التأسيس”.
ما صُنف في شخصه: شحة في التأليف ظاهرة، نرجو أن يكون هذا الذي بين اليدين فاتحة خير للغوص في بحر شخصية الحر العاملي ومسيرته العلمية.
ما صُنِّف في كتاب “تفصيل وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة”: الجم الكثير من الكتب، وقف المؤلف بحسّه المعرفي على (35) منها، ما بين شرح وحاشية وتعليق وفهرسة واستدراك ونظير ذلك، لهذا الكتاب الذي ألفه الحر العاملي.
مؤلفات من وحي كتاب “أمل الآمل في علماء جبل عامل”: جملة من الكتب، وقف الكرباسي على (27) منها، ما بين تتميم وتكملة واستدراك وتذييل وحاشية وتعليق ومنتخب وملحق، ونظير ذلك لهذا الكتاب الذي يمثل تجربة جميلة خاضها الحر العاملي في ترجمة علماء منطقته.
مؤلفات من وحي كتاب “بداية الهداية”: جملة من الكتب، وقف المؤلف على (22) منها، ما بين ترجمة وحاشية وشرح وكشف، ونظير ذلك.
مؤلفات من وحي كتاب “الصحيفة السجادية”: جملة من الكتب، وقف المؤلف على ثمانية منها، ما بين تنظيم ودليل وشرح وتحقيق، ونظير ذلك.
مؤلفات من وحي كتاب “هداية الأمة إلى أحكام الأئمة”: جملة من الكتب، وقف المؤلف على سبعة منها، ما بين شرح وحاشية وتعليق، ونظير ذلك.
مؤلفات من وحي كتاب “الجواهر السَّنيَّة”: جملة من الكتب، وقف المؤلف على خمسة منها، ما بين ترجمة وتلخيص ومنتخب، ونظير ذلك.
مؤلفات من وحي كتاب “من لا يحضره الإمام”: جملة من الكتب، وقف المؤلف على أربعة منها، ما بين ترجمة وحاشية ومختصر.
ترجمة المؤلف بقلمه: نتابع ترجمة الحر العاملي كما كتبها بنفسه سنة 1097هـ في كتابه أمل الآمل، وقد أكثر من بيان نماذج من شعره، أرجعها المحقق الكرباسي بجهد معرفي وأدبي إلى الديوان المخطوط وصفحاته مع بيان مطالع القصائد وعدد أبيات كل قصيدة أو مقطوعة.
ومن جميل ما أورده الحر العاملي هو ترجمته لسيرته الذاتية، ليكسر بذلك الطوق الذي وضعه العلماء حول أنفسهم وهم يترجمون في مؤلفاتهم لآخرين، فمن ترجم لنفسه أراح واستراح، وأما وجهات النظر حول شخصية المترجم له فهي أمر خاص بكل كاتب وناقد يتناول سيرة المترجم وأفكاره ومواقفه وتأليفاته، وهو أمر مشروع بل وضروري إذا كان فيه خدمة العلم والعلماء.
وانتهى المؤلف إلى بيان بعض ما يخص العلامة الحر العاملي من أخبار ومؤسسات قائمة باسمه، فضلا عن مجموعة صور حاكية عن شخص المترجم له والمدن التي حط بها مركبه ومرقده الشريف.
نرجو من واهب العلم والمعرفة الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، أن ينفعنا وسائر القراء بما جاد به بنان الحر العاملي، وحبَّره المحقق الكرباسي، وتطفّل عليهما صاحب المقالة بشحيح البيان، وأن نكون من زمرة الباذلين في عباده زكاة العلم، على قلة الباع وقصر اليراع.
د. نضير الخزرجي
المصدر: الرأي الآخر للدراسات- لندن