ترجّح التوقّعات الإحصائية والبحثية الإسرائيلية أن يتزايد التعداد السكاني للعرب إلى درجة تجعل نسبة اليهود أقل من 50% بحلول العام 2020، وذلك إذا استمرّت الهجرة المعاكسة، وتأزّمت الأوضاع الأمنية والسياسية، وتعاظَم دور المقاومة في مواجهة الاحتلال.
وعن أسباب هذه الأرقام، تحدّثت وسائل إعلام صهيونية عن أن اليهود يعيشون حالة من النفور داخل “إسرائيل”، لعدد من الأسباب، منها أن حياتهم معرَّضة للخطر، وخصوصاً أن بعض المستوطنات تقع خارج نطاق الجدار العازل الذي تبنيه دولة الاحتلال، وعدم شعورهم بالانتماء إلى الأرض والبلد، وشعورهم بسيطرة الهوية العربية على الأرض، وهو ما يدفعهم إلى النظر في مغادرة “إسرائيل” إلى أيّ جهة أخرى.
ولمواجهة هذه الهواجس، تسعى “الحركة الصهيونية” التي تقدِّر أن 43% فقط من يهود العالم يقيمون في “إسرائيل” إلى تكثيف حملات الهجرة، لجذب نحو 300 ألف يهودي من الأرجنتين وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا وأثيوبيا والهند، لتوطينهم في فلسطين التاريخية.
وفي استعراض لطبيعة الهجرة المعاكسة، لا بدّ من الرجوع إلى بعض الوقائع، إذ إنّه منذ أوائل القرن العشرين رأت الحركة الصهيونية في هجرة اليهود إلى فلسطين هدفها الاستراتيجي لتحقيق إنشاء “الدولة”، وهو الذي تمّت ترجمته عند نشوء الكيان في العام 1948، من خلال دعوة اليهود، أينما كانوا، للمجيء إلى الأرض الموعودة.
مرّت عملية استقدام اليهود إلى فلسطين بمراحل ذهبية، إذ اعتبرت الحركة الصهيونية أن الهجرة إلى فلسطين هي الرافعة الأساسية، وهو ما منحها قيمة عليا لديها، إلى درجة أنها ألصقت بالأمر مجموعة من المصطلحات، على رأسها تعبير “علياه”، أي الصعود إلى “دولة إسرائيل”، مقابل توصيف المتخلّين عن الفكرة أو الذين يفكرون مجرد التفكير في النزوح بالـ”يوريديم”، وهو توصيف ازدرائي يمثل، في رأي الحركة الصهيونية، خيانة للفكر الصهيوني.
انطلاقاً من هذه التوصيفات، من الواضح أنّ الهجرة إلى فلسطين تمثل قمّة الالتزام بالفكر الصهيوني، وهي الأساس التطبيقي الذي قام عليه الكيان الصهيوني ولا يزال.
وإضافة إلى الهجرة، تمثل الأرض والدولة بالنسبة إلى الحركة الصهيونية عوامل أساسية لبقاء الكيان واستمراره، وهي العوامل التي يجب تركيز البحث عليها لوضع أسس المواجهة.
في المبدأ، يشكّل عامل الهجرة العامل الأساسي، الذي إذا سقط سقطت الدولة وفُقدت الأرض. لهذا، فإن حجم المعلومات المتعلقة بموضوع الهجرة والهجرة المعاكسة تكاد تكون شبه غائبة إلا ما يتم السماح بنشره، وهو يكفي، في رأيي، للدلالة على طبيعة المشكلة، لا بل المأزق الذي تعيشه قيادة الكيان الصهيوني الحالية في زمن تغيّرت فيه موازين القوى والمعادلات، ولم يعد للكيان الصهيوني القدرات السابقة على إخضاع المنطقة، كما كان عليه الأمر قبل العام 2000، الذي يشكل، في رأيي، المفصل الأساس في مجمل المتغيرات الحاصلة، إذ كنا أمام الانسحاب القسري الأول لجيش الاحتلال من جنوب لبنان بفعل المقاومة العسكرية، وهو الأمر الذي تكرّر في غزة في العام 2005 أيضاً بفعل المقاومة العسكرية.
الانسحاب من لبنان ومن غزة شكّلا ضربة قاسية على رأس العقيدة العسكرية الصهيونية التي كانت قائمة على مبدأ الإخضاع بقوة النار والحرب المتحركة السريعة القائمة على ثنائي الطيران والمدرعات.
بنتائج هذا الانسحاب من لبنان وغزة، يمكن القول إنها كانت الهجرة المعاكسة الأولى من أرض هي جزء من الدولة الموعودة بقوة المقاومة.
ورغم اقتصار الهجرة المعاكسة على القوات العسكرية، ذراع الكيان الضاربة، فإنها تركت انعكاسات سلبية في الداخل الصهيوني، ارتبطت بانخفاض المعنويات وزيادة منسوب فقدان الثقة بقيادة الكيان والجيش.
البداية الأخطر على تنامي فكرة الهجرة المعاكسة كانت بدايتها بعد مواجهة تموز 2006، وأنا هنا أسميها مواجهة تموز، وليس عدوان تموز، لأننا حينها لم نكن نتلقى الضربات من دون أن نستطيع ردها، رغم أن الرد كان نسبياً لا متماثلاً، ولكنه أتى بمردود إيجابي كبير جعل من مجتمع المقاومة كتلة أكثر تماسكاً وأكثر ثقة بقيادة المقاومة وقدراتها، مقابل هزيمة محققة وفشل ذريع لقيادة الكيان الصهيوني.
أما لماذا شكَّل العام 2006 البداية الأخطر على استقرار الكيان؟! فكلنا نذكر أن المقاومة استمرت في إطلاق الصواريخ حتى لحظة وقف إطلاق النار، وبالوتيرة المقرّرة، رغم العدد المحدود من الصواريخ مقارنة بحجم الكتلة النارية الهائلة التي صبّتها الطائرات والمدفعية الصهيونية.
والأمر الأهم هو ما فعلته صواريخ المقاومة في البعد المرتبط بأسس نشوء الكيان، فقد نزح أكثر من نصف سكان المستوطنات الشمالية إلى وسط فلسطين المحتلة، وبقي النصف الآخر قابعين في الملاجئ طيلة 33 يوماً، والأهم هو الأعداد التي نزحت نهائياً من فلسطين المحتلة إلى البلدان التي أتت منها أو إلى بلدان أخرى، ويقدر عدد هؤلاء بين الأعوام 2006 و2009 بـ120 ألف مستوطن، إذ كشفت معطيات “إسرائيلية” عن تسجيل ما وصف ميزان “هجرة سلبي” لأول مرة منذ العام 2009 داخل الكيان الصهيوني، إذ فاق عدد الصهاينة الذين تركوا فلسطين المحتلة أعداد من هاجروا إليها.
ووفق معطيات صادرة عن الدائرة المركزية للإحصاء الإسرائيلي، ففي العام 2015 انتقل إلى خارج فلسطين المحتلة نحو 16.700 إسرائيلي، غالبيتهم عائلات، في حين هاجر إلى “إسرائيل” 8500 إسرائيلي فقط بعد فترة تزيد على عام خارج فلسطين المحتلة.
وتتّصل معطيات دائرة الإحصاء المركزية بالعام 2015، وذلك بسبب الانتظار مدة عام كامل من أجل فحص ما إذا كانت معيشة الإسرائيليين خارج فلسطين المحتلة تزيد على مدة عام، وهي المدة التي تشير إلى انتقال العيش على المدى البعيد.
وجاء الحديث عن العدد الأقل من الإسرائيليين الذين هاجروا للعيش في “إسرائيل” مرة أخرى خلال الأعوام الاثني عشر الأخيرة، حيث إنّ أعداد الإسرائيليين الذين يقرّرون الهجرة مرة أخرى إلى فلسطين المحتلة في تراجع مستمر منذ العام 2012.
وتبيَّن أن نسبة الذين يغادرون “إسرائيل” اليوم تصل إلى 2 من كل 1000، في حين أن نسبة الذين يهاجرون مرة أخرى إلى “إسرائيل” تصل إلى 1 من كل 1000.
وأشارت المعطيات إلى أن أكثر من نصف الصهاينة الذين تركوا فلسطين المحتلة ولدوا خارجها، وهاجروا إليها من أوروبا (64%)، ومن أميركا الشمالية وأستراليا (25%)، ومن دول آسيا وأفريقيا (11%).
وبحسب معطيات الدائرة المركزية للإحصاء، فإنه منذ العام 1948 وحتى نهاية العام 2015، ترك فلسطين المحتلة 720 ألف صهيوني، ولم يعودوا إليها، ويشمل هذا العدد الذين توفوا خارجها خلال تلك المدة.
الهجرة المعاكسة لم تقتصر على الناس العاديين، بل وصلت إلى الاختصاصيين وحاملي شهادات الدراسات العليا، ففي دراسة أعدها الخبير الاقتصادي والمحاضر في جامعة تل أبيب، البروفيسور دان بن دافيد، فإنه في العام 2017، كل 4.5 من الأشخاص الذين يحملون ألقاباً جامعية وغادروا “إسرائيل”، جاء إليها مقابلهم شخص واحد فقط، بينما كانت هذه النسبة قبل ذلك بثلاثة أعوام 2.6.
كذلك، تبيّن أنه كلما كانت الجامعة الإسرائيلية مرموقة أكثر، ترتفع نسبة خريجيها الذين يغادرون من أجل العمل في الخارج، وهذا يسري على مجالات التعليم أيضاً، حيث إن أعلى نسبة بينهم من حملة الشهادات في العلوم الدقيقة والهندسة؛ الأشخاص الأكثر أهمية لمستقبل الاقتصاد الإسرائيلي. وأكدت الدراسة ازدياد عدد الإسرائيليين الذين يدرسون الطب في الخارج، وكثيرون بينهم لا يعودون إلى “إسرائيل” بعد إنهاء دراستهم.
ووفقاً لتقرير صادر عن دائرة “الإحصاء المركزية الإسرائيلية”، فإن 2340 إسرائيلياً يحملون شهادة الدكتوراه يعيشون ويعملون في خارج “إسرائيل”، غالبيتهم في الولايات المتحدة الأميركية، من بين قرابة 33 ألف أكاديمي يحملون شهادات إسرائيلية ويعيشون اليوم في الخارج.
وبحسب الدائرة، فإنه خلال ولاية نفتالي بينيت كوزير للتربية والتعليم ورئيس لمجلس التعليم العالي، غادر “إسرائيل” عددٌ أكبر من الأكاديميين ممن عادوا إليها.
ويضيف التقرير: “11% من حملة شهادات الدكتوراه الإسرائيليين يعيشون ويعملون اليوم خارج “إسرائيل”، بينما كانت النسبة 9.9% في العام 2013. كذلك، فإن 24.2% من خريجي الجامعات الإسرائيلية في الرياضيات يعملون خارج البلاد، ومثلهم 20% من خريجي علوم الحاسوب، و17.5% من حملة الدكتوراه في الصيدلة، وبين 16% و17% من حاملي شهادة هندسة الطيران والهندسة الطبية الحيوية”.
ووفقاً لصحيفة “ذي ماركر” الأميركية، فإن ظاهرة هجرة الأدمغة في “إسرائيل” آخذة في الاتساع، ولا سيما أن أولويات الحكومات الإسرائيلية، وخصوصاً حكومات بنيامين نتنياهو، لا تضع مواجهة هذه الظاهرة ضمن سلّم أولوياتها.
وأضافت الصحيفة: “في العام 2017، كان 1725 باحثاً إسرائيلياً يعملون في الجامعات الأميركية، بزيادة 5.6% عن العام 2016″. وختمت: ” تم في السنوات الأخيرة بذل جهود من أجل لجم الظاهرة أو على الأقل إعادة قسم من المغادرين، لكن هذه الجهود لم تحقق نجاحاً، وهذه الظاهرة تتسع فحسب”.
أما دائرة “الإحصاء الإسرائيلية”، فتؤكد أن “هروب الأدمغة متواصل منذ العام 2003، وقد ارتفع بنسبة 26% منذ العام 2013. وفي السنوات الثلاث الأخيرة، تراجع عدد الأكاديميين الإسرائيليين في الخارج ممن يعودون إلى “إسرائيل”، والاتجاه بين الباحثين الإسرائيليين نحو الهجرة أكبر من العودة. ففي العام 2017، عاد 601 أكاديمي إلى “إسرائيل”، بينما عاد حوالى 700 في العام 2016، و900 في العام 2014.
وكان عدد الأكاديميين الذين غادروا “إسرائيل” في العام 2017 أعلى بـ2081 أكاديمياً من الذين عادوا إليها. وفي استخلاص لافت، حذرت دراسة لمؤسسة “شورِش” للأبحاث الاقتصادية الاجتماعية قائلة: “رغم أن عدد هؤلاء لا يزيد على 130 ألفاً، ويشكلون 1.4% فقط من السكان في إسرائيل، ورغم عددهم القليل، فإن التفوق النوعي للاقتصاد الإسرائيلي يستند إليهم، وحجم الهجرة بينهم ينبغي أن يثير قلق صناع القرار”.
وأضافت: “بسبب الحجم الهش لهذه المجموعة، فإن مغادرة كتلة مهمة بينهم، حتى لو شملت عشرات الآلاف، يمكن أن تنطوي على عواقب كارثية على إسرائيل كلها”.
إن مقاربة الموضوع تحتاج إلى جهد دائم ومتواصل وتوثيقي يمكّننا من متابعة تطورات الأمر والإحاطة بتفاصيله، من خلال التركيز على كل ما يصدر من دراسات حول الهجرة المعاكسة، وخصوصاً دائرة الإحصاء الإسرائيلية المركزية والدراسات والمقالات والمحاضرات التي يعدها ويقدمها الباحثون ومراكز الدراسات.
وإضافة إلى المتابعة، يجب، في تقديري، العمل على جدولة وتوثيق موضوع الهجرة إلى ومن فلسطين المحتلة بحسب السنوات، والخروج بخلاصة يتم اعتمادها كمرجع لبناء الخطط وإدارة الحرب الإعلامية والنفسية. وهنا يمكن التواصل مع الباحثين المتخصصين الذين اهتموا بالموضوع، وتحديداً مع الفلسطينيين منهم، والعمل على تفعيل اللقاء والحوار معهم، إضافة إلى الإيعاز إلى وسائل إعلام محور المقاومة بالاهتمام بالموضوع وإيلائه القدر المناسب من الوقت، سواء عبر حلقات وثائقية أو عبر إثارته في مواضيع الحلقات المرتبطة بمقاربة الصراع مع العدو.
عمر المعربوني
المصدر: موقع قناة الميادين