تتوعد إدارة الرئيس دونالد ترامب سوريا وحلفاءها في لبنان وايران بـ”عقوبات خانقة” بعد اسبوعين، حيث من المقرر البدء في تطبيق “قانون قيصر” الذي اقره الكونغرس بمجلسيه في كانون اول (ديسمبر) الماضي.
الهدف من هذا القانون خنق سوريا، والحاق اكبر قدر من الضرر الاقتصادي بداعميها، وخاصة في لبنان وايران وروسيا، وكل الجماعات والشركات والافراد التي تمولها، وتتعاون تجاريا معها، وتشارك في عملية إعادة الاعمار والبنى التحتية وإنتاج الغاز والنفط المحلي.
“قيصر” الذي حمل هذا القانون اسمه هو المصور العسكري السوري الذي انشق بمساعدة وكالات مخابرات أمريكية، وهرّب 55 الف صورة توثق اعمال التعذيب في السجون والمعتقلات السورية،حسب زعمه ، وكان يتردد على الكونغرس بشكل مستمر بعد حصوله على حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة.
تأثير هذا القانون على سوريا سيكون محدودا لأنها واقعة ومنذ عقود تحت مجموعة من العقوبات الامريكية نجحت في امتصاص آثارها رغم الحرب المستمرة منذ تسع سنوات، كما انه لن يؤثر تطبيق القانون بشكل كبير على ايران، والخط البري الذي يربط طهران ببيروت مرورا بسوريا والعراق، فايران تواجه اجراءات الحظر الامريكية منذ اكثر من ثلاثين عاما، ولكن من غير المستبعد ان يكون له تأثير على لبنان بسبب وجود جهات سياسية على ارضه، ترحب بالقانون وتطبيقاته، وتشارك في مؤامرة تدمير سوريا وتفكيكها، لأنها رفضت توقيع أي معاهدات سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مثلما رفضت التخلي عن حليفتها ايران والانضمام الى الحلف الأمريكي المضاد لها رغم عشرات المليارات المعروضة في المقابل.
ما يريده هذا القانون، والإدارة الامريكية الداعمة له، “تركيع” لبنان و”ترويضه” باعتباره الحلقة الرخوة، والأضعف، تحقيق ثلاثة اهداف رئيسية:
الأول: اغلاق غير مباشر للحدود السورية اللبنانية، من خلال وضعها تحت رقابة قوات الطوارئ الدولية لمنع أي تعامل تجاري او عمليات تهريب عبر هذه الحدود التي تعتبر شريان الحياة لسوريا في ظل العقوبات وإجراءات الحصار.
الثاني: ممارسة كل الضغوط الممكنة على الداخل اللبناني لنزع سلاح المقاومة، وحزب الله تحديدا، بما في ذلك تصعيد الفتنة الطائفية، والدفع بالمناوئين للحزب بالنزول الى الشوارع في احتجاجات شعبية، وتصعيب الظروف المعيشية للتعجيل بهذه الاحتجاجات واتساع دائرتها وتوجيه ضربة قاصمة للاقتصاد اللبناني وعملته الوطنية.
الثالث: اجبار السلطات اللبنانية على الدخول في مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي وفق شروط الأخيرة وبما يؤدي الى حصول تل ابيب على اكبر قدر ممكن من الغاز اللبناني.
فرص هذا القانون “الترهيبي” في النجاح لن تكون افضل من قوانين سابقة مماثلة، سواء على سوريا، او ايران، او لبنان، بل ربما يؤدي تطبيقه الى نتائج عكسية تماما، من حيث صب الزيت على نيران التطرف وجماعاته، وخلق جماعات راديكالية تستهدف المصالح الامريكية والغربية مثلما حدث في حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فالخنق يؤدي الى الانفجار، والنار تحت الرماد، والاستكبار الأمريكي بلغ ذروته، وضبط النفس اقترب من نهايته.
اجراءات الحظر الامريكية الشرسة على ايران حولتها الى قوة إقليمية عظمى تتربع على ترسانة من الأسلحة الحديثة، من صواريخ وغواصات وطائرات مسيرة، وكلها بتصنيع ذاتي، فالحصار والحظر الاقتصادي هو ام الاختراع وابوه، ولعل اسقاط طائرة “الغلوبال هوك” الامريكية المسيّرة، واطلاق قمر صناعي عسكري على ارتفاع 442 كيلومترا، وارسال خمس ناقلات نفط الى فنزويلا الحديقة الخلفية للولايات المتحدة التي لم تجرؤ على اعتراضها خوفا من العواقب الا احد الأمثلة التي تؤكد ما ذكرناه آنفا.
أمريكا التي تواجه انتفاضة شعبية متأججة ضد العنصرية والدولة العميقة، على أرضية اغتيال الشاب جورج فلويد، جعلت ترامب يدخل التاريخ كثاني رئيس يهرب مثل الارنب الى قبو البيت الأبيض خوفا من اقتحامه من قبل المحتجين (الأول جورج بوش الابن اثناء هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر)، أمريكا ليست أمريكا التي نعرفها قبل هذه الانتفاضة، وهزيمتها بالتالي في الجولة الأولى من الحرب الباردة ضد الصين (معركة كورونا)، أمريكا اليوم وتحت قيادة رئيسها المهرج ترامب، تخرج من فشل داخلي او خارجي لتواجه آخر، حيث فقدت هيبتها، وربما زعامتها، ومن المحتمل ان تفقد وحدتها الداخلية، حيث بدأ العد التنازلي لتفككها نتيجة لعنصريتها وافتضاح كل اكاذيبها حول المساواة والحلم الأمريكي، وانقلب السحر على الساحر.
سوريا التي هزمت المؤامرة التي ارادت تقسيمها وتدمير أسس الدولة فيها، وصمدت اكثر من تسع سنوات، ستهزم “قانون قيصر” أيضا، لان كلمة الاستسلام ليست موجود في “قاموسها” وادبياتها، وحلفاؤها في لبنان لن يرفعوا الرايات البيضاء، ويتخلوا عن سلاح المقاومة، ويتنازلوا عن نفطهم وغازهم للعدو الإسرائيلي.. والأيام بيننا.
* عبد الباري عطوان